لم يعُد أولوية الأولويات بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي

"الكابيتال كونترول" يضرب المودع والتاجر والمستثمر... والاقتصاد عموماً

02 : 00

جان رياشي

يؤكد جان رياشي رئيس مجلس ادارة مصرف FFA Private Bank أن مشروع قانون الكابيتال كونترول المطروح للنقاش يشرعن كل الذي حصل مصرفياً منذ ما بعد 17 تشرين الأول 2019، مثل الليلرة التي قد تأخذ عشرات السنوات لرد الودائع الدولارية لأصحابها بالوتيرة القائمة حالياً.

ويوضح في حوار مع «نداء الوطن» أنه مع اقرار هذا القانون لن يستطيع المودع المطالبة بحقوقه كما يريد، وهذا يناسب من لا يريد المضي قدماً بطروحات صندوق النقد الدولي التي وضعت في رأس الأولويات الاصلاحية اعادة هيكلة القطاع المصرفي. بينما ورد ذكر الكابيتال كونترول في آخر سطور بيان الصندوق، وذلك ناتج، ربما، عن وعي ما بخطورة هذا القانون ظرفياً. وفي ما يلي نص الحوار:




ما المخاوف التي يثيرها اقرار قانون الكابيتال كونترول؟


الخوف هو من اقرار القانون ثم التقاعس عن اجراءات أخرى، وأبرزها اعادة هيكلة القطاع المصرفي تحت تأثير قوى ضغط (لوبيات) تتقاطع على هدف واحد حتى لو هي من خلفيات مختلفة ولا تتشابه دوافعها. سنكون حتماً أمام أطراف غير راغبة بتطبيق الاصلاحات المطلوبة من صندوق النقد، لا بل ستأخذ على عاتقها عرقلتها، وهي لا ترغب الا بقانون يحمي تعاميم مصرف لبنان التي تتعرض لأحكام ضدها في لبنان وخارجه. إن فلسفة ادارة الأزمة منذ تشرين أول 2019 كانت قائمة على سحوبات بأسعار يحددها مصرف لبنان، أو إتاحة الدفع بالشيكات المصرفية، أو دفع الوديعة بالشيك عند كاتب العدل بغية إبراء ذمة المصرف. ثم صدرت أحكام باتت تحول دون ذلك أو تطعن فيه. أمام هذه المستجدات بات القطاع المصرفي محشوراً بعد تعاظم الضغط القانوني على البنوك ومصرف لبنان. علماً بأنه سبق لمجلس شورى الدولة تأكيد أن تعاميم مصرف لبنان غير قانونية، ثم حصل ما حصل لاحقاً لوقف مفاعيل ذلك الرأي القانوني.

لنكن واضحين: ليس لمصرف لبنان حق تشريع رد الودائع الدولارية بالليرة، فاذا بمشروع الكابيتال كونترول يأتي لانقاذ الموقف وازالة الضغط باطلاق يده في هذا المجال.

ماذا لو زال الضغط؟

مع ازالة الضغط يبرز خطر عدم المضي قدماً بالاصلاحات المطلوبة من صندوق النقد. وهذا ظلم للمودعين حتماً، لكنه ظلم للبنان واقتصاده عموماً. فاذا استمر الوضع على ما هو فاننا امام قطاع مصرفي زومبي يعمل من دون رسملة ولا يقدم خدمات تمويل وائتمان، وسيستحيل دخول مصارف جديدة، ما يعني الحاق الضرر الجسيم بالاقتصاد.

لكن المصارف ستتعرض لدعاوى جديدة... فما العمل؟

لست ضد «تجميل» بعض الاوضاع من منطلق الحؤول مرحلياً دون استمرار رفع الدعاوى في الخارج. لأن من يحصل على حكم باسترداد وديعته هو في نهاية الأمر يسترد أموالاً من اجمالي حقوق الآخرين. الأفضل هو ايجاد صيغة موَقتة لإيقاف مفاعيل تلك الدعاوى في مقابل تسريع الاصلاحات.

لقد وضع صندوق النقد الدولي شرط اعادة هيكلة القطاع المصرفي في المقدمة لانه استوعب خطورة الأوضاع. اذ كان الكلام سابقاً عن أن الكابيتال كونترول مطلوب وبسرعة من الصندوق، فتبين الأمر خلاف كذلك. والدليل أن الصندوق، وعندما أتى على ذكر الكابيتال كونترول في بيانه، أورده في سياق شرط توحيد اسعار الصرف لاحقاً.

لذلك سقطت كلياً حجة أن الكابيتال كونترول أولوية قبل أي اولوية أخرى، فاي استعجال بعد ذلك يدرج في باب الريبة والشك في دوافع الداعين إليه.

بشأن وقف الدعاوى، اقترحت وضع قانون بمادة وحيدة تقنن التحاويل الى الخارج حتى تتم اعادة هيكلة القطاع المصرفي خلال مدة قصيرة من 3 الى 6 اشهر، وهي فترة كافية مبدئياً للقيام بالاصلاحات.

لكن القانون ضمن رزمة كاملة من الاصلاحات... أليس كذلك؟

اذا نفذ لبنان الاصلاحات فلا يحتاج الى كابيتال كونترول، إذ لم يعد هناك من فائض دولارات يمكن لاحدهم سحبها على حساب غيره. بشأن الأموال الجديدة الداخلة الى لبنان والتي هي بيت القصيد بالنسبة لنا، لأنها الهدف الاول وليس منع خروج الأموال هو الهدف، فما قد يقر كما ورد في مشروع القانون المطروح سيشبه بنتائجه ما حصل في بلدان اخرى افريقية على سبيل المثال لا الحصر، بينما نحن في اقتصاد منفتح تاريخياً عملاً بقواعد السوق، مع تنظيم ما من الدولة، لكن بقواعد السوق الحر الذي يميز لبنان ولا مصلحة لنا في التخلي عنه.


ما هي المضار التي ستلحق بالتجارة جراء اقرار القانون؟

وفقاً للقانون، فاذا كنت تاجراً ترغب في عمل شرعي تذهب الى البنك لايداع ليرات تحصل مقابلها على دولارات لتحويلها للاستيراد، استيراد مواد أولية للصناعة او استيراد لزوم حاجات الاستهلاك المحلي. وبين الشروط الا يكون لديك دولارات «فريش» في حسابك، مع ابراز الفواتير التي تبرر التحويل. ما قد يعني طابور انتظار بالاضافة الى انتظار لجنة على عاتقها اتخاذ القرار في تحديد الاولويات والأحقيات. قد تتعرض العملية برمتها الى وساطات ومحسوبيات وفساد ربما. والأخطر هو امكان عدم وجود كمية دولارات كافية لجميع الطلبات. ما يحتم الانتظار لأشهر طويلة في الوقت الذي يريد فيه التاجر تلبية طلب آني.

ما الآثار السلبية الأخرى؟

وبين الآثار السلبية ايضاً أن من لا يرغب بالانتظار امام منصة صيرفة، سيذهب الى السوق السوداء التي ستنشط أكثر مما هي اليوم. ومن يرغب بالسفر أو عليه تحويل طارئ لأسباب معينة خاصة بالتعليم أو الصحة او حتى شراء منزل في الخارج قد لا يستطيع التحويل لسبب او لآخر. لذا سيتوجه الى السوق السوداء لشراء حاجته من الدولارات ومن ثم تحويلها، وقد تنشط عمليات النقل في الشنطة ايضاً.

سنجد في الطابور التاجر الشرعي والملتزم بالقانون، أو الشركة الملتزمة بالقانون هي او شركتها الام محلياً أو خارجياً. ومن يريد حاجته كيفما اتفق ولا يعبأ بالقانون سيتوجه الى السوق السوداء. في الحالة الأخيرة واذا كان الأمر متعلقاً بشركة، وعند عرض الميزانية سيتوقف المدقق عند الأرقام التي يعتبرها غير شرعية لأن الأسعار الواردة فيها مختلفة عن سعر صيرفة. واذا أتت وزارة المالية لتدقق في الحسابات لزوم الضرائب فانها لا تعترف بالعمليات الحاصلة خارج صيرفة، واذا اقرت بها ستفرض عليها ضريبة ارباح أعلى من ربح العمليات نفسها. وسنجد من لا يعبأ بكل ذلك، ولا يعبأ بوزارة المالية ولا بشرعية عملياته من عدمها لأن بامكانه الحصول على واسطة لتجاوز القانون. من ستقع على رأسه مفاعيل القانون سيجد نفسه دخل عنوة بالتنافس مع المخالفين فقط لمجرد أنه اختار ان تكون اعماله شرعية وفقاً للقانون وأسعار صيرفة.

أما المستثمر الاجنبي فسيسأل نفسه عن كيفية المنافسة في هكذا محيط للأعمال يختلط فيها الشرعي وغير الشرعي.

وسنشهد كيف سيتضخم سوق الكاش (النقدي) في ما يسمى الاقتصاد الاسود. فهل هذا هو الهدف تحت شعار عدم خروج الرساميل ؟ علماً بأن لا رساميل في لبنان لتخرج منه، نحن امام رساميل تدخل فقط، واذا منعناها من الخروج فهي لن تدخل.

الى ذلك، تبقى الخطورة في كيفية استخدام هذا القانون من السلطات السياسية لحماية المصارف وربما لحماية نفسها من استحقاقات أخطر. من هو السياسي الذي سيسمح بتشريع هيركات بنسبة 70% على الودائع خصوصاً الكبيرة منها؟ مع الأخذ في الاعتبار ان الهيركات حاصل، لكن المودع ينتظر لمعرفة مصير امواله ولا يبيعونه إلا الوهم حتى الآن.

وهنا يجب التذكير بأن ما من أحد سيمنح لبنان أموالاً لرد حقوق المودعين، بل لتشغيل الاقتصاد فقط وللاستثمار في البنى التحتية.

كيف ترى شرط اعادة هيكلة القطاع المصرفي الوارد في رأس أولويات شروط الصندوق؟

تحتاج اعادة الهيكلة تشريعاً ينص على هيئة مستقلة عن مصرف لبنان. وورد في بيان الصندوق ان على 14 مصرفاً ان توقع مع شركات عالمية للتدقيق، ما يعني عدم وجود ثقة بقيام الهيئات الاشرافية والرقابية المصرفية المحلية بذلك. ليس بسبب غياب الكفاءات بل بسبب وجود الشك في تضارب مصالح يحول دون اي عمل جدي وموضوعي ومحايد. اعادة الهيكلة المطلوبة تفترض أيضاً التأسيس لنظام رقابي جديد. يجب الفصل بين التنظيم وبين الرقابة على التنظيم، كما الفصل بين الاثنين وبين السياسة النقدية منعاً لتضارب المصالح أيضاً. فمن اسباب الأزمة اشتباك وتضارب مصالح بين السياسة النقدية وتنظيم المصارف والرقابة عليها، ما ادى الى اعتماد سياسة مالية ونقدية عرضت القطاع المصرفي للمخاطر التي باتت معروفة.

أما بوجود هيئات مستقلة فلا مجال للسماح بوضع 60% الى 80% من الأموال في مصرف لبنان، ولا مجال للانكشاف على سندات اليوروبوندز بالنسب والأرقام التي وصل إليها ذلك الانكشاف.

هل ننتظر اعلان المخالفات بعد التدقيق؟

بشأن التدقيق المطلوب في ميزانيات 14 مصرفاً او التدقيق الخاص بمصرف لبنان، لم يأت الصندوق على ذكر المخالفات، ولم يعتبر ان هذا من مهامه. بكلام آخر لم يتحدث الصندوق عن الشق الجنائي في التدقيق. همه الأول معرفة حقيقة الأرقام التي تبنى عليها عملية اعادة الهيكلة. يرمي التدقيق الى معرفة واقع الموجودات وبالتالي تحديد الخسائر.

استخدام أصول الدولة لإطفاء الخسائر؟

يشرح جان رياشي بعض اسباب تأكيد الصندوق ضرورة عدم التوسع في استخدام الموارد العامة لاطفاء الخسائر، ويقول:

فبالنسبة لكبار المودعين يمكن تحويل جزء من حقوقهم الى أسهم في المصارف بالاضافة الى سندات عوائدها من بعض أصول الدولة. اما الكلام عن اعطاء مصرف لبنان أصولاً عامة مثل الأراضي، فكيف سيتصرف بها؟ وخلال اي مدى زمني يمكن تسييل عقارات بهذا الحجم، وكيف سترد الودائع في حالة عدم اليقين هذه؟

ويضيف: الهم الأكبر للصندوق هو استدامة الدين العام التي تقضي الحفاظ على موارد نامية من الاصول العامة. لا يمكن ان تقول الدولة للدائن اقرضني مالاً، أما أموالي فقد منحتها للمصارف. في هذه الحالة ماذا سنقول لحملة سندات اليوروبوندز؟ هل يعقل أن نقول لهم ان لا أموال سترد لهم لأن كل ما لدينا منحناه لمصرف لبنان ليستطيع رد الاموال للمصارف!! لن يقبلوا بذلك بتاتاً.

ويوضح أن ما تبقى من سندات يوروبوندز لدى المصارف المحلية اقل من 10 مليارات دولار مقابل 85 مليار دولار للمصارف في مصرف لبنان. مشكلة القطاع المصرفي مع مصرف لبنان بالدرجة الاولى، بينما مشكلة الأجانب حاملي اليوروبوندز مع الدولة اللبنانية الذين لا يمكن ان يقبلوا بأي حال من الأحوال اعطاء الاولوية في استخدام اصول الدولة لسداد ما للمصارف لدى مصرف لبنان.

كيف سيتصرفون بودائع 75 مليار دولار؟

عن آخر تطورات اطفاء الخسائر ورد الودائع، يتوقع جان رياشي ان خيار الليلرة بات غير وارد كما في الطروحات السابقة، لأن تأثيرها على الوضع الاقتصادي كارثي، وهي في حقيقة الامر عبارة عن بيع للوهم أو هيركات مقنع، يسوقون ذلك كي لا يضطروا لمصارحة الناس بالخسائر التي قد تقع على عاتقهم. اما صندوق النقد فيركز على حماية صغار المودعين، وهنا ربما نتحدث عن 25 الى 30 مليار دولار يمكن أن ترد مقابل 75 ملياراً من غير الواضح كيف سيتصرفون بشأنها.


MISS 3