وهبي قاطيشه

أوكرانيا وشريطها الحدودي

28 آذار 2022

02 : 01

الجيش الروسي يتكبّد خسائر فادحة في أوكرانيا (أ ف ب)

أصاب الفشل العسكري الروسي في أوكرانيا قادة الكرملين بصدمة كبيرة. فالجيش الأحمر الذي كان يُعتبر الأقوى في أوروبا، يتعثَّرُ على أبواب المدن الأوكرانية وعلى طرقه اللوجستية، متسبّباً بفضيحة عسكرية روسية أسقطت معها هالة الحرب الخاطفة وإنجازاتها السريعة التي كان ينتظرها الرئيس بوتين، وتحوّلت إلى حرب خنادق واستنقاع في أوكرانيا، مُسقِطةً عن وجه الجيش الروسي قناع "البعبع" للدول المجاورة للوطن الأم. ولم يعد الجيش الروسي، بالنسبة لموسكو، قادراً على تشكيل توازن مع الجيوش الأوروبّية.

كما سقطت مع هذه الحرب، نظرية التوازن العسكري الكلاسيكي، لتحُلّ محلّها نظرية التوازن المبني فقط على الردع النووي. فكما أزاح غورباتشوف الستار عن الهالة السياسية للإتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود لتنهار شبكة ذلك الإتحاد حول العالم، ها هو بوتين بحربه اليوم على أوكرانيا يسقط هالة أساطير الجيش الأحمر على المسرح الأوروبي، ليكتفي بتوازن الردع النووي. فأين وصلت الحرب على أوكرانيا؟

عندما أعلنت جزيرة القرم (27 ألف كلم مربع) انفصالها عن أوكرانيا العام 2014، بعد 60 عاماً من إلحاقها بإدارة جمهورية أوكرانيا العام 1954 بأمر من خروتشيف، لأسباب عديدة أهمها: تلاصقها الجغرافي بأوكرانيا، ترابطها الإقتصادي مع هذه الأخيرة، وأخيراً تماثلها الثقافي والحضاري مع كييف. وكانت في حينه تتمتع بحكم ذاتي، استمرت بتطبيقه في ظلِّ الجمهورية الأوكرانية. واصطدمت موسكو بصعوبة التواصل الجغرافي مع شبه الجزيرة، إذ اقتصر هذا التواصل على طريق وحيدة، بجسر محدود الإمكانيات فوق مضيق كيرتش، الذي يفصل بين البحر الأسود وبحر آزوف. هذا الجسر يربط بين أقصى الجنوب الروسي وشبه جزيرة القرم، ما يحدُّ من عملية الإندماج والتفاعل بينهما.

رأى بوتين في اندلاع الإنتفاضة في مقاطعة دونيتسك في جنوب شرق أوكرانيا، مطالبة بالإنفصال عن كييف، فرصة تاريخية للوصول برّاً إلى جزيرة القرم، فأطلق حملته العسكرية عبر الحدود المشتركة بين البلدَيْن، وكان تركيزه الأهم على منطقة الإنتفاضة، لما تحمله من دلالات جيوستراتيجية حيوية بالنسبة لموسكو. فالمقاطعة المنتفضة تُشكل امتداداً للبر الروسي بغالبية سكانية ناطقة باللغة الروسية. لكن فشل الحرب الخاطفة، وعدم استسلام كييف، دفع بالجيش الروسي إلى تركيز جهده القتالي على الجبهة الجنوبية لربط شبه جزيرة القرم بالبر الروسي عبر مدينتَيْ يالطا وماريوبول وصولاً إلى مدينة خيرسون على نهر دنيبر، من هنا شهدنا على أعنف المعارك في الجنوب على شاطئي بحري آزوف والأسود.

السيطرة على مدينة ماريوبول يُحوِّل بحر آزوف إلى بحيرة روسية، أي حرمان أوكرانيا من الوجود في بحر آزوف، وانتزاع قسم كبير من شاطئها على البحر الأسود. وهكذا تخسر أوكرانيا 80 في المئة من واجهتها البحرية ومرافئها البحرية على هذين البحرين. إحتلال "الشريط الحدودي" في جنوب أوكرانيا، بين حدود روسيا شرقاً ومصب نهر دنيبر غرباً مع شبه جزيرة القرم ضمناً، بمساحة إجمالية تبلغ حوالى 70 ألف كلم مربع، يؤمن لروسيا امتداداً استراتيجياً إقتصادياً وعسكرياً، ويُقلص الواجهة البحرية لأوكرانيا لتُصبح بين مصب نهري دنيبر الداخلي ودانوب الذي يفصلها عن رومانيا.

العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا تؤكد عقم العقيدة القتالية الروسية والدول المشابهة لها في الأنظمة الديكتاتورية. فصعوبة تقدُّم الجيش الغازي، خصوصاً فوق أرض مفتوحة، يؤكد على الخلل الكبير في المثلث الأساسي لإدارة القتال: القيادة، السيطرة والإتصالات. وارتفاع عدد الجنرالات الروس الذين سقطوا في المعارك يؤكد أيضاً على فقدان المبادرة لدى المرؤوسين في هرمية هذا الجيش، ما يُجبر القادة إلى التعرُّض في الخطوط الأمامية للتعويض عن هشاشة المنظومة القيادية، لحلِّ التعقيدات الطارئة وغير المتوقعة أثناء سير المعارك.

كما تدلُّ هذه الإجراءات على فقدان الثقة بين القادة والمرؤوسين. فجيوش الأنظمة الديموقراطية تترك للمرؤوسين الكثير من المبادرات، وصولاً إلى مستوى الرتيب. لكن جيوش الأنظمة الديكتاتورية، تحدُّ من هذه المبادرات لصالح المركزية الحديدية النابعة من الحذر الطبيعي للديكتاتور. هذه المركزية تُضعف الثقة بين هرمية القيادات العسكرية وأغلب مستوياتها، بسبب طبيعة النظام الديكتاتوري، وتخفف من فعالية الجيش القتالية.

التدمير الممنهج الذي يُنفذه الجيش الروسي للمدن الأوكرانية، يُحوِّل هذه الأخيرة إلى "ستالينغرادات" أوكرانية، ليدخلها فوق أرضٍ محروقة. قبل 2500 عام قال سون تزو، الإستراتيجي الأول في التاريخ: "الإستراتيجي الماهر، هو من يُحاصر المدن ويُسقِطُها دون شبك السيوف أو إراقة الدماء". هذا النوع من الحروب التي تُدمّر المدن لإخضِاعها، كما يفعل بوتين، يُذكِّر بالعصور الغابرة وحروب الإبادة، بعيداً عن الإعلام في حينه (لا مين شاف ولا مين دري). لكن عالم اليوم، يرتعد كلُّه أمام مقتل طفلٍ واحدٍ بريء، فكيف بالتدمير المنهجي لمدن أوكرانيا؟ ما يضع روسيا في عزلة سياسية دولية غير مسبوقة في التاريخ.

التوازن في العمليات العسكرية بين المقاومة الأوكرانية والجيش الروسي تحقق على الأرض في المواجهات المباشرة، مع ظهور مؤشرات جديدة تصب في مصلحة الفريق الأوكراني "الأضعف"، لأنه صاحب الأرض والقضية. لكن امتلاك موسكو لوسائل تدمير المدن من مسافات بعيدة لتفادي خسائر الجنود في المواجهات المباشرة، يؤدّي إلى تدمير هذه المدن وتخريب المؤسّسات وقتل الأبرياء وتهجير ملايين الأوكرانيين.

تبقى التوقُّعات الأخطر في الحرب الأوكرانية أن الديكتاتوريين عبر التاريخ هم بمثابة راكب الدرّاجة الذي يقع عندما يتوقف، إذ إنهم لم يوافقوا يوماً على الحلول الوسط، فكانوا يذهبون بشعوبهم دائماً إلى الحدود القصوى، وحتماً إلى الخسارة وبأثمانٍ باهظة. وهذا ما صرح به الرئيس الأميركي بايدن من بولندا عندما قال: "لا يُمكن لبوتين أن يحكم روسيا بعد اليوم".

MISS 3