اليانا بدران

جريمة جديدة في سجلّ السلطة... والضحيّة جامعة الوطن

15 نيسان 2022

17 : 40

إسمحوا لي في السطور التالية أن أتخلّى عن موضوعيتي وأتخذ من القضية موقف المنحاز الى الجامعة اللبنانية، ليس لأنني تخرجت منها وتتلمذت على يد "دكاترتها" الذين يتوسّلون حقوقهم وحقوق طلابهم اليوم، وليس لأنني ناضلت على أدراجها المتصدّعة وتعلمت أسس المهنة بين حيطانها المتفتتة وعلى طاولاتها المتزعزعة وفي مبانيها المهددة بالإنهيار ولكن على ما يبدو أن الجامعة بكلّ مكوّناتها ستنهار قبل مبانيها!

مضى على الإضراب أيام طوال، وتحركات ومناشدات الأساتذة ليست بجديدة وكذلك القضايا. نعم القضايا بالجمع، لأنها تحمل ملفات عدّة مرتبطة بعضها ببعض، ويبدو أن الهدف من إطالة أمدها وتأخير الحلول، هو تدمير ما تبقى من أوجه الأمل بمستقبل أفضل لهذا الوطن أو ما تبقى منه من أشلاء، والقضاء على المصدر الوحيد القادر على تعويض الموارد البشرية التي يفقدها لبنان مع كلّ شروق شمس ومغيب أمل، وتذهب الى خارج يقدّر مواهبها وينمّيها ويفسح أمامها مجالات التقدم وتحقيق الأحلام والتميّز. أما لبنان فيقدم لها الإعتزاز بإنجازاتها فقط والتغني بأنها تحمل جنسيته.

في البداية وللوصول الى لب المشكلة تجدر الإشارة الى أن أساتذة الجامعة اللبنانية ثلاث فئات: أساتذة الملاك، المتعاقدون بالتفرّغ والمتعاقدون بالساعة. أساتذة الملاك يعيّنون بمرسوم، المتفرّغون متعاقدون بعقد سنوي قابل للتجديد. وهاتان الفئتان، يتقاضى أساتذتهما أجرًا سنويًا إضافة الى تقديمات صندوق التعاضد، أمّا الأساتذة المتعاقدون بالساعة فهم يتقاضون أجر ساعاتهم من دون الإستفادة من أي ضمانات، وهؤلاء يشكلون النسبة الأكبر من اساتذة الجامعة اللبنانية الذين ينتظرون تفرغهم منذ العام 2014، تاريخ آخر عملية تفرّغ. مع العلم أنه قانونًا، يدخل الأستاذ الى الملاك بعد سنتين من التفرغ بنصاب عالٍ أي بعدد ساعات يتراوح بين 150 و200 ساعة، هذا إذا كان القرار بيد الجامعة اللبنانية وحدها، ولكن وكونها جامعة تابعة للدولة فبالطبع أوجدت لها "فتوى" لتصبح بيد مخالب السلطة بأحزابها التي لا توفر فرصة لنهش مؤسساتها والإستفادة منها لأهوائها ومصالحها الضيّقة وطبعًا بحجج طائفية واهية وتحت عنوان الأعراف، غير آبهين لا بأسس ولا بكفاءات. إنطلاقًا من هنا جاء القرار 42 الصادر بتاريخ 19 آذار 1997 بنقل صلاحيات التعاقد بالتفرّغ من الجامعة اللبنانية الى مجلس الوزراء وبالتالي تكريس تسييس إدارة شؤون الجامعة واستثمارها كأرض خصبة لإجراء التعيينات المفيدة على الصعيد الحزبي وتوسعة قاعدة الولاءات عبر خدمة من هنا وخدمة من هناك.

يشكّل حاليًا اساتذة الملاك نسبة قليلة من أساتذة الجامعة اللبنانية في حين يشكل المتعاقدون 70% من هنا الحاجة الملحّة الى الإسراع في البت بملف التفرغ، الحجج "الواهية" التي تتفضل بها الجهات المسؤولة تتراوح بين عدم القدرة على دفع حقوق الأساتذة إذا تم ضمهم الى الملاك وبين تحقيق التوازن الطائفي. ولكن الحقيقة هي أنّ ملفي التفرغ والملاك يتم ربطهما (لأسباب سياسية حزبيّة مرتبطة بتقاسم الجبنة) بملف تعيين العمداء الـ 20، ينضم إليهم رئيس الجامعة و16 ممثلًا يتم انتخابهم في الكليات. بحسب التقسيم الطائفي يتم توزيع العمداء على الشكل التالي: 10 من حصّة المسيحيين، 4 من حصّة الشيعة بالإضافة الى رئيس الجامعة، 4 من حصّة السنّة، وعميد واحد درزي. تبعًا للقانون الذي أعطى صلاحية التعيين لمجلس الوزراء، تتم تسمية 3 عمداء عن كلّ كلّية وتحال الأسماء الى وزير التربية الذي يحيلها بدوره الى مجلس الوزراء لتعيين عميد كل كلّية.

الأسماء محالة منذ 2018 الى وزارة التربية وبينها اسم رئيس الجامعة الذي كان مطروحًا لعمادة كلّية العلوم، وأسماء أخرى أحيلت الى التقاعد في كليتي طب الاسنان والطب، أي أن اللائحة لم تعد صالحة للبتّ بها. مع ذلك يصرّ أقطاب السلطة المتحجّجون بالحفاظ على حقوق طوائفهم على تقاسم الكليات فيما بينهم ولكن تحت مسمّى القانون.

وزير التربية السابق الياس بو صعب، الذي وبحسب ما أفادت مصادر الجامعة اللبنانية، قد قام بسلسلة تعيينات في خلال توليه الوزارة متخطيًا القوانين والشروط التي ينصّ عليها القانون وضمّ أساتذة من دون شهادات دكتوراه أو حتّى لم يعلّموا يومًا في الجامعة الى الملاك، وهو اليوم الجهة المكلّفة التفاوض لحلّ الخلاف القائم على تقاسم الحصص في ملف العمداء.

هذه المصادر أكدت لموقع "نداء الوطن" أن أجواءً إيجابية لاحت يوم الأربعاء الماضي في الملف حين اجتمع بو صعب مع وزير التربية الحالي عباس الحلبي إلاّ أنها نسفت. وفي التفاصيل فإن رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط كان تخلّى في المجلس السابق عن حصّة الدروز من العمادة بتبنيه عميد كلّية الطب الذي كان آنذاك سنيًّا، ما رفع حصّة السنّة الى خمسة، واليوم يصرّ السنّة (الرئيس نجيب ميقاتي والنائب بهية الحريري) على الحصول على خمسة عمداء أيضًا ما يعني أن حصّة الدروز ستؤخذ من الشيعة (حركة أمل) الذين يرفضون التخلي عن عمادة كلّية الطب. في المقابل، يصرّ التيار الوطني الحرّ على عمادة كلّية الآداب التي يطالب بها السنّة.

الحلّ المرفوض

في الاجتماع الأخير، وبحسب مصادر مطّلعة لموقع "نداء الوطن"، تخلّى السنّة عن كلّية الطب مقابل الحصول على عمادة كلّية الإعلام إلا أن التيار الوطني الحرّ رفض ذلك، كما وأنّه تم طرح ترشيح أسماء جديدة لأن الأسماء المطروحة لم تعد مطابقة للشروط في عدد من الكليات إلا أن التيار الوطني الحرّ رفض هذا الطرح أيضًا. وتعتقد المصادر أن ذلك الرفض يأتي من خلفية خوفه من عدم نيل الحصّة التي كان قد نالها في السابق من الناحية الحزبية وليس الطائفية المنصوص عليها في القانون.

في المقابل، أكّد مسؤول المكتب التربوي في التيار الوطني الحرّ روك مهنّا، لموقع "نداء الوطن" أن المسألة متعلّقة بعدم تطبيق القانون 66 الذي ينصّ وبشكل واضح على حصّة كلّ طائفة من العمداء، ويعتبر أنه بتطبيق القانون لا يمكن لحركة أمل الحصول على عمادة كلّية الطب، وأشار الى أن الحركة تطرح إسماً على عمادة هذه الكلّية من خارج الترشيحات وآخر في كلّية العلوم. وشدد على أن الوزير السابق الياس بوصعب وفي جلسة التفاوض الأخيرة مع وزير التربية عباس الحلبي شدد على أن الأسماء مرفوعة منذ 2018 داعيًا الى تطبيق التعيينات بناءً على القانون 66 فتحلّ المسألة، وهو غادر الإجتماع بانتظار ما سيقوم به الوزير في هذا الصدد. أمّا السنّة، وبحسب مهنّا فهم مصرّون على خمس كلّيات إحداها ستؤخذ من حصّة المسيحيين، وقد حاول التيار مفاوضتهم على التخلي عن هذا المطلب مقابل الحصول على أحد المفاوضين في مجلس الجامعة (وهما بالعرف مسيحيين) إلا أنهم رفضوا.

إذاً أصابع الإتهام التي وجّهت للتيار الوطني الحرّ حول تعطيل ملف التعيينات وجهها بدوره الى وزير التربية، واعتبر مهنّا أنه من الواضح ألا نيّة لدى المعنيين بتعيين مجلس للجامعة اللبنانية.

من كلّ هذه المشاحنات والتقسيمات لا يهّم أساتذة الجامعة اللبنانية إلا مصيرهم ومصير طلابهم والجامعة التي تضمّ أكثر من 86 ألف طالب ينتظرون استكمال عامهم الدراسي، وأكثر من 5 آلاف أستاذ ينتظرون إنصافهم، هذا ما أكّده لموقعنا د. عبدالله محيي الدين وهو أستاذ في معهد العلوم الإجتماعية في الجامعة اللبنانية، متعاقد منذ 12 سنة، واستنكر ما تقوم به الجهات المعنية بالملف من خلال التذرّع بالقانون بهدف تحقيق المحاصصات الحزبية على حساب مصلحة الجامعة اللبنانية وطلّابها وأساتذتها.

وكشف عن سلسلة خطوات تصعيدية يجري النقاش حولها ومنها التقدم باستقالة جماعيّة وهو أمر بالغ الخطورة ويهدد مصير الطلاب ووجود الجامعة اللبنانية، بالتوازي أكد محيي الدين أن الاجتماعات والمشاورات مستمرة مع الجهات المعنيّة بهدف الضغط باتجاه الحلحلة.

وحذّر من محاولة إقرار ملف العمداء وتأجيل ملف التفرغ، إذ أن الإنتخابات على الأبواب وبعد انجازها ستصبح الحكومة بحكم تصريف الأعمال وسيؤجل الملف لسنتين على الأقل الى حين انتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة جديدة ما سيؤدي الى هجرة أكثر من 70% من أساتذة الجامعة اللبنانية أو ذهابهم الى الجامعات الخاصّة. وحمّل محيي الدين السلطة السياسية بأحزابها وطوائفها كافّة مسؤولية ما يحصل في الجامعة اللبنانية.

بعد استعراض كل تلك الوقائع، يبدو جليًا أن فيروس المحاصصة تحت شعار حقّ الطائفة آخذ بالتفشي في جسم الجامعة اللبنانية كما تفشّى سابقاً في مؤسسات الدولة كافّة ونجح في نحرها ببطء. وكما حصد الاستهتار وقلّة الضمير فيما مضى أرواحًا وضحايا دفنوا تحت ركام هذا الوطن مع أدلّة الجريمة واستمرّت الحياة، ستحصد أنانية هؤلاء المتحكمين بمصائر طلاب هذا الوطن وأساتذته إغتيال الجامعة اللبنانية، جامعة الوطن، وفيما بعد موت آخر معالمه.

فهل الهدف من كل هذه "المهزلة" تخويف الطلاب من الجامعة اللبنانية وتحتيم نهايتها مع مرور الزمن عبر تهجير أساتذتها و"تهشيلهم"، كي تستقطب جامعاتهم الخاصّة المزيد من "الزبائن"؟ وماذا سيكون مصير طلابها في ظلّ دولرة الاقساط؟