توفيق شمبور

إسرائيل نفّذت إصلاحات منذ 17 عاماً يجدر النظر في جدواها ونجاعتها

"المريتوقراطية" منطلق إعادة هيكلة واعدة لمصرف لبنان

26 نيسان 2022

02 : 00

النائب: سيدي الحاكم أستغرب مطالبتك بتعديل قانون المصرف المركزي، فكل الصلاحيات بيدك، وعملياً انت من يتخذ القرارات الاساسية.

الحاكم: تماماً لهذا السبب اطلب تعديل القانون لتقليص هذه الصلاحيات!

هذه المداخلة حصلت اثناء انعقاد الكنيست الاسرائيلي في 30 ايار 2005 بعد عدة ايام من استدعاء الحكومة البروفسور Stanley Fischer، النائب الاول السابق لصندوق النقد الدولي ومنحه الجنسية الاسرائيلية توطئة لتعيينه حاكماً لمصرف اسرائيل. وكان الاخير قد طلب من الكنيست تخصيص جلسة استماع له لعرض الخطوط الرئيسية للسياسة التي حددها، وما هي الوسائل المعتمدة فيها وما هي تلك التي اتخذ قرارات فورية بشأنها. وقد خصص القسم الثاني من خطابه لعرض التعديلات التي يرى، بخبرته الطويلة والثرية في امور المصارف المركزية، ان من الضروري ادخالها على قانون مصرف اسرائيل للارتقاء به الى مستوى التحديات الوطنية والعالمية.



4 اقتراحات اصلاحية قدمها ستانلي فيشر ونفذتها اسرائيل

(1) تعديل الهدف الاساسي للمصرف ليصبح تحقيق الاستقرار في الاسعار الى جانب اهداف ثانوية اهمها العمل لاستقرار النظام المالي وتحفيز النمو والعمالة و... تضييق الفوارق الاجتماعية gaps reducing social.

(2) إرساء استقلالية في استخدام المصرف للوسائل التي تمكنه من تحقيق ما تم الاتفاق عليه مع الحكومة، على ان يتم ربط الامور بنظام للمساءلة على اساس checks and balances.

(3) إعتماد نظام ادارة يفصل بين التقرير بأمور النقد حيث تتولاها لجنة خاصة بذلك هي اللجنة النقدية monatery committee، وبين تنفيذ العمليات الجارية وجميع الامور المتعلقة بميزانية المصرف حيث يتولاها مجلس الادارة على نحو يضمن فيه النظام المعتمد آلية مراقبة ذاتية لسير الامور.

(4) إعتماد نظام فعال في تحقيق الشفافية من خلال اعداد التقاريرالسنوية والفصلية وتقارير الادارة والعمليات. (الاقتراحات السابقة غير قائمة في لبنان بل المعمول به احياناً هو نقيضها)

إستجاب رئيس الحكومة الاسرائيلية ووزير المالية سريعاً لمطالب البروفسور Fisher فعملا على اعداد مشروع قانون خاص بها بمواكبة شخصية ومكثفة من الاخير، وتمّ عرض المشروع على الكنيست فأقره بسرعة قياسية.

في لبنان الامور باتت تضغط، بعد تكشف الدور المحوري لمصرف لبنان في الازمة، لاطلاق عملية سريعة هادفة لاعادة هيكلة كل من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، كمقدمة وتوطئة منطقية لمواكبة وقيادة عملية اعادة هيكلة القطاع المصرفي.

من الامور الاساسية التي يتعين التعرض لها في عملية اعادة هيكلة مصرف لبنان موضوع هيكليته الادارية.

في ما يلي عرض مقارن بين الهيكلية الادارية لمصرف لبنان وتلك التي هندسها البروفسور Fischer لمصرف اسرائيل لاستخلاص ما يقتضي استخلاصه من عبر...!

تعيين الحاكم

في لبنان يعين الحاكم من قبل مجلس الوزراء ويعين الاخير اربعة نواب له بعد استشارته وهم يمارسون الوظائف التي يعينها لهم الحاكم.

في اسرائيل يعين الحاكم ايضاً من قبل الحكومة وتعين الاخيرة نائباً واحداً له فقط، ايضاً بعد استشارته. في لبنان تؤمن ادارة المصرف حسب المادة 7 من قانون النقد والتسليف (ن.ت) من: (1) الحاكم يعاونه نوابه الاربعة، ومن (2) المجلس المركزي.

واقع تكليف مرجعيتين متوازيتين هما الحاكم والمجلس المركزي ادارة مصرف لبنان، بمفهوم الـ administration كما ورد في نص المادة 7 ن.ت الذي وضع اصلا باللغة الفرنسية باشراف السيد جوزيف اوغورليان الذي شغل لاحقاً منصب اول نائب حاكم اول للحاكم، هو امر غير مألوف في ادارة المؤسسات والشركات الخاصة والعامة على الاخص المساهمة وقد اثار في التطبيق اشكالات عدة اهمها التالي:

• قلة حوكمة وتفرد بالقرارات وصلاحيات فريدة من نوعها عالمياً.

• مجافاته لقواعد الحوكمة الرشيدة good governance التي تحذر من الجمع بين السلطتين التقريرية والتنفيذية بيد مرجعية واحدة، وهذا ما حصل في مصرف لبنان، فالحاكم ونوابه هم من يمسكون عملياً بالسلطة التقريرية سنداً للمادتين 17 و33 ن.ت وهم الذين يقومون بتنفيذ ما قرروه، ويبدو الامر اكثر جلاء بالنسبة للحاكم الذي حفظت له المادة 18 ن.ت صلاحية تحديد الوظيفة الادارية لكل نائب له. كما منحته المادة 26 وبنص صريح اوسع الصلاحيات لادارة شؤون المصرف العامة affaires courantes وتسيير اعماله على الاخص تطبيق قرارات المجلس.

الطريف بالامر ان مصرف لبنان يحظر على المصارف في عدد من قراراته، آخرها قرار صدر ونشر قبل عدة اشهر بالتعميم الاساسي 154، ما يمارسه هو اي الجمع بين سلطتي التقرير والتنفيذ.





• توجه ملحوظ لتفرد الحاكم بالقرارات الاساسية في ادارة المصرف تؤكده الامور التالية:

(الاول) تفسير معين لصلاحيات المجلس المركزي يرى ان الاخير صاحب اختصاص في الامور المذكورة بوضوح انه صاحب التقرير فيها. وهي معددة حصراً في المادة 33 ن.ت على النحو التالي: تحديد سياسة المصرف النقدية والتسليفية ومعدلات الحسم وفوائد تسليفات المصرف ووضع انظمة تطبيق قانون الـنقد والتسليف وغيرها... اما الامور الاخرى المذكورة في المادة 33 فالمطلوب فقط المذاكرة بشأنها ويعود للحاكم القرار النهائي بخصوصها.

التفسير المذكور كان موضع اعتراضات صامتة عديدة ومتنوعة بين الحاكم ونوابه رفعت احياناً الى المرجعيات الحكومية، حيث تولت الاخيرة تسويتها بالحسنى بصورة موَقتة غير دائمة اهمها موضوع اشكالات التدخل في سوق القطع ووضع نواب الحاكم بعيدين عن تفصيلاته وغيره.

(الثاني) حجز حاكم مصرف صلاحية الاشراف المباشر من قبله على عدد من المديريات، يبلغ عادة ضعف ما يقرره هو لكل نائب له كما يبدو من الرسم البياني الخاص بتوزيع المهام الادارية، ومنها ما هو جد حيوي كمديرية القطع والعمليات الخارجية ومديرية التفتيش والتدقيق الداخلي (والاخيرة منشأة في المصرفين المركزيين الاسرائيلي والسويسري على مستوى مواز لمجلس الادارة). هذا وتمنح المادة 26 ن.ت الحاكم صلاحية تنظيم دوائر المصرف وتحديد مهامها، كما تعيين واقالة موظفي المصرف من جميع الرتب.

و(الثالث) منحى متصاعد في ايلاء الحاكم شخصياً المزيد من الصلاحيات لمعالجة مستجدات الامور، فبات يقبض مع الوقت على صلاحيات لا يجاريه فيها بحق اي حاكم مصرف مركزي في العالم، واقع يسهل فيه تمويه الانحرافات والاخفاقات وايضا تعظيم النجاحات.

فساد السلطة: أعطوه الصلاحيات لحماية مصالحهم

يقول البارون Emerich Acton: «ان السلطة تفسد، وان السلطة المطلقة تفسد بشكل مؤكد»

Le pouvoir corrompt, le pouvoir absolu corrompt absolument.

بالمقابل يرى الرئيس الفرنسي François Mitterrand ان الدولة العميقة، اي النظام (بالتعبير الديبلوماسي) يفرض قبول مقولة ان السلطة المطلقة لها اسبابها الخاصة التي لا تعرفها الجمهورية

Régime oblige: le pouvoir absolu a des raisons que la République ne connaît pas.

في لبنان، واضح ان الاوليغارشية السياسية والمالية والمذهبية التي تقبض فعلياً على مقدرات الامور تفرض، حماية لمصالحها المالية، تمركزاً حاداً للصلاحيات في مصرف لبنان.

لقد عهدت الى الحاكم تباعاً رئاسة الهيئة المصرفية العليا ومن ثم رئاسة هيئة التحقيق الخاصة فرئاسة هيئة الاسواق المالية. هذا ويلحظ مشروع قانون الضوابط الاستثنائية والموَقتة المعروف بالكابيتال كونترول الذي اودع المجلس النيابي قبل عدة ايام انشاء لجنة خاصة، برئاسة الحاكم عملياً، تتمتع لا بل تتحكم بصلاحيات اعتباطية بشأن السحوبات والتقييدات على الحسابات المصرفية.


فصل الرقابة على المصارف عن مصرف لبنان: خروج من الباب ثم دخول من الشباك

وبعد ان تم فصل مهام الرقابة على المصارف عن مصرف لبنان بعد ازمة انترا بضغط من العميد ريمون اده، الذي قال تحت قبة البرلمان ان مصرف لبنان قد اعطي صلاحية الرقابة فلم يحسن استعمالها، لذا يقتضي فصل الرقابة منه على نحو ما هو معمول به في العديد من الدول الاوروبية. الذي حصل انه بعد حوالى الشهرين من انشاء لجنة الرقابة على المصارف حصل تعديل للمادة 188 ن.ت اظهر بوضوح ان حاكم مصرف لبنان ما زال معنياً بالرقابة microprudentielle بشكل مواز للجنة، اضافة الى اتصاله بوضع قواعد العمل الخاصة بالسياسة التسليفية الفضلى للاقتصاد وبتسيير العمل السليم للمؤسسات المصرفية والمالية، كما واجراء التحليلات الاحترازية الكلية analyse macroprudentielle. فقد طالب تعديل المادة 188 ن.ت مفوضي المراقبة ايداع الحاكم جميع التقارير التي ينظموها استنادا للمادة 187 عن اعمال المراقبة الاستثنائية والسنوية بما فيها التسليفات الممنوحة للقائمين على الادارة المصرفية. كما طالبت المادة 10 من القانون 67-28 لجنة الرقابة على المصارف بذات الموجب.

إن ارهاق اي مصرف مركزي،على الاخص حاكمه، باستمرار بمهام جديدة يكون عادة وعلى الدوام على حساب المهمة الاساسية التي هي استقرار النقد، وهذا الانحراف بتثقيل المهام هو مقدمة لانهيارات لاحقة مؤكدة ! هذا ما يسمعه المرء من القيمين على ادارة المصرف المركزي الالماني الـ BundesBank في اية نقاشات معمقة يجريها معهم عن سبب نجاح مؤسستهم الرائدة في ادارة شؤون النقد في بلادهم، ولاحقاً في ادارة شؤون المصرف المركزي الاوروبي الـ ECB ذاته، حيث كان لرجال الـ BundesBank اليد الطولى في وضع توجهات وقواعد العمل في المصرف الجديد الناشئ.

تعدد المهام لا يساعد على تحقيق الهدف الأساس وهو تثبيت الاسعار

في هذا ذكرت مجلة ذي ايكونوميست The Economiste في عددها 28 آب – 3 ايلول 1993، في مقال ورد في الصفحة 68 منها تحت عنوان «مهام المصرف المركزي»، ان مصرفاً مركزياً بمهام متعددة، لن يقوى على القيام بأي منها بشكل جيد. وتستطرد بالقول بان تعدد مهام المصرف المركزي لن يساعد على تحقيق الهدف الاساسي الذي هو تثبيت الاسعار بل على العكس على التأسيس للانحدار.

لقد احسنت الحكومة عندما اعلنت في البندين (7و8) من الفقرة (19) من المذكرة التي اعدتها بشأن السياسات الاقتصادية والمالية انتباهها الى مخاطر تكليف مصرف لبنان باستمرار بمهام اضافية. فقررت سحب النشاطات غير الاساسية من صلاحياته كهيئة التحقيق الخاصة وهيئة الاسواق المالية وغيرها...

في اسرائيل، صلاحيات حاكم بنك اسرائيل جد محدودة اذا ما قيست بتلك الممنوحة لحاكم مصرف لبنان فهو يترأس اللجنة النقدية Monetary Committee المعنية بتحديد السياسة النقدية ومستلزماتها، ويعمل هو ونائبه كعضوين في مجلس ادارة المصرف Administrative Council وهو المجلس المولج بادارة بنك اسرائيل بمعنى الـ administration.






في لبنان: ميل واضح لهيمنة الحاكم على المفاصل الأساسية وجمع الصلاحيات

سبقت الاشارة الى ان المادة 17 ن.ت تعهد بادارة مصرف لبنان بمفهوم الـ administration الى جهتين متوازيتين (1) الحاكم ونوابه الاربعة و(2) المجلس المركزي، مع تسجيل لأهم الشوائب التي تعتري هذا الوضع وهي الميل الواضح لهيمنة الحاكم على المفاصل الاساسية لهذه الادارة واجتماع صلاحية التقرير والتنفيذ بذات المرجعية، أمران لا تقرهما قواعد الحوكمة الرشيدة، وقد تفاداهما المشرع الاسرائيلي بتوجيه من البروفسور Fisher اذ قرر ابعاد حاكم مصرف اسرائيل بعد تنصيبه رئيساً للجنة النقدية من رئاسة مجلس ادارة المصرف، محتفظاً له بمنصب العضوية في المجلس الاخير.

في لبنان: التعيين سياسي تحاصصي وبالباراشوت

التعيين في الحاكمية يتم حسب المادة 17 ن.ت اي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء لاقتراح من وزير المالية ولأشخاص يقتضي ان تتوافر لديهم الشهادات الجامعية والخبرة والصفات المعنوية، ما يعني ان وزير المالية هو المولج مبدئياً باختيار الافضل ممن تتوافر لديهم الشروط المطلوبة قانوناً.

سلبيات هذا الخيار متعددة اهمها التالي:

• إن وزير المالية الآتي عادة من خلفية سياسية تحاصصية قد لا يكون المرجع الافضل في تقييم كفاءة مرشحين يمكن ان يفوقوه جدارة علمية وعملية.

• عدم احترام مآل النص المادة 17 التي ترعى التعيين في الحاكمية، اذ بات وزير المالية، خصوصاً في المرحلة الاخيرة، يكتفي بأسماء المرشحين الذين تودعهم اياه المرجعيات السياسية وفقاً لمذهب كل مرشح بعد ان تم تكريس التحاصص في ما بين هذه المرجعيات. ونجم عن ذلك اعتماد مجلس الوزراء للائحة المرجعيات والتي تضم عادة مرشحاً واحداً لكل منصب خاص بها بدون اي مناقشة او حتى اي مقارنة مع اي مرشح او مرشحين آخرين مقترحين لهذا المنصب. النتيجة ان اسماء اعضاء الحاكمية المكلفين بأهم مهمة تقنية في البلاد وهي ادارة الاستقرار النقدي والتسليفي والمالي ولاحقاً ادوات الدفع كانت تسقط بالباراشوت parachute، واقع لا يضمن بشكل مؤكد على الدوام وصول الكفاءات التي تنشدها المصارف المركزية المعاصرة في قياداتها العليا.

• مخالفة المبادئ التي أرساها الآباء عند صياغتهم لقانون النقد والتسليف واسبابه الموجبة، فقد ذكروا في الاخيرة ان «لا منح الامتياز ولا منح الرأسمال من قبل الحكومة يجب ان يجعلا من مصرف لبنان مصلحة تابعة للحكومة (ومن باب اولى للسياسيين النافذين من خلال وكلاء لهم يزرعونهم في ادارة المصرف)». ان الموضوعية تقضي بالاعتراف ان الواقع المشكو منه الذي تم ارساؤه مع سيطرة الميليشيات على مقدرات الامور مع اندلاع احداث 1975 الاليمة، شهد بالرغم من ذلك ومضات استثنائية مع الحاكمين ادمون نعيم وميشال الخوري تمثلت بمواقف جريئة اتخذت بمواجهة رغبات السلطتين الرسمية والفعلية.

ادمون نعيم فعلها ورفض الانصياع للإملاءات... ولم يستجب للرئيس شمعون

مثالها الابرز عدم انصياع الحاكم ادمون نعيم لاملاءات السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. فقد رفض تنفيذ ما اقرته الاولى من اقراض مصرف لبنان للحكومة مليارات الليرات اللبنانية الا بعد تقديم الاخيرة لضمانات مناسبة كما يحصل عند اقراضه للمصارف (أمر لو تم التمسك به في الاقراض المتمادي للحكومة منذ تسعينات العقد المنصرم لما كان للأزمة الراهنة ان تأخذ المنحى الخطير الذي اخذته).

ايضاً رفض الدكتور نعيم الاستجابة لطلبات الرئيس كميل شمعون عندما كان وزيراً للمالية بدفع المتأتي من اعادة تقييم الذهب للخزينة، مبرراً رفضه بان الربح هو ربح دفتري لا يتحقق قانوناً الا بالتصرف فعلياً بالذهب (موقف استجاب له بالنهاية الرئيس شمعون لكن تم الخروج عليه لاحقاً في مؤتمر باريس 2. جدير بالذكر ان المؤتمر الاخير طالب المصارف بايداعها موَقتا مصرف لبنان قسماً من مواردها بالعملات الاجنبية، مطلب ترسخ لاحقاً ولتاريخه بتعاميم تجبر المصارف بتوظيفات الزامية لدى مصرف لبنان بنسبة معينة من ودائعها بالعملات الاجنبية، اضافة الى الاحتياطات الالزامية المفروضة بهذه العملات. امر اعتُبر في حينه اصلاحاً لكنه كان فعلياً وللاسف، من الامور التي اسست للازمة الراهنة بتخصيصه قسماً مهماً من ودائع المصارف بالعملات الاجنبية للتصرف به بمطلق ارادة مصرف لبنان. امر لا تعرفه ولا يمكن ان تقره اطلاقاً اي من الدول التي شاركت في مؤتمر باريس 2).

أخيراً ربط الدكتور نعيم تنفيذ القرارات القضائية الخاصة بتقسيط ديون التجار بظروف تسمح بضخ كتل نقدية لا تضغط على سعر الصرف في الاسواق، في اعتراض غير مباشر للقانون الذي صدر عن المجلس النيابي وألزم فيه مصرف لبنان باقراض تجاري لا يدخل ضمن المهام المكلف بها المصرف.

ميشال الخوري فعلها ورفض الاستمرار بدعم سعر صرف الليرة

أيضاً الشيخ ميشال الخوري لم يتوان عن مصارحة اللبنانيين باعلان رسمي اثار حنق المسؤولين عليه في حينه بعدم قدرة المصرف المركزي بالاستمرار بدعم سعر صرف الليرة في سوق القطع لنضوب موارد حساب «صندوق تثبيت القطع»، داعياً بشكل ضمني مجلس الوزراء للاجتماع وتقرير ما يلزم على ضوء الامكانيات باعتباره المرجع الدستوري حسب المادة 65 من الدستور للتقرير في السياسات العامة للبلد، توجه مختلف لما اعتمده الحاكم سلامة الذي انطلق من فكرة ان بيانات الحكومات لنيل الثقة كانت جميعها تؤكد على ثبات النقد، ما دفعه الى اطلاق هندسات مالية استقطب من خلالها ادخارات الناس بالعملات الاجنبية في المصارف لاستخدامها في تثبيت سعر الصرف في الاسواق، وفي تلبية احتياجات الحكومة لهذه العملات من دعم وتمويل لزوم المشتقات النفطية وغيره... وهذه الامور ما كانت لتحصل لو بادرالمسؤولون في كلا السلطتين التنفيذية والتشريعية بالقيام بما هو متوجب عليهم دستوراً وقانوناً من طرح سياسة تثبيت سعر الصرف للنقاش والوقوف على تكلفتها والموارد التي تستعمل لتثبيت سعر الصرف.

بداية البدايات: إرساء المريتوقراطية la meritocratie في ادارة مصرف لبنان

بداية البدايات في اي خطة تعافٍ يجب ان تنطلق من اعادة هيكلة القطاع المصرفي. وهذا الامر يستدعي من اجل حصوله بشكل اصولي ومنطقي البدء باعادة هيكلة كل من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف. وهذا لا يستقيم الا بالبدء بارساء ادارة مريتوقراط Meritocrates في مصرف لبنان تم ايضاح عناوينها الاساسية اعلاه عن طريق المقارنة.

ان اشارة الحكومة في البند (4) من الفقرة (19) من المذكرة التي اعدتها بشأن السياسات الاقتصادية والمالية الى ضرورة تعزيز متطلبات تعيين ادارة مصرف لبنان لا يلبي المرتجى. والافضل اعادة صياغة النص على نحو يؤكد اعتماد الـميريتوقراطية في اختيار القيمين على ادارة مصرف لبنان...


في اسرائيل: تنقسم ادارة المصرف المركزي بين هيئتين متمايزتين:

(1) اللجنة النقدية Monetary Committee

مهمتها وضع السياسة النقدية والسياسات الاخرى ذات الصلة بتحقيق أهداف البنك، مثل تحديد معدلات الفائدة والحسم وادارة الاصول السائلة واحتياطيات العملات الاجنبية والتدخل في اسواق هذه العملات وغيرها...

يترأسها الحاكم وتتكون من خمسة اعضاء آخرين: نائب الحاكم، احد موظفي المصرف وثلاثة تعينهم الحكومة من حملة الدكتوراه في الاقتصاد وادارة الاعمال وخمس سنوات خبرة في المجال النقدي والمالي والماكرواقصاد، ترفع هذه المدة الى ثماني سنوات في حال حملة الماجيستير فقط، وترفع هذه المدة الى 10 سنوات للشهادات الادنى.

تعيين الحكومة اعضاء اللجنة حصراً من لائحة مرشحين معدة من قبل لجنة تقصي الترشيحات the Candidate Search Committee.

(2) مجلس الادارة Administrative Council

مهمته تحقيق ادارة فعالة للمصرف، تتضمن مناقشة خطة عمل المصرف السنوية والموافقة على ميزانية المصرف والتقرير المالي السنوي، كما تعيين مدقق داخلي internal auditor للمصرف بناء لاقتراح لجنة التدقيق the Audit Committee.

كذلك يعين المجلس مدقق حسابات خارجياً للمصرف accountant-auditor يرفع تقاريره الى المجلس ورئيس المجلس والى رئيس لجنة التدقيق.

أيضاً ينشر المجلس التقارير المناسبة عن مخططاته واجتماعاته وقراراته واعماله ولا ينشر الميزانية العامة الا بعد مناقشتها في لجنة المال والموازنة في الكنيست وخلال 40 يوماً من اقرارها. (وهذا القيد اي شرط المناقشة المسبقة في البرلمان لميزانية المصرف المركزي قبل نشرها غير معمول به في لبنان).

يتكون مجلس الادارة من 7 اعضاء من بينهم الحاكم ونائبه و 5 اعضاء من الجمهور يتم تعيينهم من الحكومة من ضمن لائحة المرشحين المقبولين المعدة من قبل لجنة تقصي الترشيحات the Candidate Search Committee.

يتم تعيين رئيس المجلس من قبل الحكومة من بين الاعضاء الخمسة وبالتشاور مع الحاكم.

في اسرائيل: لجنة خاصة لاختيار المرشحين وفق شروط علمية وعملية

ينص قانون المصرف المركزي الاسرائيلي على انشاء لجنة خاصة مهمتها اختيار المرشحين للمناصب العليا في المصرف المركزي من الجمهور

Committee for the Search of Candidates from Amongst the Public

تتكون اللجنة من ثلاثة اشخاص: الرئيس تعينه مرجعية قضائية عالية وتكون له خلفية قانونية مميزة والاثنان الآخران من قبل الحكومة بناء لاقتراح وزير المالية بعد التشاور مع الرئيس من الخبراء في الاقتصاد، و/او ممن شغلوا مناصب أكاديمية عليا في مؤسسات التعليم العالي.

مهمة اللجنة اختيار الاشخاص من الذين قدموا ترشيحاتهم من الجمهور وتتوافر لديهم بشكل افضل المؤهلات العلمية والعملية والادبية لتولي المناصب العليا في ادارة المصرف الاسرائيلي. ترفع اللجنة للحكومة قائمة بالمرشحين المقبولين منها مع شرح مفصل عن واقع كل مرشح من بياناته الشخصية ونتيجة المقابلة المجراة معه، ويكون تعيين الحكومة لاعضاء اللجنة النقدية ومجلس الادارة في المصرف من القائمة المذكورة حصراً.

لا بد من شخصية عالمية مرموقة مثل مارك كارني

ان العنصر البشري في الادارة المرتجاة جد حيوي ويمكن الاستئناس هنا بما ذكره السيد David Marsh في كيفية اختيار قادة الـ BundesBank في كتابه المعنون «المصرف المركزي الالماني: المصرف الذي يقود اوروبا» والذي ظل لاسابيع عدة يتصدر لائحة الكتب الاكثر مبيعاً بعد طرحه في الاسواق

The Bundesbank: The Bank That Rules Europe يقول السيد Marsh في كتابه المذكور ان قادة المصرف الاخير يتم اختيارهم حصراً من المريتوقراط Meritocrates ويصف هؤلاء بانهم (1) اثبتوا بالممارسة ريادة وكفاءة وجدارة استثنائية، و(2) اتصفوا باستقلالية في العمل غير خاضعة لاية املاءات من جانب قوى الضغط، و(3) نشروا وادلوا مسبقا بآراء ومواقف ودراسات وتوقعات تكشف عن وجة نظرهم في امور النقد والمصارف المركزية والمال والاقتصاد وغيره، يبنى عليها في استشراق ما سيكون عليه نهجهم في العمل عند تقلدهم لزمام الحاكمية. بالنسبة للبنان من المفيد، بغية تسريع استعادة الثقة بقطاعه المصرفي بشكل مؤكد، ان يتم اطلاق عملية اعادة هيكلة مصرف لبنان باشراف شخصية مرموقة عالمياً في مجال الصيرفة المركزية كما فعلت اسرائيل وانكلترا لتجاوز ازمتين تعرضتا لهما. فالاولى استدعت البروفسور الاميركي Fisher ونصبته حاكماً على مصرفها المركزي بعد منحه الجنسية وازالة سائر المعوقات امام الامر. وذات الشيء فعلت انكلترا باستدعائها البروفسور Mark Carney حاكم مصرف كندا لتولي حاكمية مصرفها المركزي. والاخير افضل من يمكن ترشيحه لقيادة مهمة انقاذ القطاع المصرفي في لبنان من عثراته. فهو شخص مشهود له ليس فقط بكفاءته العلمية والمهنية وبثقافته الواسعة في امور النقد والمصارف المركزية بل ايضا بالجرأة الادبية الرائدة باتخاذ المواقف، من تجلياتها اعلانه الصريح، عندما كان حاكماً للمصرف المركزي الانكليزي، موقفاً متمايزاً عن الحكومة موثقاً بالحجج والارقام بمسألة الـ Brexit. كما يعرف عنه شفافية في العمل ندر ان مارس مثلها اي مسؤول على الاخص حاكم مصرف مركزي في اي بلد، حلقة من حلقاتها تخصيصه في موقع كلا المصرفين المركزيين الكندي والانكليزي على شبكة الانترنت صفحتين خاصتين بتفصيلات نفقات اسفاره طوال مدة ولايتيه !


MISS 3