توفيق شمبور

دراسة قانونية مقارنة بين لبنان وعدد من دول العالم

الاحتياطي الإلزامي: من ضمان للودائع إلى... تبديد للودائع!

23 أيار 2022

02 : 00

عددت المادتان (76 – د) و 77 من قانون النقد والتسليف الامور التي ترعى موجب تكوين الاحتياطي الالزامي وجزاء التخلف عن ذلك على النحو التالي:


الاطار القانوني للاحتياط الالزامي في لبنان

• إن الغاية المتوخاة من الاحتياطي الالزامي هي الابقاء على الانسجام بين السيولة المصرفية وحجم التسليف الذي تستطيع المصارف ان تضعه تحت تصرف الإقتصاد، وبين مهمة مصرف لبنان العامة والتي هي المحافظة على سلامة النقد واوضاع النظام المصرفي والاستقرار الاقتصادي.

• إن مصرف لبنان هو صاحب الصلاحية بالزام المصارف بأن تودع لديه الاحتياطي المطلوب تكوينه.

• إن الوعاء الذي يتحدد على اساسه الاحتياطي المطلوب من المصارف تكوينه هو الودائع والاموال المستقرضة بالليرة اللبنانية (ولاحقاً بالعملة الاجنبية بعد صدورالقانون 28-67) التي يحددها مصرف لبنان، باستثناء التزامات المصارف من النوع ذاته تجاه مصارف أخرى ملزمة ايضاً بإيداع الاموال الاحتياطية هذه.

• يمكن لمصرف لبنان ان يعتبر توظيفات المصارف في سندات حكومية او سندات مصدرة بكفالة الحكومة كجزء من الاحتياطي حتى نسبة معينة يعود له امر تحديدها.

• النسبة القصوى للاحتياطي المطلوب تكوينه هي 25% من الالتزامات تحت الطلب dépôts à vue و15% من الالتزامات لاجل معين dépôts à terme.

• يمكن لمصرف لبنان «ان يفرض نسباً مختلفة على فئات مختلفة من التزامات المصارف ضمن الحدود السابقة. وله كذلك في الحالات الاستثنائية ان يفرض نسباً حدية marginales خاصة دون التقيد بالحدود الآنفة الذكر على ما يزيد من هذه الالتزامات، او من اي فئات منها عن حد معين، او على الزيادة المحققة في هذه الالتزامات او في اي فئات منها بعد تاريخ معين.

• يمكن لمصرف لبنان الزام المصارف بأن تودع لديه احتياط أدنى خاص حتى نسبة معينة من الموجودات التي يحددها المصرف.

• يحق لمصرف لبنان ان يستوفي، عن مبلغ تدني الاحتياط الفعلي عن الاحتياط الالزامي فائدة جزائية يمكن ان تبلغ معدلاً يفوق بثلاثة آحاد المعدل المطبق في حينه على تسليفاته لقاء سندات مالية. ولا يحول ذلك دون تطبيق العقوبات الادارية ذات الصلة. ويمكن لمصرف لبنان الا يطبق هذا الجزاء اذا بدا له ان النقص كان نتيجة حتمية لظروف غير مرتقبة، او اذا كان المصرف الذي ظهر النقص لديه في حالة التصفية.

توجهات تاريخية مقارنة... ماذا حول العالم؟

الاطار القانوني لتكوين الاحتياطي الالزامي في لبنان يتضمن احكاماً منها ما تتوافق ومنها ما تتمايز او حتى تتناقض عما اعتمد في السياق التاريخي في عدد من البلدان الغربية المتقدمة، بخصوص هذا النوع من الاحتياطي. وأهم هذه الاحكام التالي:

• تقديم الاحتياطي الالزامي اداة ضمان تاريخية نسبية لودائع المدخرين ( USA، المانيا، السويد).

(في لبنان لم يربط قانون النقد والتسليف واسبابه الموجبة بنص صريح بين الاحتياطي الالزامي وضمان الودائع)

• عدم جواز اداء اي فائدة على الاحتياطي الالزامي ( USA قانون الـ FED والمانيا ). وهذا الامر كان موضع انتقاد اصوات مصرفية عدة في المانيا بحجة انه يفقد المصارف، بالرغم من ادائها الفوائد للمودعين عن الاحتياطات المكونة، ايرادات مهمة على الاخص في الحالات التي ترتفع فيها معدلات الاقراض وتكون معدلات تكوين الاحتياطي مرتفعة ايضاً. وقد اقترحت الاصوات السابقة السماح لمؤسساتهم بالتوظيف من الاحتياطي الالزامي بسندات خزينة اجنبية، لكن الرد على ذلك كان ان هذا التوظيف مكشوف على مخاطر تقلبات سوق القطع.

(قانون النقد والتسليف لا يتحدث عن اداء فوائد على الاحتياطي الالزامي، ان بالليرة او بالعملات الاجنبية، لكن مصرف لبنان لم يتقيد بالامر في قراره الاساسي رقم 7926 ومنح فوائد للاحتياطي المطلوب تكوينه بالعملات الاجنبية).

• عدم جواز الاستثمار من الاحتياطي الالزامي كلياً او جزئياً في سندات خزينة (هولندا).

(في لبنان قانون النقد والتسليف يجيز اعتبار توظيفات المصارف في سندات حكومية او سندات مصدرة بكفالة الحكومة جزءاً من الاحتياطي حتى نسبة معينة يعود لمصرف لبنان امر تحديدها).

• عدم جواز ادراج الاحتياطي الالزامي ضمن نسب السيولة المفروضة على كل مصرف تجاري (USA قانون الـ FED).

• إمكانية تنزيل الاحتياطي الالزامي استثنائياً لغايات ظرفية ملحة كتمويل اعمال الحرب بشروط معينة مثل توافر نسبة ذهب محددة من حجم الاوراق المتداولة. وايضاً نسبة اوراق نقدية محددة من حجم الودائع(USA).

• الاساس في التطبيق العملي تشجيع المصارف على ابرام اتفاق «جنتلمان» خياري في ما بينها moral suasion على تفاصيل تكوين الاحتياطي. وفي حال الخلاف او التقصير يكون القانون جاهزاً كاساس للتدخل (انكلترا، سويسرا،السويد والمانيا).

• إعتبار الاموال قيد الاطلاع في مصارف خارجية جزءاً من الاحتياطي الالزامي (السويد).

• لا وجود لعلاقة تماهي بين الاحتياطي الالزامي المطلوب من المصارف تكوينه لدى المصرف المركزي والاحتياطيات النقدية réserves monétaires للمصرف المركزي (هولندا).

• يمكن الاعفاء من موجب تكوين الاحتياطي الالزامي على الودائع بالعملات الاجنبية او تخفيض نسبته في حالة حيازة المصرف على ديون مقابلة بالعملات الاجنبية (سويسرا).

شهدت عمليات الاحتياطي الالزامي نوعان من الانحرافات، منها ما هو قديم ومستمر لتاريخه منذ اكثر من عقدين ومنها ما هو مستجد.

الانحراف القديم والمستمر

(1) منح مصرف لبنان في القرار الاساسي 7926 الصادر بتاريخ 19 ايلول 2001 فوائد على الاحتياطي (او تعبير توظيفات حسب منطوق القرار) الالزامي الواجب تكوينه لديه من قبل المصارف بالعملات الاجنبية حصراً وليس بالليرة اللبنانية. تمييز لا سند له في قانون النقد والتسليف الذي لا ينص في الفقرة ذات الصلة اي الفقرة (د) من المادة 76 الى دفع مصرف لبنان اي فائدة مقابل اي احتياطي يكون لديه.

فقط الفقرة (و) من المادة المذكورة تذكر بان الفوائد تدفع من قبل مصرف لبنان على «الايداعات» وليس على «الاحتياطيات الالزامية». والامر الاخير يتماهى مع التوجه السائد في قوانين وممارسات الدول الغربية المتقدمة حيث لا يدفع المصرف المركزي اية فوائد على الاحتياطيات الالزامية المكونة لديه، على اعتبار ان هذه الاحتياطيات هي تاريخياً كما سبقت الاشارة لغايات الحفظ والضمان، ولاحقاً وتفرعاً لمقتضيات ضبط السيولة لحاجات الاقتصاد.

(2) منح مصرف لبنان المصارف في القرار الاساسي رقم 7835 اعفاءات واستثناءات متنوعة وعديدة للموجب الملقى عليهم بتكوين الاحتياطي الالزامي بالليرة اللبنانية لديه. طبيعي ان ينعكس هذا الامر ايجاباً ومكاسب لصالح شرائح المعنيين الذين تتعامل المصارف معهم في اطار هذه الاستثناءات. لكن الامر يشكل بنظر البروفسور Joseph E. Stiglitz حامل جائزة نوبل للاقتصاد لعام 2001 تمايزاً من قبل المصرف المركزي بمنحه افضليات وميزات لافراد او لشرائح معينة في المجتمع. وهذا ما لا يملك المصرف المركزي اتخاذه في هكذا نوع من القرارات، بالرغم من صوابيتها في بعض الاحيان، لان الاخيرة تعتبر عملاً سلطوياً يدخل في صلب صلاحيات السلطة التشريعية، والدليل ان المادة 77 ( ن ت ) قد حددت حصرياً حالات عدم تطبيق مصرف لبنان لجزاء تخلف مصرف عن تكوين الاحتياطي الالزامي المطلوب. وهي اثنتان (1) نتيجة حتمية لظروف غير مرتقبة و(2) حالة التصفية.






الانحراف المستجد:

المس بالاحتياطي الالزامي:

السنة الماضية ارتفع منذ بدايتها الكلام العام عن توجه للمس بالاحتياطي الالزامي ( بالطبع المكون بالعملة الاجنبية) من قبل مصرف لبنان. ما دفع جمعية المصارف الى توجيه كتاب الى حاكم مصرف لبنان بتاريخ 1 نيسان 2021 جددت مضمونه بكتاب آخر حديث في4 نيسان 2022، ضمنتهما التالي:

ما طلبته المصارف

• تأكيد الجمعية على موقفها المعلن بضرورة عدم المس تحت أية ظروف بالاحتياطي الالزامي كونه يشكِّل جزءاً لا يتجزأ من ودائع الزبائن لدى المصارف.

• تحميلها الدولة مسؤولية استنزاف ودائع المصارف لدى مصرف لبنان خلال السنوات الماضية.

• تحميلها مصرف لبنان مسؤولية المس بالاحتياطي الإلزامي، والخضوع للضغوطات التي تمارسها عليه السلطات السياسية، خلافاً لمنطق وروحية قانون النقد والتسليف حيث غاية الاحتياطي الإلزامي تنحصر بحاجات القطاع المصرفي.

• تأكيدها على أن تخفيض معدّل الاحتياطي الإلزامي بالعملات الاجنبية يوجب على مصرف لبنان إعادة المبالغ المحررة للمودعين أصحاب الحق بها. فليس جائزاً استعمال المبالغ المحررة مؤخراً جراء تخفيض المعدّل من 15% إلى 14% لأغراض الدعم.

رد حاكم مصرف لبنان

رد الحاكم على جمعية المصارف تضمن (4) امور وردت كالتالي مع التعليق على كل منها:

الامر الاول: لا تعليق

«إن مصرف لبنان يتمتع بصلاحية تحديد نسب الاحتياطي الالزامي المفروضة على المصارف. وقد أوجَب على هذا الاساس على المصارف تكوين احتياطي إلزامي نقدي بالليرة وايداعه في حسابات مفتوحة لديه».

- لا تعليق

الامر الثاني: جملة تعليقات

«انه يعود لمصرف لبنان وفقاً للسياسة النقدية والمصرفية المعتمدة من قبله، حق تحديد حجم وشروط تسليفات المصارف، وفي هذا الاطار فرض مصرف لبنان على المصارف، اضافة الى موجب تكوين احتياطي الزامي بالليرة، موجب القيام بتوظيفات الزامية تُودَع لديه بالعملات الاجنبية وذلك لقاء فوائد وضمن نسب محددة».

التعليق على ما سبق هو التالي:

(أ) لم يورد قانون النقد والتسليف في اي من مواده تعبير»توظيفات الزامية للمصارف لدى مصرف لبنان» سواء بالليرة اللبنانية او بالعملة الاجنبية. ولم ينص ايضاً على اي حق لمصرف لبنان بفرض هكذا «توظيفات الزامية» على المصارف.

(ب) إن الرجوع الى القرار الاساسي رقم 7926 يظهر ان المواد التي تم الاستناد اليها لتقرير ما قضى به من الزام للمصارف بتكوين توظيفات الزامية بالعملات الاجنبية لدى مصرف لبنان هي التالية: (الفقرة و) من المادة 76 و77 و174 من قانون النقد والتسليف. والاولى اي (الفقرة و) من المادة 76، والتي هي الاصل، تنص على ان «لمصرف لبنان ان يقبل في ضوء الحالة النقدية العامة ودائع لقاء فوائد يحددها المصرف». وهذا النص واضح في ان لا صلاحية لمصرف لبنان بمقتضاه بالزام المصارف باجراء اي توظيف الزامي لديه كما نصت عليه المادة الاولى من القرار الاساسي 7926 والتي ذكرت ان «على المصارف كافة العاملة في لبنان ان تودع لدى مصرف لبنان، لقاء الفوائد التي يمنحها هذا الأخير على الودائع لديه لاجل بالعملات الأجنبية، نسبة 14% من عناصر محددة منها مكونة بالعملات الأجنبية».

اي ان مصرف لبنان استند الى نص واضح تمام الوضوح في انه نص اختياري هو نص (الفقرة و) من المادة 76 ليقوم بفرض «توظيفات الزامية بالعملة الاجنبية لديه».

(ج) ان فكرة الزام مصرف لبنان المصارف بتكوين احتياطات الزامية بالعملة الاجنبية لديه حتى نسبة معينة من الاموال المستقرضة منه تجد اساسها بالحقيقة في (الفقرة د) من المادة 76. وقد كانت هذه الفقرة بالاصل تنص على تكوين الاحتياطيات الالزامية بالليرة اللبنانية فقط. الا ان القانون 28-67 عدل الامر، فباتت تجيز تكوين الاحتياطيات الالزامية بالليرة اللبنانية وبالعملة الاجنبية على السواء.

(د) اسس كتاب حاكم مصرف لبنان فرض «توظيفات الزامية» بالعملات الاجنبية على المصارف على «حق مصرف لبنان في تحديد حجم وشروط تسليفات المصارف». وهو حق اقتبس بالحقيقة من نص المادة 79 ن ت، دون الاشارة في متن الكتاب الى رقم ونص هذه المادة الذي يذكر بوضوح «ان صلاحية مصرف لبنان هي بتحديد حجم التسليف من انواع معينة او الممنوح لاغراض معينة او لقطاعات معينة». وهو نص واضح بانه لا يعطي مصرف لبنان اية صلاحية بالزام المصارف «بتوظيفات الزامية لديه بالعملات الاجنبية».

الامر الثالث: هناك إشكالان

«باستثناء نص المادة 69 من قانون النقد والتسليف الذي يفرض على مصرف لبنان ان يُبقي في موجوداته نسبة من الذهب ومن العملات الاجنبية حفاظاً على سلامة تغطية النقد اللبناني، لم يفرض هذا القانون على مصرف لبنان موجب الاحتفاظ بأي نسبة كاحتياط على موجودات المصارف المودعة لديه (من احتياطي وودائع وتوظيفات إلزامية).

وبالتالي، يمكن لمصرف لبنان استعمال هذه الاموال طالما انه يتقيّد بالنسبتين موضوع المادة 69 المذكورة، وطالما ان هذا الاستعمال يبقى في اطار تحقيق مهام مصرف لبنان وفقاً للصلاحيات المعطاة له بموجب القوانين المرعية الاجراء، لا سيما في المادة 70 من قانون النقد والتسليف التي توجِب على مصرف لبنان المحافظة على الاستقرار الاقتصادي وعلى سلامة النقد بهدف تأمين نمو اقتصادي واجتماعي دائم».

التعليق: ما سبق يثير اشكالين اثنين

الاشكال الاول في القانون.

الاشكال في هذا المضمار هو في تجاوز الخاصية القانونية للاحتياطيات الالزامية، فاذا كانت الودائع والتوظيفات المصرفية لدى مصرف لبنان تنقل الملكية القانونية الكاملة للاموال المودعة والموظفة من قبل المصارف لدى مصرف لبنان الى الاخير بحيث يستطيع التصرف بها من دون اي قيد قانوني خاص، فان الامر ليس كذلك بالنسبة للاحتياطيات الالزامية اذ تنقل الى مصرف لبنان فقط صلاحية حفظ هذه الاحتياطيات من دون التصرف بها، ما يتماهى مع مفهوم الوديعة الاحتياطية خصوصاً اذا كانت الاخيرة الزامية كما هو الحال في الاحتياطيات الالزامية بالعملات الاجنبية المفروضة من مصرف لبنان بالقرار الاساسي 7926 الصادر سنداً (للفقرة د) من المادة 76 ن ت.





الاشكال الثاني في تحديد اولوية الاهداف

الاشكال في هذا المضمار هو الانحراف عن الاهداف الحقيقية والاولية التي يتوخاها عادة اي مصرف مركزي من فرضه للاحتياطي الالزامي وهو ضبط السيولة على الوجه الامثل. في هذا يذكر الاستاذ Remi Jequier في الصفحة 163 من مؤلفه القيم عن الاحتياطات الالزامية والمعنون

La politique de Réserves Obligatoires ان الاحتياطات الالزامية تلعب دور خزان السيولة الذي يملأه المرء في أوقات الوفرة، لمنع الضغط من انفجار الخزانات العادية، حتى لو كان ذلك يعني لاحقاً فتح صمامات الاحتياطي عندما يصبح الوضع أقل سيولة.

Les réserves minimales jouent de cette manière le rôle d’un réservoir de liquidités que l’on remplit en période d’abondance pour éviter que la pression ne fasse éclater les réservoirs normaux, quitte par la suite, à ouvrir les vannes de la réserve lorsque la situation sera devenue moins fluide.

إن اعادة التدقيق ملياً في كتاب حاكم مصرف يظهر بوضوح ان قضية سيولة القطاع المصرفي بالعملات الاجنبية، على اهميتها الخاصة والاستثنائية بالنسبة للاقتصاد اللبناني وللبنانيين، وهي وردت في مادتين تم الاستناد اليهما في اصدار القرار 7926 الخاص بتكوين الاحتياطيات الالزامية بالعملات الاجنبية هما المادة 76 و174، قد غابت عن اهتمامات مصرف لبنان بالممارسة وحل محلها تركيز الاخير على حقه باستعمال وانفاق هذه الاحتياطيات بالعملة الاجنبية من دون اي قيد ولو ادى الامر الى شحها ونضوبها كما هو الامر راهناً.

الليلرة

الامر الرابع: انها الليلرة

«إنّ الاموال التي يتم توظيفها من قبل المصارف في مصرف لبنان، وإن بشكل إلزامي، والتي تصبح من ضمن موجوداته، تبقى ديناً لصالح هذه المصارف بذمة مصرف لبنان الذي سيتولى اعادتها للمصارف عند استحقاقها.

لذلك، وباستثناء ما تنص عليه القوانين العامة، وفي ظل غياب أي نص قانوني واضح يحدد طريقة تسديد أموال المصارف المودعة أو الموظفة لدى مصرف لبنان، يمكن لمصرف لبنان، وبغية تسديد قيمة هذه الاموال، عند استحقاقها، الى المصارف المعنية:

إمّا تسديد المبالغ المتوجبة عليه بالشكل والخصائص ذاتها التي قامت المصارف بتوظيفها لديه وذلك استرشاداً بمبدأ توازي الصيغ والاصول parallelisme des formes وبأحكام المادتين 754 و761 من قانون الموجبات والعقود، وهي توجِب على من يقترض مبلغاً من النقود ان يرد ما يضارع هذا المبلغ نوعاً وصفة.

وإما التسديد بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر صرف الليرة مقابل الدولار الاميركي».

التعليق على ما سبق هو التالي:

(أ) يذكر النص ان تسديد مصرف لبنان للاموال المودعة او الموظفة لديه سيكون بالاسترشاد بمبدأ توازي الصيغ والاصول ووفقا للمادتين 754 و761 (الخاصتين بقرض الاستهلاك) من قانون الموجبات والعقود. والسؤال هو، ومن دون الدخول في صحة توصيف النص للامور، لماذا تم تغييب الاشارة الى المادة 759 التي تنص على ان الاشياء المقرضة «تكون مخاطرها على المقترض»؟

(ب) ان اول اشارة الى التوجه الى «الليلرة « صدرت عن حاكم مصرف لبنان في بداية شهر كانون الثاني 2020 في برنامج «صار الوقت» مع الاعلامي مارسال غانم. اذ ذكر ان المصرف التجاري بامكانه سداد الودائع التي تلقاها بالعملة الاجنبية بالليرة اللبنانية لكن دون الاشارة على اساس اي سعر صرف للدولار.

بعد هذا التصريح مباشرة توقفت المصارف عن رد ودائع الناس اليهم بالعملة الاجنبية. وقامت بسدادها بالليرة اللبنانية مستندة الى تصريح الحاكم وعلى اساس 1500 ل ل للدولار الواحد.

وقد تم آنذاك تدعيم موقفي الحاكم والمصارف بالاشارة الى المادة 192 ن ت التي تخضع من يمتنع عن قبول العملة اللبنانية التي تتمتع حسب المادة 7 ن ت بقوة ابرائية غير محدودة للعقوبات المنصوص عليها في المادة 319 من قانون العقوبات.

مؤخرا تطورت الامور. فبعد عدة اطلالات لحاكم مصرف لبنان اكد فيها عدم المس بالاحتياطي الالزامي (المكون بالعملة الاجنبية) عدل الاخير في كتابه الموجه الى جمعية المصارف عن هذا الموقف. وابلغها ان الاموال التي تم توظيفها من قبل المصارف في مصرف لبنان وإن «بشكل إلزامي» سترد بالليرة اللبنانية من دون تحديد على اساس اي سعر صرف لليرة اللبنانية، في ترداد لما اعلنه في مقابلته مع الاعلامي مارسال غانم.

التدقيق في الامور يظهر للاسف عدم قانونية المواقف السابقة

فالاموال المتلقاة بالعملة الاجنبية، بصورة اختيارية ومن باب اولى بصورة الزامية يجب على مصرف لبنان ردها عملا بالمادة 13 نقد وتسليف والمادة 307 قانون التجارة بذات العملة، وبالليرة اللبنانية في حال قبول صاحب المال بذلك، وفي الحالة الاخيرة يكون الرد بسعر الدولار في التعاملات الواقعية حتى يكون هناك «تعادل في القيمة بين ما تم استلامه وما تم القيام برده حسب منطوق المادة الاخيرة 307.

أما ما تنص عليه المادة 7 نقد وتسليف في ما خص القوة الابرائية للاوراق النقدية من فئة الليرة وما فوق، فهو اعلان يسري فقط على الالتزامات بالليرة اللبنانية وليس على ايفاء الالتزامات المحررة بالعملة الاجنبية، لان الامر يتطلب في الحالة الاخيرة اضافة فقرة على المادة 7 السابقة تفيد عن سعر الصرف الذي يتعين اعتماده للعملة الاجنبية عند السداد بما يعادلها بالليرة اللبنانية، تماما كما فعلت المادة R 30-11 من قانون العقوبات الفرنسي المقابلة للمادة 319 عقوبات لبناني، وفي غياب هذه الاضافة المحكي عنها لا يمكن اعمال المادة 319 لان قانون العقوبات هو قانون خاص ولا يجوز التوسع بتفسيره وتطبيقه الا عند اكتمال جميع عناصر المخالفة في مادة العقاب. هذا ما ذهبت اليه الاستاذة Laure Nurit Pontier المتخصصة في الاشكاليات القانونية للتعامل بالعملة الاجنبية في الصفحة 125 من كتابها المعنون

Le Statut Juridique de La Monnaie Etrangère

وكانت الاستاذة Pontier قد سبق لها ان ذكرت في الصفحة 33 من كتابها ان قبول الطرفين المصرف والمودع التعامل بالعملة الاجنبية، يعني ضمنا (أ) قبولهما باعتماد العملة الاجنبية كضمان ضد اي تراجع في سعر صرف العملة الوطنية، و(ب) تأكد المصرف من قدرته على توفير العملات الاجنبية عند رده المتوجب عليه.

الخلاصة: انه يوم كئيب للبنان بلا ادنى شك

ان كتاب حاكم مصرف لبنان الى جمعية المصارف والذي خلص فيه الى ان سداد المصرف لمستحقات المصارف بذمته، على الاخص احتياطياتها الالزامية لديه بالعملة الاجنبية، سيتم ردها بالليرة اللبنانية هو كتاب كارثي بالمضمون بكل معنى الكلمة على النقد والمصارف، وايضا على المودعين الذين سيتلقون بالنهاية، ولو عن غير حق، تبعات مآل الموقف المستجد لحاكم مصرف لبنان. والشيء الخطير في الموضوع هو ان الحاكم اعتمد على ما يبدو في تبرير النتيجة التي خلص اليها، على خطورتها، الى تفسيرات داخلية في مصرف لبنان لمواد قانونية ذات صلة، من دون طلب لاية استشارة قانونية خارجية تدعم التفسيرات التي رفعت له، ان من مراجع قانونية موثوقة ومشهورة بمجال النقد والصيرفة المركزية او من هيئة حقوقية رسمية مثل هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل.

انه بلا ادنى شك يوم كئيب في تاريخ لبنان، فاحكام الاحتياطيات الالزامية يسنها الآخرون لحفظ السيولة وضمان الودائع... وفي لبنان تفسر النصوص على العكس لتبديد السيولة وتذويب الودائع!

(*) أستاذ محاضر في قانوني النقد والصيرفة المركزية


MISS 3