آدم بوسين

هل انتهى عصر العولمة؟

23 آذار 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

طغت العقوبات على الاقتصاد الروسي في آخر ثلاثة أسابيع. بعد فترة قصيرة على قرار الكرملين غزو أوكرانيا، بدأ الغرب يصادر أصول أغنى الأفراد المقرّبين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فحظر الرحلات الروسية في مجاله الجوي ومنع استفادة الاقتصاد الروسي من التكنولوجيا المستوردة. كذلك، عمد الأميركيون وحلفاؤهم إلى تجميد الأصول الاحتياطية في البنك الروسي المركزي واستبعدوا روسيا من النظام المالي "سويفت" ومن أهم مؤسسات التمويل الدولية، بما في ذلك البنوك الأجنبية وصندوق النقد الدولي. وبسبب هذه التحركات الغربية، انهارت قيمة الروبل الروسي، وزادت الاختلالات في جميع قطاعات الاقتصاد الروسي، وتقترب الحكومة على ما يبدو من التخلّف عن سداد ديونها بالعملة الأجنبية. في الوقت نفسه، اضطرت الشركات الغربية للهرب من البلد جماعياً بسبب استياء الرأي العام وخوفاً من التعرّض للعقوبات. قد تعجز روسيا قريباً عن إنتاج السلع الضرورية لقطاع الدفاع أو المستهلكين لأنها تفتقر إلى العناصر الأساسية لتصنيعها.

كانت ردة فعل العالم الديمقراطي على عدائية موسكو وجرائم الحرب التي ترتكبها صائبة من الناحية الأخلاقية، كما أنها تخدم مصالح الأمن القومي. لكن تترافق هذه الخطوات مع عواقب اقتصادية سلبية ودائمة قد لا تقتصر على الانهيار المالي في روسيا. في آخر عشرين سنة، بدأت نزعتان تستنزفان ظاهرة العولمة وتكبحان مسارها الذي يُفترض أن يكون جارفاً. أولاً، أنشأ الشعبويون والقوميون حواجز في وجه التجارة الحرة والاستثمار وموجات الهجرة ونشر الأفكار، لا سيما في الولايات المتحدة. ثانياً، تَشَجّع الغرب على إقامة حواجز أخرى أمام التكامل الاقتصادي الصيني بعدما تحدّت بكين النظام الاقتصادي الدولي المبني على قواعد واضحة والترتيبات الأمنية الراسخة في آسيا. من المتوقع أن يزداد تآكل العولمة سوءاً اليوم بعد الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات المرافقة له.

قد ينعكس تآكل العولمة سلباً على التكنولوجيا أيضاً. من المعروف أن الابتكار يزداد سرعة وشيوعاً حين يتّكل على مجموعة عالمية من المواهب العلمية ويستطيع تبادل الأفكار وتقاسم الأدلة لإثبات المفاهيم أو دحضها. لكن ثمة سبب سياسي مقنع كي تحرص الدول على إيصال تقنياتها إلى حلفائها حصراً، حتى لو كانت الأهمية العسكرية للقيود المفروضة مشبوهة (في عالم التجسس الإلكتروني، يسهل الحصول على التصاميم التكنولوجية). نتيجةً لذلك، قد يتراجع الابتكار لأن المؤسسات البحثية الأميركية والغربية ستحرم نفسها من عدد كبير من الطلاب والعلماء الصينيين والروس الموهوبين.

على صعيد آخر، قد يؤدي تآكل العولمة المتزايد إلى تراجع عائدات الرساميل في الاقتصاد العالمي وقد يصل هذا الأثر إلى مختلف جوانب الانقسام الاقتصادي. كذلك، قد تصبح قدرة الناس على استثمار مدخراتهم محدودة بدرجة غير مسبوقة، ما يعني تقليص نطاق التنوع ومتوسط العائدات. من المتوقع أيضاً أن تزيد المخاوف والنزعات القومية رغبة الناس في القيام باستثمارات آمنة محلياً، داخل الحكومة أو في الأوراق المالية المدعومة من القطاع العام. في غضون ذلك، قد تجمع الحكومات بين أهداف الأمن القومي وتدابير الاستقرار المالي والضريبي التي تهدف إلى تشجيع الاستثمار في الدين العام كما يحصل خلال الحروب.

لكن تترافق الانقسامات العالمية المتزايدة مع أثر اقتصادي إيجابي، فهي شجّعت الاتحاد الأوروبي على توحيد سياساته الاقتصادية. بدأ الاتحاد يستعمل موارد مشتركة لتقاسم الأعباء المالية التي تتزامن مع تدفق اللاجئين الأوكرانيين بأعداد هائلة إلى بولندا ودول أعضاء شرقية أخرى. كذلك، يتم إصدار سندات أوروبية لدفع كلفة هذه التدابير بدل اللجوء إلى ديون الدول الأعضاء الفردية.

قد يُصدِر الاتحاد الأوروبي أو منطقة اليورو المزيد من الدين العام الأوروبي مستقبلاً، ما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد العالمي. جاء الغزو الروسي ليؤكد على أننا نعيش في عالم مبني على انخفاض العائدات، ويبحث عدد كبير من المستثمرين عن الأمان في المقام الأول. يستطيع الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو استيعاب بعض المدخرات لتجنب المخاطر، ما يُمهّد لتحسين الاستقرار المالي.

في غضون ذلك، قد تطلق وحدة الاتحاد الأوروبي المتزايدة فرصاً جديدة لتحقيق النمو. بقيادة المستشار الألماني أولاف شولتس، قامت جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تقريباً بالتزام متعدد السنوات لزيادة إنفاقها على الدفاع وتوسيع الاستثمارات العامة لتخفيف اتكال القارة على الوقود الأحفوري الروسي في أسرع وقت. من المتوقع أن يُمهّد هذان الاستثماران لإنهاء اتكال أوروبا على الولايات المتحدة والصين لتحقيق النمو. حتى أن تزويد الاقتصاد العالمي بمحرك آخر قد يسهم في إقامة التوازن بين تقلبات دورة الأعمال التجارية، ما يعني تجديد استقرار العالم في فترات الركود، وقد يمنع أيضاً تراكم الديون الخارجية في الاقتصادات الأسرع نمواً، كما حصل حين صدّرت ألمانيا واقتصادات أوروبية فائضة أخرى المنتجات لكنها فشلت في استهلاكها.

هذه المبادرات تساعد منطقة اليورو تحديداً. كان جزء أساسي من أسباب أزمة اليورو منذ عشر سنوات يتعلق باختلال اقتصادات اليورو نتيجة سياسة التقشف الألمانية. لكن من خلال رفع مستوى الطلب الألماني المحلي، ستتمكن الدول الجنوبية في منطقة اليورو من تسديد جزءٍ من ديونها عبر زيادة الصادرات بدل الاضطرار لتخفيض الأجور والواردات لدفع المستحقات. يُفترض أن تضمن هذه الخطوة تقوية اليورو على المدى الطويل وتزيد جاذبيته بنظر أعضاء جدد محتملين في شرق أوروبا ومدراء الاحتياطي حول العالم. حين لا يعود اليورو معرّضاً للاضطرابات والمخاوف الداخلية بالقدر نفسه، قد تزيد قيمته ويصبح أكثر استقراراً، ما يعني تراجع الاضطرابات التجارية مع الولايات المتحدة.

حقيقة مزعجة

يبدو أن الغزو الروسي سيكون أكثر ضرراً على الدول النامية للأسف. بدأ ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة يؤثر على المواطنين في الدول الأكثر فقراً منذ الآن، وستكون تداعيات تآكل العولمة أسوأ بعد على المستوى الاقتصادي. إذا اضطرت الدول ذات الدخل المنخفض للانحياز إلى طرف دون سواه حين تختار مصدر مساعداتها والاستثمارات الخارجية المباشرة، لا مفر من أن تضيق الفرص المتاحة في قطاعها الخاص. ستصبح الشركات في تلك الدول أكثر اتكالاً على سياسات الحكومة محلياً وخارجياً. وفيما تُكثّف الولايات المتحدة ودول أخرى استعمالها للعقوبات، ستصبح الشركات أقل ميلاً إلى الاستثمار في هذه الاقتصادات. تريد الشركات متعددة الجنسيات أن تتجنب إثارة استياء الأميركيين في هذا الوضع المقلق، لذا قد تمتنع عن الاستثمار في أماكن تفتقر إلى شفافية حقيقية.

أسوأ ما في الأمر هو تزامن هذه التطورات كلها مع استجابة غير متساوية تجاه أزمة كورونا حول العالم، فقد امتنعت البلدان ذات الدخل المرتفع عن تقديم ما يكفي من اللقاحات والإمدادات الطبية إلى الدول النامية. من الطبيعي أن تتغير الظروف الاقتصادية على أرض الواقع نتيجة هذا الازدراء السياسي بصحة الشعوب ذات الدخل المنخفض في أنحاء العالم. إنه مبرر تجاري كي يمتنع القطاع الخاص عن الاستثمار في تلك الاقتصادات. للخروج من هذه الدوامة، تقضي الطريقة الوحيدة بالقيام باستثمارات عامة وتفعيل مظاهر المعاملة المنصفة. لكن قد تصبح هذه الاستثمارات في الدول النامية غير كافية وعشوائية وغير جديرة بالثقة بسبب الانقسامات السائدة بين الاقتصادات الكبرى.

لكنّ تحسين الاقتصادات الفقيرة ليس الهدف التنموي الوحيد الذي سيصبح مُهدداً على المدى الطويل بسبب الغزو الروسي. تحتاج المجتمعات حول العالم إلى تخفيف تداعيات التغير المناخي والتكيّف معه لضمان صمودها، لكنّ دور روسيا وأوكرانيا المحوري في إمدادات الطاقة العالمية قد ينتج قوى متناقضة، ما يزيد تعقيد العملية الانتقالية في قطاع الطاقة. في غضون ذلك، يدعو السياسيون الغربيون اليوم إلى التخلي عن غازات الدفيئة وزيادة التنقيب عن الوقود الأحفوري خارج روسيا. تريد الدول أن تمنع التلاعب بالأسعار وتُخفّض الضرائب على مصادر الطاقة وتعوّض على الأُسَر ارتفاع أسعار الغاز، لكنها ترغب أيضاً في زيادة الحوافز لتوسيع إنتاج الطاقة الخضراء وتخفيف الاستهلاك، وتتطلب هذه العملية رفع الأسعار. تتجاوز المقايضات المطلوبة حدود التغير المناخي، إذ تريد الديمقراطيات أن تقيم التحالفات بناءً على القيم الليبرالية وتحرير الأسواق، لكنها تلجأ إلى حكومات استبدادية مثل المملكة العربية السعودية وفنزويلا لتخفيض تكاليف الطاقة وتعرض عليها إعطاء أنظمتها طابعاً شرعياً مقابل زيادة إمدادات النفط.

تكمن حقيقة مزعجة وراء هذه التطورات كلها: لإبطاء ارتفاع درجات الحرارة، يحتاج العالم إلى تحرك جماعي يجب أن تشارك فيه الصين. لا يستطيع تحالف الديمقراطيات تنفيذ هذه المهمة وحده. نجحت الحكومتان الصينية والأميركية أحياناً في إحراز تقدّم مشترك في المبادرات المناخية رغم خلافاتهما في مسائل أخرى، وقد أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الأميركي جو بايدن عن رغبتهما في تكرار المقاربة نفسها. لكن قد تزداد صعوبة هذه المهمة نظراً إلى اختلاف الكتلة التي ينتمي إليها كل بلد. وفيما يتباطأ إيقاع الابتكار بسبب تراجع التعاون في المجال البحثي نتيجة تآكل ظاهرة العولمة، سيجد العلماء صعوبة متزايدة في التوصل إلى حل سريع لإنقاذ العالم.

نــــحــــو تــــدارك الــــوضــــع

كان وقف تآكل العولمة صعباً أصلاً، لكنه زاد صعوبة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. فيما ينشر السياسيون في الولايات المتحدة وأماكن أخرى روايات كاذبة حول مساوئ الانفتاح الاقتصادي على العمال، بدأ الشرخ بين الصين والولايات المتحدة يتوسع بعد الغزو الروسي والعقوبات المرافقة له.

لكنّ صانعي السياسة ليسوا عاجزين بالكامل. كانت العقوبات المالية المفروضة على روسيا مؤثرة لأن تحالفاً قوياً ومؤلفاً من ديمقراطيات ذات دخل مرتفع هو الذي فرضها. إذا نجحت أستراليا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وبريطانيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، واقتصادات السوق المهمة الأخرى في استخدام القوة التي استعملوها لمعاقبة روسيا من أجل تحسين وضع الاقتصاد، يمكنهم أن يعالجوا التآكل الحاصل أو ربما يشجعون الصين على حماية روابطها مع العالم أيضاً.

لتحقيق هذا الهدف، يجب أن يطبّق المسؤولون مجموعة واسعة من السياسات، بدءاً من إنشاء سوق مشتركة واسعة وعميقة بين الديمقراطيات، على أن تشمل السلع والخدمات وحتى فرص العمل. كذلك، يجب أن يطرحوا معايير مشتركة لتقييم الاستثمارات الخاصة والعابرة للحدود لأسباب مرتبطة بالأمن القومي وحقوق الإنسان. ويُفترض أن يبتكروا ساحة لعب متساوية نسبياً بين الحلفاء لإطلاق منافسة صحية وقادرة على تقليص أسوأ تداعيات القومية الاقتصادية، لا سيما الفساد والهدر ودعم أصحاب المناصب. على صعيد آخر، يجب أن ينشئ صانعو السياسة جبهة استثمارية عامة ومستدامة ومتعددة السنوات داخل التحالف الغربي لتخفيف الاختلالات بين الاقتصادات وزيادة العائدات الإجمالية للاستثمارات.

أخيراً، لا تستطيع ديمقراطيات العالم أن تعكس مسار جميع الانقسامات التي تستنزف الاقتصاد العالمي نتيجة العدوان الروسي وموافقة الصين الضمنية، ويُفترض ألا ترغب في فعل ذلك أصلاً، بل يجب أن يُقابَل بعض أشكال العنف بالعزلة الاقتصادية. لكن يجب أن تعوّض تلك الديمقراطيات عن جزء كبير من الخسائر تزامناً مع تجديد استقرار العالم.


MISS 3