أسعد بشارة

عن المركب الغريق

26 نيسان 2022

02 : 00

هذا المركب الذي غرق بأهله في بحر طرابلس، هو ابن شرعي للوطن الغريق الذي ارتطم بجبل الفساد والوصاية، فلم ينتبه أهله من الركاب الى مصيرهم المحتوم الا قبل لحظات قليلة من تجرّع كأس الموت.

كانت الفرقة الموسيقية تعزف على سطح «التايتانيك» في وقت كانت تلتهمها المياه، أما «تايتانيك» لبنان فاستمر العزف على سطحه، عشرات الأعوام، وكان اللبنانيون او أغلبيتهم، يستمعون الى الموسيقى الحالمة، كأنهم أشبه بمن يسيرون الى مصير محتوم، على انغام موسيقى مجموعة من السحرة، لا يزالون يعزفون الى اليوم، موسيقى لها مفعول سحري في تخدير العقول.

هل في هذا الكلام ظلم او مبالغة؟ راقبوا الحملات الانتخابية، والوعود الطنانة، واحتساب الحواصل والشعارات الفارغة المكررة، والاطلالات الإعلامية، والخطط الخمسية، والوعود بالحماية والبناء، والتهويل بكون 15 أيار الاخطر في تاريخ لبنان، والتكفير والتكسير، لتدركوا ان نتائج 15 أيار، لن تكون الا سيمفونية السحرة إياها، ذات المفعول المغناطيسي، الذي يحتقر العقول، ويستثير أسوأ لا بل أدنى ما يمكن ان يخرج من الأعماق.

راقبوا ما سيحصل اليوم امام مجلس النواب، هل ستجدون عشرات بل مئات آلاف اللبنانيين المسروقة ودائعهم اعتراضاً على قانون الـ»كابيتال كونترول» الذي يحولهم من مفلسين الى اسرى، لا حرية لهم حتى في مقاضاة من سرق جنى العمر. راقبوا وقوموا بإحصاء الأعداد. إنها بالتأكيد لن تتجاوز عدداً ضئيلاً ممن حضروا أو سيحضرون مهرجاناً انتخابياً لتأليه هذا أو ذاك من أغلبية من تربعوا على عرش الزعامة، طوال عشرات السنوات الماضية.

المحاسبة ليست في تحميل المسؤولية، للغريق وهذا صحيح، ولكن المأساة أن الغرق لم يتبعه بحث واحد جدّي ورصين عن أسبابه. لم تجتمع أغلبية شعبية في لبنان على توحيد الجواب عن سبب الغرق، فلقد اجتمعت اكثرية معتبرة في انتفاضة رفض في 17 تشرين 2019 ، لكن سحرة الموسيقى التي تسبب النوم العميق، أعادوا امساك طرف الخيط، فتفرّق الجمع، وعادوا الى الصناديق يقترعون على وقع الموسيقى اياها، من دون ان يشفع لهم هذه المرة عذر الخوف من المجهول، أو سحر المنافع الآنية التي تشبه تجربة شرب السم من باب التجربة.

على هذا المنوال لا يمكن أن يكون مقبولاً ان تكون الثورة في الشارع، وان تبقى الأصوات في الصناديق على ما هي عليه كل أربع سنوات. هذا سيكون إن حصل في 15 أيار شهادة مؤكدة وربما نهائية، بأن من يعيدون التجديد للمنظومة الحاكمة المتحالفة مع بعضها البعض هم أنفسهم أغلبية اللبنانيين، ما يقود الى القول إن هؤلاء هم اللبنانيون، وأن من يعترضون على هذا التردي هم أقلية لا تملك الا بعض أصوات الاعتراض في الشارع وأمام الكاميرات.

لقد فقدت طرابلس عائلات غرقت بأكملها في البحر، وهناك مئات الآلاف من أبنائها غارقون في ما هو أسوأ من الفقر، فكيف سيكون تصويت أبنائها في 15 أيار؟ الجواب الطرابلسي على هذا السؤال، هو نموذج يمكن القياس به في بيروت والجبل والجنوب والبقاع، في كل مدينة وبلدة، في العاصمة تحديداً التي دمرها انفجار المرفأ، ومنع عنها كشف الحقيقة ومحاسبة آباء النيترات وحلفائهم المرائين.

في 15 أيار سيختبر اللبنانيون بقسوة وبمسؤولية، وربما يكون الاختبار الأخير. لم يتعرض شعب لهذه السرقة الموصوفة لماله وكرامته وامنه على السواء، كما تعرض هذا الشعب. لم ترتكب مجزرة اقتصادية في بلد كما ارتكبت في لبنان. لم تنتهك سيادة دولة كما استبيحت سيادة لبنان. وبعد، ماذا لو تم التجديد على طريقة النسخ، لأركان المنظومة وكتلهم النيابية الصماء، في 15 أيار؟ قد يكون من الضروري عندها أن نواجه الواقع في 16 أيار، بما يتجاوز قصائد الزجل، وما يرمي الى الابد الهروب من الحقيقة بغط الرؤوس في الرمال العميقة.


MISS 3