منير يونس

منظومة تخطط لحماية نفسها بجملة قوانين تضمن لها الاستمرار في الحكم بلا مساءلة

صندوق النقد براء من "كابيتال كونترول" بري وميقاتي

26 نيسان 2022

02 : 00

بري وميقاتي... يداً بيد في السرّاء والضرّاء؟
يستعجل رئيسا مجلس النواب ومجلس الوزراء نبيه بري ونجيب ميقاتي إقرار قانون الكابيتال كونترول، قبل أي إجراء أو تشريع آخر ورد في ورقة التفاهم المبدئي مع صندوق النقد الدولي. إستعجال يرى فيه مودعون وأصحاب حقوق إطلاقًا لعجلة قوانين وإجراءات تندرج جميعًا في خانة التمهيد التدريجي لهدف نهائي ضمني، مفاده العفو عن الجرائم المالية التي ارتكبت في أسباب الأزمة ومسببيها ونتائجها الكارثية والمستفيدين منها.





وعن الصندوق، يمكن الجزم بأنه ليس وراء المشروع المقدم. حتى وإن كان ذكر ضرورة اقرار قانون ما كهذا، لكنه لم يضعه في رأس سلم الأولويات مثل شروط أخرى يتلكأ مجلس النواب في اقرارها. وللمثال يجدر السؤال: لماذا استعجال الكابيتال كونترول وتأجيل اقرار مشروع موازنة 2022 الذي هو بين أولويات شروط الصندوق؟ لأن معظم النواب لا يرون عشية الانتخابات مصلحة في تسريع رفع ايرادات الدولة من 13 الف مليار ليرة الى نحو 39 الف مليار معظمها من جيوب الناس. فهل الناس أجناس: بين مودعين وناخبين؟

شبهات حول من اسقط المشروع سابقاً وعاد ليستعجل اقراره

لم يعد خافياً على أحد من الذي وقف سداً منيعاً أمام «الكابيتال كونترول» بداية الأزمة، حتى لا يحول اقراره دون خروج أموال له ولسياسيين ونافذين ومصرفيين وكبار مودعين وبعض المحظيين الآخرين. فكيف يمكن تبرير الحماسة المستجدة، في حين لا تبرير بعد لذلك المنع أيام كانت الضرورة القصوى سيدة الأحكام، وكان في النظام المصرفي بعض الأموال التي يمكن ضبط تحويلها وتقنين سحبها؟ في الحالتين، آثار المنظومة تدل عليها وعلى مخططاتها. ولا يمكن التذرع اليوم بورقة صندوق النقد بعدما كان نفس الرأس المدبر هو موزع أدوار من أسقطوا أمل حكومة حسان دياب في التوصل الى اتفاق مع الصندوق في 2020. ففي سنتين طارت الطيور بأرزاقها ولم يبق إلا القش.

إسقاط المشروع بداية مشوار صعب ضد المسؤولين عن الأزمة

لن يسكت اصحاب الحقوق، وسيتظاهرون اليوم للحؤول دون اقرار ذلك القانون، في موازاة حرج كبير لنواب وكتل برلمانية غير راغبة في المشاركة علناً في ما يرمي اليه بري وميقاتي ومن خلفهما جمعية المصارف الضاغطة بقوة لإيقاف دعاوى المودعين.

وللعلم فان قانون «الكابيتال كونترول» كما قدم الى المجلس النيابي يحمل في طياته ما يشبه ابراء ذمة (موَقتة ثم دائمة) لمن احتجز الودائع وتعسف في «ليلرتها» الرخيصة بالقطارة. ويرمي إلى تكريس الفصل غير الدستوري بين وديعة جديدة ووديعة قديمة. وما الفصل إلا خطوة أولى تمهد لشطب حقوق ومنع محاسبة شاطبيها والمفرطين بها.

ويتجاوز القانون المقترح قضية استعادة الأموال المهربة الى الخارج من نافذين وسياسيين ليس فقط منذ 17 تشرين 2019، بل منذ علم أولو الأمر قبل غيرهم أن النظام المصرفي آيل للسقوط. وتقدر تلك الأموال، بما فيها أرباح الهندسات المالية، بما بين 30 الى 40 مليار دولار حقيقي خرجت من المصارف في سنوات قليلة، وبقيت «لولارات» او دولارات وهمية بنحو 100 مليار دولار. ولطمس معالم الجريمة يمنعون التدقيق الجنائي، ويستمتعون في بقاء الأرقام وجهة نظر بعيداً من الحقيقة الدامغة التي تدينهم لا محالة.

المنظومة تصرف على نفسها وتستخدم القضاء غير العادل

وللتذكير، حافظت المنظومة على نفسها، غداة اندلاع الأزمة، وقررت بمساعدة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة صرف أكثر من 20 مليار دولار، من اموال المودعين، على دعم السلع في المرحلة الأولى ودعم الليرة على سعر المنصة لاحقاً وتحويل 7 الى 8 مليارات من مصرف لبنان الى المصارف ثم إلى الخارج. وتلك هي «جريمة» أخرى بحق الذين شهدوا بأم العين (الدامعة) كيف تهدر أموالهم لحفظ رؤوس المنظومة، في وقت كانت السلطة وقضاؤها غير العادل يغطيان المصارف في «إذلال» مودعين لا يلوون على شيء سوى تصديق وعود تبين أنها كاذبة في غالب الأحيان.

ومن المفاعيل المنتظرة لمشروع «الكابيتال كونترول» تثبيت حماية المصارف من الدعاوى القضائية، قبل وضوح اي تصور عملي لاعادة هيكلة تلك المصارف، التي أكد صندوق النقد انها بحاجة لرسملة جديدة كبيرة.

وما كف يد القضاء الا حلقة جديدة من سلاسل التسلط على مجرى العدالة لحرف مساراتها كما حصل في معظم القضايا التي رفعت ضد المصارف ولم تصل الى خواتيمها البديهية، أي احقاق حقوق المودعين البديهية.

إلى ذلك، لا تتورع المنظمومة اياها عن تثبيت بند في مشروع القانون ينص على انشاء لجنة من لدنها (فيها وزير المال وحاكم مصرف لبنان) بيدها تقرير كيفية تطبيق القانون المقترح رغم كل الشكوك التي تدور حول اداء حكومة ميقاتي وحاكمية مصرف لبنان وبالتبعية وزير المال. هذه اللجنة تثير حفيظة المودعين الذين يعانون الأمرين من دون أي تطمينات حقيقية على مستقبل «حلالهم»، كما حفيظة التجار والمستثمرين ممن فقد الثقة بهذا النظام.



يعالجون من كيس غيرهم ساعين مطمئنين الى النفاد بفعلتهم

والأنكى أن الحكومة وفي مذكرة وزعتها على النواب ميزت بين المودعين بادعاء حمايتها لصغارهم. وتجاهلت أنه سيصعب جداً التمييز بين المودعين، صغاراً ومتوسطين وكباراً، من دون خطة واضحة المعالم لتوزيع الخسائر والمسؤوليات. فلن يقتنع كثيرون بضرورة التضحية من كيسهم وحدهم في وقت تبقى المنظومة على غيها في الحكم كأن شيئاً لم يكن. ولا يكفي التذرع بأن صندوق النقد أوصى خيراً بصغار المودعين فقط، فالصندوق نفسه أوصى بتعديل قانون السرية المصرفية والتحقيق في الجرائم المالية وصولاً الى استرداد أصول ( منهوبة). فلماذا لا يأخذ النواب التحقيق في الجرائم أولوية لعملهم؟ أم انهم دمى بأيدي الزعماء أصحاب المصالح الكبرى؟

يقفزون فوق ما يريدون ضاربين بالأولويات عرض الحائط

فاذا كانت المنظومة جادة في تطبيق شروط الصندوق، عليها السير سريعاً في جملة اجراءات نصت عليها ورقة التفاهم ترمي الى كشف حقائق حسابات مصرف لبنان والمصارف وكهرباء لبنان. ولا ننسى ما ورد في بيان الصندوق عن تعزيز أطر الحوكمة ومكافحة الفساد وغسيل الأموال وتمويل الارهاب، وتعزيز الشفافية والمساءلة، وتفعيل عمل اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد بشكل كامل، وتعديل قانون السرية المصرفية لمواءمته مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد... بما في ذلك تحديث الاطار القانوني للبنك المركزي وترتيبات المحاسبة فيه.

لم تر الحكومة كما مجلس النواب في ما سبق أولوية كأولوية الكابيتال كونترول. فلا استعجال لإلغاء السرية المصرفية، ولا نية أصلاً لفحص الودائع واحدة واحدة لمعرفة مَن مِن السياسيين والنافذين والمحتالين والفاسدين أثروا على حساب المجتمع بالصفقات المريبة والتهريب والتهرب الضريبي والجمركي. اذا كان السياسيون مطمئنون لنظافتهم، فلماذا لا يبادرون الى كشف ذممهم المالية بشفافية ونشر ما يملكون في ودائع محلية وعقارات وشركات وحسابات خارجية وأصول ثمينة؟ هل يجرؤون؟ بالطبع لا! إذاً كيف سيقنعون اصحاب الودائع بأن عليهم التضحية؟ وكيف سيقتنع اصحاب الحقوق بان التضحية واجبة في وقت ترمي المنظومة الى حماية المصارف من الدعاوى القضائية في الداخل والخارج؟ لماذا يتحملون الغرم وحدهم بينما شارك المصرفيون والمصارف وعملاؤهم الكبار في الغنم في مدى أكثر من عقدين بشتى الوسائل، ابرزها بفوائد زادت على 80 مليار دولار دفعت مقابل سندات الدين العام بالليرة والدولار، فضلاً عن شهادات ايداع في البنك المركزي وهندسات وخلافه؟

مناورات جديدة وتمرير طابات بين المصارف ورعاتها

وعلى سيرة المصارف فان جمعيتها رحبت في 8 نيسان بورقة التفاهم مع صندوق النقد وشدت على يد الحكومة وجهودها التي اثمرت تلك الورقة، وفي 23 نيسان عادت جمعية المصارف وناقضت نفسها لتهاجم الدولة وتهددها برفع قضايا لحفظ حقوق البنوك والمودعين. انقلاب سريع، بتنسيق ضمني مع سياسيين، بعدما لمست المصارف ان صندوق النقد لا يميل الى طروحات انشاء صندوق توضع فيه اصول الدولة يستخدم، او تستخدم ايراداته، لاطفاء الخسائر. وهنا تتعين الاشارة الى ان المنظومة لا تمانع قيام ذلك الصندوق العتيد لكنها اصطدمت برأي صارم من الصندوق يحول دون استسهال الطرح لأسباب متصلة بالموازنة وضرورة حفاظها على ايرادات من الأصول العامة لزوم استدامة الدين العام. اما اذا حصل التصرف بالأصول، برأي الصندوق، فسيصل لبنان الى التعثر مجدداً ويفشل برنامج الاصلاح والانقاذ. الى ذلك يضاف ما هو ضمني، لدى الصندوق أيضاً، بما يختص بضرورة «حشر» المنظومة امام «رعاياها» وعدم مد يد العون لها في طروحات شعبوية مثل رد الودائع عبر تصفية الدولة والمجتمع. فالأجدى يبقى في المساءلة والمحاسبة لمن استطاع إليه سبيلاً.

الفائزون بالانتخابات سيجدون انفسهم عراةً أمام رياح الأزمة

وبما ان الموسم موسم انتخابات، فكل الضربات من تحت الزنار مباحة من هذا الفريق او ذاك، ريثما ينجلي غبار المعركة عن اغلبية نيابية يحشد «حزب الله» للفوز بها ثم ادارتها على قواعد هيمنة سياسية بحتة. إذ ليس لهذا التحالف (غير المتجانس لا سيما بين حركة «أمل» و»التيار الوطني الحر») اي تصور يرسم معالم طريق مالية واقتصادية للبلاد الغارقة في ازمات تنذر بتفاقم الكوارث الاجتماعية، المطلة حكماً على فلتان أمني كما شهدنا في الأيام القليلة الماضية. والأنكى أن ضمن الفريق الواحد هناك تناقضات في طروحات مقاربات الأزمة واتهامات في المسؤوليات عنها.

أما الناخبون فمدعوون الى تصويت سياسي وطائفي، ولا يدور في خلدهم أن الآتي أعظم. فالمنظومة المجددة لنفسها لا تملك ما تعد به الناس كذباً، لا سيما على صعيد ودائع بنحو 100 مليار دولار من غير المعروف بتاتاً كيف ستعود لاصحابها لا اليوم ولا بعد جيل، ربما إذا «نفدت» المنظومة السياسية والمصرفية بريشها بلا محاسبة. كما لم يعِ جمهور ناخبي احزاب السلطة بعد أن تعويضات نهاية خدمة وتقاعد بنحو 9 مليارات دولار باتت لا تساوي شروى نقير.

ولا تملك الاطراف المتحكمة بالبلاد حتى تاريخه اي فكرة عن مصير حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وكيف يجب استبداله من دون ضرر يلحق بحماته.

الى ذلك لا تملك منظومة التسلط قدرة تطمين أحد الى مستقبل الليرة مقابل الدولار في وقت تآكلت فيه القدرة الشرائية لرواتب الموظفين بأكثر من 90%، فيما أزمة الكهرباء تتفاقم حد العتمة الشاملة فضلاً عن تراكم النفايات وانهيارات في قطاعات الصحة والتعليم والجامعة و...

رب قائل أن الناخبين سيحاسبون المنظومة التي اوصلت لبنان الى هذا الدرك، بيد ان الحقيقة خلاف ذلك نسبياً، اذ بدا ان سنتين ونصف السنة فترة غير كافية ليقف اللبنانيون على حجم الكارثة التي حلت بهم. فالمنظومة مارست شتى صنوف تشتيت الانتباه سياسياً وطائفياً وأمنياً من دون نسيان وعود عرقوبية بسحر التنويم المغناطيسي مثل أن الودائع مقدسة وأن الدولة ليست مفلسة...


MISS 3