منير يونس

تنفيذ الاتفاق مع صندوق النقد يغيّر وجه لبنان إلى الأبد:

عون وبري وميقاتي يرحّبون... ودياب يضحك في سرّه!

11 نيسان 2022

02 : 00

بعد الصورة التذكارية... لا شيء يُذكر في الأفق القريب

‎أكد بيان لصندوق النقد الدولي أن الاتفاق (على مستوى الموظفين) الموقع مع لبنان، لا يلزم الصندوق بشيء، قبل موافقة مجلس إدارة الصندوق ومجلسه التنفيذي عقب تنفيذ جميع الإجراءات المسبقة في الوقت المحدد. بكلام آخر، على الحكومة اللبنانية تنفيذ جملة شروط ضمن مهلة زمنية معينة لإقناع المجتمع الدولي الذي أتت الإشارة إليه بعبارة الشركاء الدوليين المعنيين بالدعم المالي للبنان.





أبرز الشروط: إعادة هيكلة المصارف والبنك المركزي، توحيد أسعار الصرف، الإقرار بالخسائر ومعالجتها، إنشاء نظام نقدي شفاف، هيكلة المالية العامة ومؤسسات الدولة خصوصاً في قطاع الطاقة، زيادة الإيرادات العامة، خفض العجز، تعزيز الحوكمة والشفافية ومكافحة الفساد وتبييض الأموال، هيكلة الدين العام الخارجي، خلق مساحة للإنفاق الاجتماعي والاستثمار التنموي. وتتعيّن الإشارة المتحفّظة إلى طلب غير مسبوق حصلت تلبيته، وهو إعلان «الرؤساء الثلاثة» دعم ما اتّفق عليه. إذ ليس لبيانات الدعم الرئاسية أي قيمة دستورية. بيد أن من نصح الصندوق بهذا الطلب يعلم جيداً أن لبنان يدار من خارج المؤسسات الدستورية، متناسين أن زعماء لبنان يمكنهم التنصل من أي كلام عام زئبقي يطلقونه كما حصل مع المبادرة الفرنسية التي أسقطوها في العام 2020 قبل أن يجف حبرها.

أضاعوا سنتين... وبدّدوا 20 مليار دولار

على صعيد متصل، لم تختلف شروط الاتفاق الجديد كثيراً عمّا كانت حكومة حسّان دياب قد شارفت على إنجازه مع صندوق النقد قبل سنتين. آنذاك انبرى من يهجم على دياب والمستشارين الجديين الذين عملوا على خطة «لازار» التاريخية الشهيرة. في السياسة، قاد الرئيس نبيه بري معركة إعادة سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة واعداً إيّاه بـ «لبن العصفور». وفي البرلمان تولّت لجنة المال والموازنة تهبيط الحيطان المصلحية الضيقة على أرقام الحكومة للخسائر ومقاربات توزيعها، فضلاً عن هجوم شرس شنّته المصارف مع حاكم مصرف لبنان على دياب وخطته، فسقطت الحكومة، أو تشرشحت، حتى قبل انفجار 4 آب 2020.

من يتحمّل مسؤولية تأخير سنتين زادت فيها الخسائر بالمليارات؟ أم أن في السياسة العبثية، على الطريقة اللبنانية، كلّ شيء مباح حتى لو تكبّدت احتياطات العملات 20 مليار دولار منذ بداية الأزمة؟

على أي حال، يبدو حسّان دياب من بعيد يضحك في سرّه إذا علم أن البيانات الرئاسية أتت بضغط فرنسي لن يحول دون عودة سن الخناجر ليطعن "المرحبون" بعضهم بلا رحمة!

على أي حال، الشروط كثيرة والملحّ فيها يتجلّى في معالجات المصارف ومصرف لبنان مركز زلزال الأزمة.

يبحثون شطب ثلاثة أرباع الودائع من دون محاسبة

تناول الصندوق قضية الخسائر التي تقدّرها الحكومة حالياً بنحو 73 مليار دولار، في معظمها أموال لأصحاب الودائع. وطلب معالجة هذه الخسائر مع إشارتين: الأولى خاصة بحماية صغار المودعين، والثانية نصيحة بعدم التوسع في استخدام الأصول العامة لإطفاء الخسائر.

نصائح الصندوق تشكل معضلة المعضلات للبنان وزعاماته (طالما البلاد تدار من خارج المؤسسات)، إذ كيف لهؤلاء مصارحة المودعين بأن معظم أموالهم قد تبخّر، وعليهم تحمّل جزء من الخسائر من دون إثارة عاصفة المطالبة بمحاسبة من تسبّب بتلك الخسائر غير المسبوقة لا سيما على صعيد المصارف والبنك المركزي المُعتبَر محمية سياسية منذ تولي رياض سلامة الحاكمية؟! وما ردود الأفعال على تصريح نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي عن «إفلاس الدولة والبنك المركزي» إلا عيّنة بسيطة مما ينتظر الطبقة السياسية ساعة حقيقة إعلان أن المودعين سيتحمّلون الجزء الأكبر من الخسائر التي تسبّبت بها المصارف التي رضخت لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي تواطأ بدوره مع سياسيين على حساب ودائع الناس والمال العام.

إذا طبقت نصيحة الصندوق بعدم التوسع في استخدام الأصول والموارد العامة لإطفاء الخسائر، فإن ثلاثة أرباع الودائع على الأقل في مهبّ الريح. ريح حميدة إذا هبّت لاقتلاع الطبقة السياسية والمصرفية الفاسدة ومحاسبتها واسترجاع الأموال المنهوبة منها، أو ريح عشواء تتبدّد سريعاً كما هو الأرجح في مجتمع أدمن قبول الإفلات من العقاب.

بيان جمعية المصارف ترحيب «على دين ملوكهم»

على الصعيد المصرفي ركز الصندوق على ضرورة فتح دفاتر 14 بنكاً يفترض أنها الأكثر انكشافاً من غيرها، وبموجوداتها تشكل الجزء الأكبر من القطاع. وما بيان جمعية المصارف المرحّب ببيان الصندوق إلا طريقة جديدة من البنوك لمعرفة مآل الأمور قبل الانقضاض على ما لا يرضيها. فطالما عبّر «الرؤساء» عون وبري وميقاتي عن تأييدهم ورقة التفاهم مع الصندوق، لم يبق أمام البنوك إلا الترحيب على دين ملوكهم لزوم العلاقات العامة. وكان ينقص ترحيب أيضاً من الهيئات الاقتصادية ليكتمل «النقل بالزعرور» في الاحتفالية الباهتة. لكن «الغرض مرض» كما يقول الأشقاء المصريون إذ بدا لافتاً في بيان الجمعية الأسبوع الماضي أن الكمائن كامنة مع الإشارة إلى أن «أي حلّ للخروج من الأزمة يشمل خطة لتوزيع الخسائر على الحكومة ومصرف لبنان نظراً لتراتبية المسؤوليات». بشكل أو بآخر، تستمرّ المصارف بعدم الاعتراف بأنها أساءت إدارة أمانة الودائع محاولةً إبقاء كرة النار في كنف الدولة، وهي في ذلك وفية لنفسها منذ بداية الأزمة، لكنها تجرأت على حكومة دياب ولا تتجرأ على حكومة ميقاتي، لعلّ الأخير يحميها من بعض الاستحقاقات وهو من «عضام الرقبة».

وكانت المصارف طالبت (ومستمرة ضمناً بالمطالبة) بإنشاء صندوق سيادي توضع فيه أصول عامة تستثمر بعوائد ترغب المصارف بتخصيصها جزئياً أو كلياً للمودعين، لكن إشارة الصندوق أو نصيحته بعدم التوسع في استخدام الموارد العامة لإطفاء الخسائر أصاب البنوك بخيبة أمل لن تبلعها، بل ستواصل العمل مع السياسيين لتنفيذ ذلك المأرب مهما طال السفر.

فتح الدفاتر المصرفية... «صندوق باندورا»

أما مطالبة صندوق النقد بالاستعانة بمؤسسة دولية لفتح دفاتر البنوك وتقييم أوضاعها فما هو إلا تأكيد المفترض جدلاً بأن هناك مصارف مفلسة، مع بحث مستمر عن إمكان تحمل مساهميها ومجالس إداراتها وكبار التنفيذيين فيها مسؤوليات مباشرة عن ذلك الإفلاس. فهل تنطلق، بعد التدقيق الدولي المطلوب، خطوات المحاسبة لتأتي على أموال المصرفيين وثرواتهم الخاصة؟ وماذا عن السياسيين الحامين المصارفَ المفلسة أو المساهمين فيها، فهل سيتركون الأمور تسير بالشكل القانوني السليم، أم أنهم سيقفون سدّاً منيعاً أمام المساءلة كي لا تصل إليهم مقصلة المحاسبة بشكل أو بآخر؟ ما علينا إلا الانتظار الذي لن يدوم كثيراً لمعرفة كيف سيفتح «صندوق باندورا».. للفرجة أم للمحاسبة؟! على صعيد الرساميل المصرفية بات واضحاً أن الصندوق يعتبر أنها لم تعد موجودة مطالباً بأخرى جديدة «كبيرة جداً». وهي عبارة عن مليارات قد يعيدها من الخارج الذي هرّبها إذا ضمن عدم المحاسبة عن الماضي ووعد بحصة من الكعكة الجديدة. ولم ينس الصندوق ضرورة سن قانون جديد لهيكلة المصارف وعدم ترك الأمر لمصرف لبنان الذي يماطل في ذلك لرغبات عدة ليس أقلها عدم الاعتراف بإفلاس وحدات مصرفية كثيرة تورّطت في «البونزي» الذي نصب لها وشفط منها بالترغيب والترهيب دولارات المودعين إلى مصرف لبنان.

تخسيس مع مضاعفات في المال والنفوذ

أشار الصندوق إلى أن بين أسباب الأزمة تضخم القطاع المالي والمصرفي ما يعني أن المعالجات ستحجم ذلك القطاع بشطب تراخيص ودمج مصارف، ليبقى عدد محدود. فإذا كان التضخم يعني أن موجودات المصارف كانت تساوي 4 إلى 5 أضعاف الناتج المحلي البالغ 55 مليار دولار قبل الأزمة فإن الحجم الجديد مع تقلص الناتج إلى نحو 20 ملياراً لن يتجاوز الـ40 ملياراً وفقاً للمعادلات الجديدة الحصيفة كي لا تتكرر الفقاعة. والأسئلة المطروحة هي: من سيبقى بعد التخسيس ومن سيندثر، وبأي ثمن ومن كيس من؟ علماً أن في القطاع مساهمات لنافذين وسياسيين وكبار رأسماليين لبنانيين هم جزء لا يتجزأ من الطبقة الاوليغارشية الحاكمة منذ عقود.

ولادة لبنان جديد... يتربّص الفاسدون لإجهاضه

مصرفياً أيضاً طلب الصندوق تعديل قانون السرية المصرفية وإزالة العوائق من أمام هيكلة القطاع المصرفي والكشف عن الجرائم المالية والتحقيق فيها واسترداد الأصول (المحرر: المنهوبة حتماً). هذا الشرط إذا تنفذ، يمكنه وحده تغيير وجه لبنان إلى الأبد. فالفساد والتهرب الضريبي يختبئان تاريخياً في عباءة السرية المصرفية. ولم يأت صندوق النقد على ذكر ذلك من باب الأدبيات الإنشائية فقط. فهو، تاريخياً، يعلم كما تعلم مؤسسات دولية ودول كثيرة معنية بلبنان حول العالم أن جزءاً من أزمة بلاد الأرز هي تلك الأموال التي راكمها فاسدون ومتسلطون على حساب المال العام والمجتمع. فالمال لا يتبخّر بل ينتقل من يد إلى أخرى. وليس من باب الصدفة أن يتفق رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون وأمين عام الأمم المتحدة انطونيو غوتيريش على توصيف الحالة الإفلاسية اللبنانية على أنها نتيجة حتمية لتطبيق مخطط احتيالي (بونزي سكيم). فهل ستطبق حكومة ميقاتي أو تلك التي يحلم أن يؤلفها لاحقاً ما ذكره الصندوق لجهة التحقيق في الجرائم المالية، وكيف سيجاريه رئيس مجلس النواب نبيه بري والقضاء للمضي قدماً في تقفي أثر الحسابات التي أثرى أصحابها من غير وجه حق؟ بات واضحاً أن أي كشف للفساد وغسل الأموال لا يمكن أن يحصل إلا بفتح دفاتر البنوك الخاصة بكل ما له علاقة بالعمليات والتحويلات المشبوهة التي مسك القضاء الأوروبي رأس طرف خيط واحد وصغير منها، وهي على الأرجح «كبكوب» خيطان مخيف.

نفضة كاملة في مصرف لبنان... ورياض لن يعترف

على صعيد مصرف لبنان، أكد الصندوق ضرورة الانتهاء من التدقيق الخاص بحساباته وتحسين شفافيته والإقلاع عن ممارسات اتّبعت فيه. ما لم يقله الصندوق مباشرة معروف سلفاً لجهة أن الحاكم القائم على البنك المركزي عليه الاعتراف بأنه ارتكب ممارسات خاطئة، وأنه لم يكن يتمتع بالشفافية اللازمة لعمله. والأسئلة المعلقة على جبين الرعاة السياسيين لرياض سلامة هي إلى أي مدى سيحمونه بعد وبأي ثمن؟ وهل سيترك القضاء المحلي لاستكمال عمله وملاقاة القضاء الدولي الذي يلاحق سلامة بالاختلاس وتبييض الأموال؟ والأهم في المسؤوليات القانونية التي قد تترتب على تدقيق يبحث عن خريطة الهرم الاحتيالي الذي قد يكون نفذه مصرف لبنان والمصارف برعاية سياسية وأودى بعشرات المليارات من ودائع الناس المقدرة حالياً بنحو 100 مليار ولم يبق منها إلا 10 الى 15%. حتماً لن يعترف سلامة بمسؤوليته ولن يعتذر. ولا هو الآن بوارد تغيير سلوكه الراضخ للسياسيين أو المتواطئ معهم بدليل الصرف اليومي من ودائع الناس لخدمة المنظومة وبقائها بعد الانتخابات، لتستطيع تجديد شرعيتها بعد كل الذي اقترف في لبنان من «جرائم مالية» حسب توصيف الصندوق نفسه. ولم ينس الصندوق ذكر ضرورات إعادة هيكلة البنك المركزي وإجراء إصلاحات واسعة النطاق فيه وتعزيز حوكمته ومساءلته، وإنشاء نظام نقدي يتّسم بالشفافية والمصداقية. هذا البند لا يدع مجالاً للشك في أن مصرف لبنان جزء أساسي من الداء العضال الذي ضرب لبنان. وهنا تطرح مسألة خطورة بقاء رياض سلامة مكانه إلى نهاية عهده بعد أكثر من سنة.


MISS 3