وهبي قاطيشه

أوكرانيا لبوتين: "كش ملك"

12 نيسان 2022

02 : 01

تأكدت خسارة بوتين في أوكرانيا (أ ف ب)

لم تعد عبارة «حرب» كافية لوصف ما يحصل في أوكرانيا، بل تعدّتها إلى القول إنها «إبادة» من جانب فريق يملك قوة التدمير دون أي احترامٍ لأسس الحروب وقوانينها. فالحروب تُخاضُ بجيوشٍ وتنظيمات عسكرية تحترم قواعد أقرّتها شرعة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وعلى رأسها تحييد المدنيين وكلّ ما هو غير عسكري. لكن التدمير الممنهج للمدن الكبرى الأوكرانية من قبل الجيش الروسي، يفضح أهداف روسيا الخفية التي تتلخّص بتدمير المدن لتُصبح غير قابلة للحياة وتهجير سكانها، بهدف تحويل أوكرانيا أو قسمٍ منها إلى أرضٍ بلا شعب، بحيث يسهل السيطرة عليها وإخضاعها، أو ضمِّ قسمٍ كبيرٍ من أراضيها إلى الوطن «الأم» روسيا.

كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا هشاشة وضعف دولة كبرى أسّسها لينين ورفاقه قبل مئة عام، وأطلقوا عليها إسماً أمميّاً يحمل بذور التوسع والتمدُّد: «الإتحاد السوفياتي». استمدَّ الفكر الشيوعي زخمه من سواعد العمال والطبقة العاملة الأكثر قابلية للتحريض، والدعوة النظرية إلى تطبيق العدالة والمساواة بين الأفراد والشعوب، وقيادة الشعوب المقهورة إلى رفع الظلم، وتحقيق التطوّر والإزدهار، والإشتراك في إنقاذ العالم من الرأسمالية المتوحشة التي تستغلّ الشعوب وتتسلَّط على مقدّراتها لخدمة مشروع «أمبريالي» متخلِّف تُجسّده الأنظمة الديموقراطية، وفق الخطاب الذي سوّقته الشيوعية على مدى سبعة عقود.

فشلت الشيوعية في تحقيق أحلام الشعوب، خاصة الطبقة العاملة، وانحسرت «تركة» لينين عن معظم مساحات الكوكب. وقد لخّص أحد علماء السياسة والإجتماع هذا الفشل، إذ وصف الشيوعية بكذبة عندما قال: «الشيوعية هي الأكذوبة الأكثر انسجاماً في التاريخ». لم يتّعظ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من هذا الفشل المؤكد، واستمرّ مكابراً من دون أن يستطيع الخروج من فكر الإتحاد السوفياتي ومعه الحرب الباردة التي فرضت على الأمم المتحدة إدارة العالم في حينه بقطبين: الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. غير أن إدارة القطبين فرضتها عناصر لم تعد كلّها متوفرة اليوم، أهمّها ثلاثة: الإنتشار السياسي الواسع المؤيّد لكلٍّ من القطبين (باستثناء دول العالم الثالث المائلة نحو الغرب)، القوة العسكرية التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، وأخيراً السلاح النووي. فماذا تبقى من عناصر الدولة العظمى لروسيا، الوريثة الشرعية الوحيدة للإتحاد السوفياتي؟

الحرب العسكرية الروسية على أوكرانيا أطاحت بما تبقّى من هالة لدى روسيا كدولة «عظمى». فالحرب أثبتت أن الدولة «العظمى» الروسية لا تملك جيشاً قادراً على حماية «عَظَمتِها» حتى على أبواب روسيا. والدولة الروسية «العظمى» لا تملك اقتصاداً ناجحاً يُمكن التسويق له كنموذج حول العالم، لا بل تأكدت سلبية نموذجه في البلدان التي اعتنقته في ظلِّ الشيوعية. والدولة الروسية «العظمى» لا تملك نموذجاً سياسياً للإقتداء به بعد ممارسات الطبقة الحاكمة التي أعقبت سقوط الإتحاد السوفياتي في روسيا.

ومع أن الدولة «العظمى» الروسية تنتشر فوق أوسع بقعة من الأرض على هذا الكوكب، وتختزن أكثر المواد الإستراتيجية، لكنها بالمقابل تفتقر إلى التطوُّر التقني... فهي بالرغم من كلّ هذه الإمكانيات الطبيعية تُصنّف في المرتبة الحادية عشر إقتصاديّاً في العالم، بدخلٍ قومي يُعادل 1400 مليار دولار، بينما الدخل القومي الأميركي (كدولة عظمى) يتعدّى 24000 مليار دولار. ناهيك بالموازنات العسكرية، بحيث أن موازنة الدفاع الأميركية تُساوي 733 مليار دولار، وهي تفوق مجموع موازنات عسكرية لأكبر 25 دولة تليها عسكريّاً. والدولة الروسية «العظمى» تفتقر إلى الصناعات الكبرى والصناعات التكنولوجية المتطوّرة، حتّى أن شركة «غازبروم» الروسية اضطرّت لاستخدام أنابيب ألمانية الصنع لنقل الغاز من روسيا إلى أوروبا الغربية... بالإضافة إلى أوضاعها المالية والمصرفية والتجارية التي تتكشّف يوميّاً عمّا يتوقعه الشعب الروسي من مآس في المستقبل القريب.

لم يبقَ من العناصر التي تكوّن الدولة العظمى لدى روسيا سوى الردع النووي. لكن الردع النووي وحده لا يكفي لتكوين دولة عظمى، إذ إن هذا الردع متوفرٌ في فرنسا وإنكلترا والصين... دون أن تصل أيٌّ من هذه الدول إلى مرتبة «عظمى»، أو تشكِّل ثنائياً قطبياً مع الولايات المتحدة الأميركية. لذلك فالحديث الذي يُطلقه البعض عن تجدُّد القطبين الدوليين، وأن السلام العالمي في خطر بغياب قطبٍ ثانٍ يؤمّن التوازن مع واشنطن، هو كلامٌ يفتقر إلى الواقعية. فالقطب الثاني ليس أمنية بقدر ما هو نتاج عقودٍ وعقود من الجهد والتطوُّر.

والعناصر التي ساعدت الولايات المتحدة الأميركية على تكوين القطب «الأعظم» هي عديدة أهمها ثلاثة: الدولار، اللغة الإنكليزية والإنترنت، والتي ينبثق منها 66 في المئة من التجارة العالمية بالدولار، لغة التواصل بين الشعوب وعصر السرعة في الإنترنت. ناهيك بالسيطرة على بحار العالم ومحيطاته وممرّاته المائية. فهل يُمكن لدولة ما، مهما علا شأنها، أن تصل إلى كلّ هذه المزايا لعقودٍ قادمة، إن لم نقل أكثر؟ طبعاً لا. لذلك فكل رفضٍ لواقع القطب الواحد هو أمر يخرج عن الواقعية ويقارب الوهم.

ما أبيّنه في هذا المقال، ليس ذمَّاً بروسيا التي تربطنا بها كلبنانيين أواصر مودّة وعلاقات تاريخية نبيلة، ولا دفاعاً عن الولايات المتحدة الأميركية التي لنا على سياستها تجاه لبنان الكثير من المآخذ. إنّما لجلاء الحقيقة والتعامل مع الواقع، لأن «السياسة هي فن الممكن». ويبقى السؤال: ما هي الطريق الفضلى للخلاص من هذا الواقع المرير في أوكرانيا الذي ينعكس على معظم شعوب العالم؟

تأكدت خسارة بوتين في أوكرانيا: هزيمة عسكرية مُذِلّة، خسائر سياسية دولية ومآس إقتصادية ومالية داخل روسيا. فالعقوبات المفروضة على روسيا تُضايق موسكو، لكنّها تُضايق في الوقت عينه كلّ الدول المتعاملة معها وعلى رأسها أوروبا، غير أن هناك مثلاً بالعامية يقول: «الحمل عالجماعة خفيف». فإذا طالت فترة العقوبات على روسيا من دون أن تُحلّ القضية الأوكرانية، قد نذهب إلى المجهول مع الرئيس الروسي، الذي لن يقبل بهزيمة موصوفة على حدود روسيا، إذ يُخشى أن ينتقل بعدها إلى المحظور، (لا يُمكن محاصرة النمر وهو لا يزال يملك مخالب) وهو لا يزال يملك أسلحة فتّاكة محرّمة. لذلك فالمطلوب من واشنطن وحلفائها الأوروبّيين البحث مع بوتين لإيجاد حلٍّ مرضٍ يحفظ ماء الوجه للرئيس الروسي ويُنقذ وحدة أراضي أوكرانيا وحيادها، بدل الإصرار على القول له : «كش ملك»، أي: إستسلم.

MISS 3