ستيفن كوك

الرئيس التركي يستغلّ الأزمة الأوروبية للتأكيد على قوة بلده

حرب أوكرانيا فرصة إيجابية لأردوغان

2 نيسان 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 01

تشكّل الحرب الروسية في أوكرانيا فرصة إيجابية لتركيا. لكن لا يتعلق السبب برغبة تركيا في التحول إلى حصن منيع في وجه روسيا، كما كانت عليه خلال الحرب الباردة (إنها الفكرة التي يحاول مناصرو أنقرة في واشنطن وداعمو حملاتها الدعائية إقناع الناس بها). يفيد هذا المفهوم أعضاء الكونغرس ومساعديهم المنشغلين بملفات أخرى. عملياً، لا تريد تركيا أن تصبح مجدداً حارسة الجناح الجنوبي الشرقي لحلف الناتو.

الفرصة التي تستفيد منها تركيا خلال الأزمة الراهنة هي نتاج واقعٍ أكثر تعقيداً له علاقة بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمفهوم الذي يحمله حزبه الحاكم عن تركيا باعتبارها قوة مستقلة بحد ذاتها، وتهديدات الحركات الانفصالية الكردية داخل تركيا وفي سوريا، وخيبات الأمل المتراكمة التي تحولت إلى مشاعر بغض ضد أطراف كان يُفترض أن تكون من أهم حلفاء تركيا: الولايات المتحدة وأوروبا.

هذا الخليط من الطموحات والصدمات دفع أردوغان إلى التواصل مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، منذ مرحلة مبكرة من الأزمة. أدى الحوار اللاحق وتوسّع العلاقات الثنائية (رغم الخلافات المستمرة بين تركيا وروسيا في سوريا، وليبيا، وناغورنو كاراباخ، وأوكرانيا على ما يبدو) إلى ترسيخ انعدام الثقة بين أنقرة وشركائها الغربيين. حين اشترت تركيا نظام الدفاع الجوي الروسي "إس - 400"، اضطرت الولايات المتحدة لفرض عقوبات على قطاع الدفاع التركي. ثم تصاعدت الدعوات إلى طرد تركيا من الناتو مجدداً، مع أن وثائق الحلف التأسيسية لا تسمح بفعل ذلك. في الوقت نفسه، تلاحقت أسئلة أكثر جدّية حول وجهة السياسة الخارجية التركية. هل تبقى تركيا جزءاً من الغرب أم أنها بدأت تتحرك شرقاً؟ وهل تحاول تركيا أداء دور قيادي في الشرق الأوسط، أو في شرق البحر الأبيض المتوسط، أو في العالم الإسلامي ككل؟ يبدو أن أنقرة تحاول تحقيق هذه الأهداف كلها فعلاً.

لطالما كان أردوغان محظوظاً وحذقاً على حد سواء، فقد واجه معارضة غير كفوءة واستفاد من حليف أميركي يبدي استعداده الدائم للتغاضي عن تجاوزاته المحلية لأسباب جيوستراتيجية واهية (رغم مرور ثلاثة عقود على نهاية الحرب الباردة) ويَحِنّ إلى الحقبة التي تكاتف فيها الأميركيون والأتراك ضد السوفيات. اليوم، قد تكون الأزمة الأوكرانية فرصة إيجابية أخرى لأردوغان، فقد تسمح له باسترجاع دور تركيا في حل مشاكل المنطقة، تزامناً مع تسويق الفكرة القائلة إن تركيا زعيمة عالمية بقدر دولٍ مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.

منذ بضعة أشهر، كانت تركيا معزولة دولياً. توترت علاقات أنقرة مع أوروبا بعدما أمضت تركيا معظم فترات السنتين الأخيرتين وهي تُهدد قبرص واليونان، وتلوّح بإفلات اللاجئين باتجاه الأوروبيين، وتتصادم مع الفرنسيين بسبب ليبيا. في الشرق الأوسط، أصبحت علاقات أنقرة صعبة، أو حتى عدائية، مع جميع الدول الكبرى في المنطقة. تدهورت علاقات تركيا مثلاً مع السعوديين والإماراتيين والمصريين والإسرائيليين لدرجة أن تتواصل هذه البلدان في ما بينها للوقوف ضد أنقرة في أنحاء المنطقة وأماكن أخرى. في غضون ذلك، تجاهلت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تركيا وأردوغان، باستثناء الانتقادات العابرة التي تصدرها وزارة الخارجية الأميركية من وقتٍ لآخر. بحلول أواخر العام 2021، أصبحت تركيا معزولة عن العالم وواجهت أزمة حادة في عملتها المحلية، فحاولت إصلاح الأضرار التي ألحقتها بنفسها. لكن سادت أجواء من اليأس التام في تلك المرحلة.

ثم أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا، فأطلق الموقف التركي من هذه الحرب تحليلَين متعارضَين. يزعم أحدهما أن دعم أردوغان لاستقلال أوكرانيا، واستعداد أنقرة لتزويد كييف بطائرات مسيّرة وفتاكة، وإغلاق مضيق البوسفور، هو إثبات إيجابي للفكرة التي يؤكدها هذا المعسكر منذ وقت طويل: لطالما كانت تركيا جزءاً أساسياً من الأمن الغربي ولا تزال كذلك. أما التحليل الثاني، فهو يعتبر أن موقف تركيا الداعم لأوكرانيا ظاهرياً لا يحمل جوانب مهمة بقدر ما يظن داعمو أنقرة. يلفت النقاد إلى امتناع الحكومة التركية عن فرض أي عقوبات على روسيا، وإبقاء المجال الجوي التركي مفتوحاً أمام الطائرات الروسية، وظهور يخوت فخمة تعود إلى الأوليغارشيين الروس في بودروم ومرمريس بعد أخذ موافقة الحكومة التركية على الأرجح. لكن قد لا تتعلق هذه الظاهرة بسياسة تركيا الموالية لروسيا بقدر ما تشتق من الروابط القائمة بين الأوليغارشيين الروس والأتراك وعلاقات الأثرياء الأتراك المزعومة مع أردوغان.

بعيداً عن حرب المعلومات الحاصلـــة بين مناصري أردوغان ومعارضيه، قد يستغل الرئيس التركي الفرصة ويسترجع الدور الذي لعبه في منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بما أن تركيا لا تستطيع دعم أوكرانيا صراحةً ولا معاداة بوتين بالكامل، حتى أنه قادر على إقناع الآخرين بقوة تركيا واستقلالها بطريقة لا تستفز الغرب. نظراً إلى عدائية السياسة الخارجية التركية في السنوات الأخيرة، لا يتذكر الكثيرون أن الحكومة التركية حاولت أداء دور بنّاء في الشرق الأوسط بين العامين 2005 و2011، فأشرفت على مفاوضات غير مباشرة بين السوريين والإسرائيليين، ونشرت قوات حفظ سلام في لبنان، وحاولت التفوق على إيران في سوريا، واستعملت ثقلها الاقتصادي لإقامة علاقات حسنة بين أنقرة ومجموعة متنوعة من دول المنطقة.

قد تحصل أنقرة على فرصة استرجاع هذا الدور بعد أحداث أوكرانيا. اذ اعتبر النقاد جهود الوساطة التركية مجرّد محاولة لمضاهاة الوسطاء المحتملين الآخرين أو التفوق عليهم (لا سيما الإسرائيليين)، أو لتغطية موقف أنقرة الموالي لروسيا. ثمة جوانب مقنعة في هذين التحليلَين معاً. لا يحبذ أردوغان أن يتفوق عليه أحد، لا سيما رئيس الوزراء الإسرائيلي، وكانت تركيا تحتاج إلى شكلٍ من التساهل الروسي كي تتمكن من تنفيذ عمليتها العسكرية في سوريا. لكن يغفل المحللون عن أهم جانب يجلبه أردوغان معه إلى طاولة المفاوضات: علاقته مع بوتين. لم يسبق أن أمضى أي زعيم وقتاً طويلاً مع الرئيس الروسي بقدر أردوغان، باستثناء رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو.

من المعروف أن بوتين لا يتقبل نصائح الآخرين، لكن يبقى أردوغان مؤهلاً أكثر من غيره لأداء هذا الدور. هو يتمتع بكاريزما عالية، ويُعتبر زعيماً بمستوى بوتين، ويبدو التعاون معه ممكناً رغم عمق الخلافات في السياسات المعتمدة. سبق وتعامل هذان الزعيمان مع بعضهما، ويُعتبر أردوغان زعيم دولة مهمة في حلف الناتو، ما يعني أنه قد يصبح صلة وصل مع واشنطن وبروكسل.

لكن هل تستطيع هذه الجهود أن تنهي الحرب الروسية في أوكرانيا؟ يواجه بوتين وضعاً شائكاً لدرجة أنه يعجز عن إعلان النصر والعودة إلى دياره، لكن يستطيع أردوغان أن يشارك في إنشاء ممرات إنسانية وتسليم الإعانات الأساسية إلى الأوكرانيين المحتاجين إليها. يبقى القول أسهل من الفعل طبعاً، لكن ما من بلد أفضل من تركيا لمحاولة إتمام هذه المهمة على ما يبدو. أنتجت جولة المحادثات التي انتهت في اسطنبول يوم الثلاثاء الماضي بصيص أمل ينذر بوقف إطلاق النار، ما يمنح الأوكرانيين المحاصرين مصدر راحة باتوا بأمسّ الحاجة إليه.

سواء تحقق اتفاق وقف إطلاق النار أو لم يتحقق، سيستفيد أردوغان من الوضع في مطلق الأحوال لأنه لم يعد مضطراً لترسيخ الفكرة القائلة إن تركيا قد تصبح لاعبة بنّاءة في أوروبا والشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط. حتى أن هذه الظروف قد تدعم خطاب أنقرة المرتبط بدور تركيا القيادي في هذه المناطق كلها. قد تبدو هذه الفكرة غريبة، لكنّ تركيا قد تسترجع قوتها وامتيازاتها بفضل قرار شراء نظام "إس-400" ومعنى هذه الخطوة بالنسبة إلى العلاقات القائمة بين أنقرة وموسكو، إذا برع أردوغان في استعمال هذه الورقة لصالحه. أحياناً، يكون حظ الزعيم أهم من ذكائه!


MISS 3