فلين كولمان

الأدلة الرقمية أساسية لمحاسبة بوتين على جرائم الحرب

19 نيسان 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 05

المدعية العامة الأوكرانية إيرينا فينيديكتوفا تعرض صوراً موثقة للإعتداءات الروسية على أوكرانيا
تصاعد السخط العالمي بعد انتشار صور مريعة عن أنقاض مدينة "بوتشا" الأوكرانية التي تحررت حديثاً. بعد مرور خمسة أسابيع على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، غصّت الشاشات بفيديوات وصور وقصص عن الأعمال الوحشية التي يتعرّض لها المدنيون الأوكرانيون في هذه المنطقة من ضواحي كييف (صور صادمة لأشخاص مكبّلين بملابس مدنية، جثث نساء محروقة وعارية، مقابر جماعية...). أمام هذه المشاهد، غرّدت رئيسة الوزراء الإستونية، كايا كالاس: "هذه ليست ساحة معركة بل مسرح جريمة".

بدأت منظمات حقوق الإنسان تجمع الأدلة على حصول جرائم حرب، بمساعدة الأجهزة الرقمية المنتشرة في كل مكان وبالتعاون مع الصحافيين، والمسؤولين العسكريين، والأجهزة الاستخبارية مفتوحة المصدر، والمحققين السيبرانيين، والمدنيين على مواقع التواصل الاجتماعي. يبدو حجم الوثائق التي تجمعها هذه الجهات غير مسبوق. لكن رغم الضجة التي تُحدثها التصريحات العلنية حول انتهاك القانون الدولي، يجب أن تترافق هذه التُهَم مع إجراءات شاقة وتُستكمَل بأدلة دقيقة ومقبولة لإدانة المرتكبين.

اليوم، تدور المعركة الكبرى الرامية إلى إقناع الرأي العام بالحقيقة في العالم الرقمي. لهذا السبب، سارع المسؤولون عن الحملات الدعائية الروسية إلى إطلاق حملة تضليل منسّقة ومستهدفة فور انتشار الصور من "بوتشا"، فاعتبروا تلك المشاهد شكلاً من "الاستفزاز" و"الإنتاج المفبرك". اعتبر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، تلك المذبحة "اعتداءً مزيفاً". ونشر وزير الدفاع الروسي موقفه على "تلغرام"، فقال إن جزءاً من تلك الصور "مفبرك". كذلك، اتّهمت حسابات موالية للكرملين على مواقع التواصل الاجتماعي "النازيين الأوكرانيين" بارتكاب مجزرة "بوتشا"، وقد وصلت أصداء هذه الخدعة إلى الصين.

لجأ الكرملين إذاً إلى شعار تقليدي ("لا تصدقوا ما ترونه!") لزيادة الارتباك محلياً، فخدع بذلك الشعب الروسي الذي يميل أصلاً إلى التشكيك بهذه الأعمال الوحشية. عمد جيش من الناشطين الموالين للكرملين إلى تضخيم النسخة التي طرحها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الأحداث الميدانية، فنشروا الأكاذيب واتخذوا جميع الخطوات اللازمة لتحقيق هدفهم، بدءاً من اعتبار الضحايا في "بوتشا" مجرّد ممثلين مدرّبين يتم اللجوء إليهم في وقت الأزمات، وصولاً إلى فضح اللقطات المزيفة (عادت التحقيقات مفتوحة المصادر وكشفت ألاعيبهم).

لكن قد تصبح هذه اللحظات المأسوية نقطة تحوّل حقيقية. اذ بدأت منظمة "هيومن رايتس ووتش" توثّق عدداً كبيراً من "انتهاكات قوانين الحرب"، وهي تجمع الأدلة وإفادات شهود العيان التي تشمل قصصاً مريعة حول استعمال الإعدام التعسفي والاغتصاب كسلاح حرب. انتشرت أيضاً فيديوات بيانية تظهر فيها جثث المدنيين وتم التحقق منها. ويبدو أن صور الأقمار الاصطناعية تؤكد وجود مقبرة جماعية في "بوتشا". لن تكون هذه المشاهد آخر أعمال وحشية يكتشفها المحققون. تُعتبر النزاهة في توثيق جرائم الحرب أساسية، وسيكون جمع البيانات المرحلة الأولى من هذه العملية.

وفق القانون الإنساني الدولي، لا يدخل العنف العرضي أو "الأضرار الجانبية" في خانة جرائم الحرب، إذ يجب أن تثبت الأدلة أن الأحداث تصل إلى مستوى أعمال الحرب غير المشروعة، ويصعب تعقب هذا النوع من العنف في زمن الحرب. يبدو حجم المواد المُجمّعة حتى الآن غير مسبوق. في أوكرانيا، يعمل محققون محترفون وهواة (داخل البلد أو عن بُعد) على غربلة المنشورات المرتبطة بالاعتداءات للتأكد من صحتها. وينظّم آخرون طرقاً لإشراك المدنيين في عملية جمع الأدلة. حتى أن الموقع الإلكتروني التابع للحكومة الأوكرانية يطلب من الناس تقديم الأدلة.

تدعو منظمات متعددة، بما في ذلك "هيومن رايتس ووتش"، إلى إنشاء مخزون مستقل لحماية البيانات الاستدلالية المهمة. لكن تتطلب تعقيدات جرائم الحرب مواجهة الوقائع الرقمية المستحدثة.

يقوم عدد كبير من المحققين بهذا النوع من العمليات منذ سنوات، بدءاً من ميانمار واليمن وصولاً إلى العراق وسوريا. من الواضح أن عملية جمع الأدلة في أوكرانيا تستفيد من الدروس والعلاقات المستخلصة من تجربة توثيق الأعمال الوحشية في سوريا. أنتجت الحرب السورية "بروتوكول بيركلي" في العام 2020، وهو دليل خاص بالاستعمال الأخلاقي والفاعل للمعلومات الرقمية ومفتوحة المصدر لإجراء تحقيقات حول انتهاكات حقوق الإنسان الدولية.

إلى جانب الجماعات الاحترافية والأفراد المنتشرين ميدانياً في أوكرانيا، ينشط فريق متوسّع من المتطوعين العاملين عبر الإنترنت، وقد أصبح هذا النوع من الفِرَق جزءاً أساسياً من التحقيقات بجرائم الحرب. هم يقدّمون المساعدة أيضاً عبر التحقق من المواد ويستعملون تقنيات تحديد الموقع الجغرافي وأدوات أخرى في عملهم.


تملك جماعة EyeWitness مثلاً كمية من الموارد لمساعدة الجهات التي توثّق الأعمال الوحشية. كذلك، يسجّل "مختبر أدلة المواطن" التابع لمنظمة العفو الدولية انتهاكات حقوق الإنسان، ويستطيع أي شخص أن يتعقب الاعتداءات التي أطلقتها روسيا وتحققت منها هذه الجماعة حتى الآن. بالنسبة إلى هذه المنظمات كلها، تُعتبر البيانات مقبولة إذا كانت نتاج عمل محققين مدرّبين أو أدلة جمعها المواطنون. هي تستعمل مجموعة متنوعة من التقنيات للتحقق من الأدلة، بدءاً من تحليل البيانات الوصفية وصولاً إلى فحص الصور عبر مطابقتها مع أنماط الطقس وتعقب الرحلات وقواعد بيانات الحرائق من وكالة "ناسا". قد تُستعمَل أيضاً الرادارات، وأجهزة كشف الضوء والمدى، وصور الأقمار الاصطناعية، بحثاً عن أدلة تثبت وقوع الاعتداءات. في الوقت نفسه، قد تسمح بيانات تجارة الأسلحة بتحديد مصدر التسلّح. في جميع الأحوال، يُفترض أن يؤكد شهود عيان حقيقة الأحداث.

تسجّل جماعة Bellingcat من جهتها ادعاءات مشكوكاً فيها في جدول بيانات "غوغل"، وهي تستعمل خريطة زمنية تفاعلية (TimeMap) كوثيقة حية لتسجيل الأضرار المدنية. كذلك، تستخدم هذه الجماعة المعلومات العلنية حصراً وتُركّز بشكلٍ أساسي على العنف ضد المدنيين. وتُستعمَل منصة Discord المُصمّمة في الأصل لهواة الألعاب لتنظيم مجتمع الاستخبارات مفتوح المصدر الذي توسّع بدرجة هائلة منذ بدء الحرب.

يصل جزء كبير من الأدلة التي تتلقاها Bellingcat عبر "تلغرام" الذي أصبح أسهل مصدر لمعرفة المعلومات بالنسبة إلى الأوكرانيين، علماً أن رجلَي أعمال روسيَين كانا قد صمّما هذا التطبيق في الأصل (هما يعيشان في المنفى اليوم). انضم مئات آلاف الناس إلى "جيش تكنولوجيا المعلومات" الأوكراني (IT army) على التطبيق حيث تمتزج الأدلة مع الأكاذيب والأخبار المزيفة، بما في ذلك حملات التضليل الروسية المستهدفة. على غرار جميع المنصات الاجتماعية يفتقر "تلغرام" إلى التنظيم، ما يعني أنه يعجّ بالمعلومات الدقيقة والكاذبة في آن. من "فيسبوك" إلى "تيك توك"، يتعرّض المستخدمون للأكاذيب طوال الوقت. نحن نعيش اليوم في عصر "انهيار السياق" حيث تكثر الجماهير والمحتويات على المنصة نفسها. لذا تكون هذه التطبيقات سيفاً ذا حدّين.

بدأت الجيوش الإلكترونية تتوسّع، وهي تشمل فِرَقاً متنوعة من المقرصنين وخبراء التكنولوجيا الذين يقاومون الحرب الافتراضية الروسية. يطلق المبرمجون هجمات سيبرانية لتعطيل المواقع الروسية والدفاع عن الأصول الرقمية الأوكرانية. تشارك جماعة Anonymous في هذه النشاطات أيضاً، وأصبح الأوكرانيون وحلفاؤهم حول العالم جزءاً من هذه المعركة السيبرانية، فيستهدفون جميع القطاعات الروسية، بدءاً من الاتصالات وصولاً إلى النقل.

في الوقت الراهن، يرتكز جزء كبير من هذه الاستراتيجية على هجمات "حجب الخدمة الموزّعة" التي تستطيع تعطيل المواقع المسؤولة عن الحملات الدعائية الروسية، فيصبح الوصول إلى الموقع مستحيلاً بسبب حركة الإنترنت المفرطة. يفوق عدد خبراء تكنولوجيا المعلومات عتبة المليون شخص في روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا (290 ألفاً في أوكرانيا وحدها)، وقد أصبح عدد كبير منهم عاطلاً عن العمل اليوم ويحاول الانضمام إلى هذه الحملة. يقوم المتطوعون بجميع النشاطات المحتملة، بدءاً من ترجمة المواد عبر الإنترنت وصولاً إلى تحديث المواقع الإلكترونية.

يُركّز معظم المحاربين الرقميين على القتال في الفضاء السيبراني والسحابة الإلكترونية، لكن تشمل شبكة الإنترنت أيضاً معدات ملموسة مثل الخوادم، والأسلاك، وكابلات الألياف، والبنية التحتية الخاصة بالإرسال، وتحتاج هذه المعدات كلها إلى صيانة دائمة. منذ بدء الحرب، قطعت أوكرانيا اتصالها بشبكة الكهرباء الروسية ووصلت نفسها بشبكة الاتحاد الأوروبي عبر مزامنة شبكاتهما الكهربائية، فأنهت بذلك عملية كانت لتبقى رمزية وتمتد على سنة كاملة خلال أسبوعَين فقط.

عندما بدأت القوات الروسية تستهدف أبراج القنوات التلفزيونية في جميع أنحاء أوكرانيا (إنها جريمة حرب أيضاً)، انتقلت الحكومة الأوكرانية إلى إرسال الإشارات عبر الأقمار الاصطناعية والشبكات الخليوية التي أصبحت بنية تحتية أساسية في هذه الحرب. كذلك، يدير الأوكرانيون الكابلات الجديدة انطلاقاً من أقبية في كييف اليوم (يستطيع الناس أن يطلبوا الاتصال بشبكة الإنترنت أثناء وجودهم في الملاجئ) لإبقاء المدينة متّصلة بالشبكة ومطّلعة على آخر المستجدات.


لا تزال شبكة أوكرانيا سليمة لأن البلد حرص على تدعيم البنية التحتية الرقمية خلال السنوات التي سبقت الحرب. أو ربما لا تستهدف روسيا الأنظمة الأوكرانية بطريقة شاملة لأنها تحتاج إلى هذه التكنولوجيا أيضاً لمتابعة اتصالاتها العسكرية والتجسس على أوكرانيا. سواء تعلّق السبب بالرؤية الاستراتيجية أو السياسات المعتمدة أو الحظ بكل بساطة، لا يزال جزء كبير من الشبكات الأوكرانية ناشطاً، ويبدو أن الأدوات الرقمية التي يستخدمها الروس كأسلحة سيبرانية في عملياتهم قد تصبح الأداة المناسبة لمحاسبتهم.

في زمن الحرب، تقضي مهمة البشرية بعدم الإغفال عن الوقائع، والاعتراف بالأعمال الوحشية عند حصولها، والسعي إلى محاكمة مجرمي الحرب وتحقيق العدالة. لكنّ الشيطان يكمن في التفاصيل دوماً، وتتطلب أي محاكمة ناجحة لمرتكبي جرائم الحرب مهارات قانونية وتكنولوجية معاً في خضم المساعي الشاقة لاكتشاف الحقيقة.


MISS 3