د. نبيل خليفه

في زمن إستشهاد حسن خالد وصبحي الصالح ورفيق الحريري! التحدّي الإسلاميّ: لبنان وطن نهائيّ لجميع أبنائه!

27 أيار 2022

02 : 00

المفتي حسن خالد "شهيد الرسالة"

أحيت السفارة السعودية في لبنان الذكرى الثالثة والثلاثين لاستشهاد المفتي الشيخ حسن خالد بمبادرة من سعادة السفير وليد بخاري وذلك في إطار الملتقى الثقافي السعودي – اللبناني.

لقد جاءت هذه المناسبة في المكان والزمان المناسبين. فبيروت تسعى لأن تسترجع ألق الفكر والتحرر على الشاطئ الشرقي للمتوسط، ولبنان يعيش المرحلة الثالثة من مسار الكيانيّة اللبنانيّة: من الكيان المفروض، الى الكيان المقبول، الى الكيان النهائي.

ولقد كان للمفتي الشهيد حسن خالد دورٌ مهمّ في رسم ملامح الخط التاريخيّ لهذا المسار، ومن الّذين ساعدوا المفتي الشهيد وعملوا معه وبلوروا أفكاره وخياراته السياسية والايديولوجيّة، الشيخ الشهيد صبحي الصالح ابن الفيحاء طرابلس وأستاذي في مادة فقه اللّغة العربيّة في الجامعة اللبنانيّة. ولقد عمل الرجلان العالمان على بلورة فكر سياسي إسلامي تقدمّي يرتقي بالرؤية الإسلاميّة الى لبنان الكيان، من مجرّد كيان مقبول الى كيان نهائي. وفي هذا الخيار ذروة الالتزام الوطني الذي سيحمل لواءه من بعد ويدفع ثمنه الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

ماذا يعني ذلك؟

وأين يقع دور مفتي الجمهورية الشيخ الشهيد حسن خالد على الخط البياني للكيانيّة اللبنانيّة؟

شغلت مسألة الكيان اللبناني في أبعادها الجغرافية والتاريخية حيّزاً مهمّاً من جدليات الفكر اللبناني بأبعاده الثقافيّة والتاريخيّة والسياسيّة على امتداد ما يزيد على قرن ونصف من الزمن:

من بروتوكول 1861 إلى إعلان لبنان الكبير 1920 الى الاستقلال والميثاق 1943 وصولاً الى وثيقة الوفاق الوطني 1989. وفي كل ذلك كان المطروح، ولا يزال لدى البعض من أبنائه، معنى ومنطلق مفهوم لبنان الانسان الدولة والكيان، ذلك ان الاشكاليّة اللبنانية هي أبعد من النصوص التسوويّة. وكما يقول الأب الدكتور يوسف مونّس «إن لبنان السياسي موجود كأمة (كدولة) معترف بها ضمن استقلالها وحدودها من معظم الأمم، ولكن لبنان كمعطى للقلب والضمير لم يصبح بعد ظاهرة عامة أو ايديولوجيّة فلسفيّة بحيث تفرض نفسها بشكل واضح وحاسم على كل أبنائها».

... على هذا المفترق المصيري بالذات يقع دور المفتي الشهيد حسن خالد للتوجه بأهل السنّة من لبنان المؤقت الى لبنان النهائي فيضحي لبنان لا مجرّد معطى سياسي، بل معطى للقلب والضمير في أعماق كل لبناني.

أولاً: الكيان المفروض.

تقوم الدولة على ثلاثة أسس: الاقليم الجغرافي بحدود مرسّمة. والشعب المقيم على هذا الاقليم، والسلطة التي يمارسها الشعب على كافة أنحاء هذا الاقليم. بعد انهيار السلطنة العثمانية إبّان الحرب العالميّة الأولى قامت في الشرق الأدنى، زمن الانتداب الفرنسي والبريطاني مجموعة دول في المشرق العربي بينها لبنان. كانت الغالبيّة من المسيحيين اللبنانيين الى جانب قيام الكيان اللبناني، في حين لم تكن الغالبيّة الاسلاميّة الى جانب هذا التوجّه. ومع إعلان الجنرال غورو دولة لبنان الكبير عام 1920 اعتبر البعض هذا القرار الفرنسي بمثابة «كيان مفروض» لاصطدامه بعوامل متنوعة منها: تعدّد المذاهب الدينيّة، وتعدّد الايديولوجيات القوميّة. وتعدّد الجماعات الأقلويّة. وتعدّد مصالح الدول الغربية في المنطقة. كل ذلك جعل من لبنان «وطنًا يعيش على حدود الخطر الدائم»، كما يقول ميشال شيحا. وازداد هذا الخطر مع نشوء دولة اسرائيل على حدود لبنان الجنوبية وقيام الدولة السورية التي لم تعترف بالكيان اللبناني إذ هو في نظرها «جزء من ريف دمشق». ولا تزال الى يومنا هذا ترفض ترسيم حدودها مع لبنان. أما فرنسا الدولة المنتدبة على لبنان فقد عمل مندوبوها في لبنان على التفريق بين المواطنين والمسؤولين بانحيازهم الى المسيحيين وجعلهم أهل الحلّ والربط والسلطة والكلمة المسموعة في مختلف دوائر الدولة، الأمر الذي أدّى في العام 1934 الى أمر خطير جداً وهو توجيه رسالة من جانب وجهاء المسلمين السنّة في لبنان الى السيد لافال وزير الخارجية الفرنسي يطالبون فيها بتبادل السكان المسلمين والمسيحيين بين لبنان والبلاد العربية.

ثانيًا: الكيان المؤقت.

ظلّ لبنان في الذهن العام السني كياناً مؤقتاً (Momentané) ليس مقدراً له ان يستمر الى ما لا نهاية. وتجاه الأمر الواقع وفيه فرنسا والغرب من جانب، وكذلك جامعة الدول العربية، وجد رياض الصلح أن أفضل حلّ لهذه الاشكالية ولو مؤقتاً، هو مصالحة أهل السنّة مع الكيان. وهذا ما عمل على تأكيده بالتفاهم مع الرئيس بشاره الخوري. غير ان هذا الخيار المؤقت للكيان المؤقت، لم يستمر طويلاً إذ واجه إشكاليات كبرى عبّرت عنها الحركات العروبيّة الايديولوجيات (البعث العربي الاشتراكي)، والسورويّة (الحزب السوري القومي الاجتماعي) والوحدوية (الناصرية) والقضيّة الفلسطينية (دخول منظمة التحرير في الحرب اللبنانية) جميع هذه التحولات الكبرى في لبنان والمنطقة دفعت أهل السنّة الى إعادة التفكير والعمل والخيارات في موقعهم على الساحة اللبنانية، وخاصة بعد انتهاء الحرب اللبنانية والعمل على ايجاد حلّ جديد للمسألة اللبنانية وهو ما سعت اليه المملكة العربية السعودية من خلال اتفاق الطائف، وعلى قاعدة: ان لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه.

ثالثًا: الكيان النهائي

سعت قوى إسلامية فاعلة للخروج من عقدة لبنان المؤقت الى الحل عبر لبنان النهائي (Définitif)، وهذا يعني الاعتراف بلبنان كياناً قائماً وثابتاً ولا يتغيّر أبداً، وله حدوده المعرّفة والمحدّدة والمرسّمة. وكان من أهم وأكثر القوى فاعلية في هذا الاتجاه، سماحة الشيخ حسن خالد ومستشاره المفكّر والرؤيوي الشيخ صبحي الصالح. وكانت القوى المتضررة من نهائيّة لبنان تدرك خطورة التوجّه الذي تقوم به دار الافتاء. لذا تمّ اغتيال الشيخ صبحي الصالح بمثابة رسالة تهديد وتحذير الى المفتي حسن خالد. وإذ أصرّ المفتي على خياره التاريخي هذا استشهد هو الآخر بعد مستشاره بخمسة أشهر. لكن الشعلة اللبنانية التي أضاءتها دار الفتوى لم تنطفئ ولم تذبل بل ازدادت تألقاً ونوارنيّة. وكان بين الّذين حملوا شعلتها ودعوا الى تحرير الكيانية من القوى المسلحة عبر القرار 1559 الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي أعلن جهاراً ايمانه بلبنان النهائي ودفع الثمن.

...لقد كان الشيخ الشهيد حسن خالد مفترقاً حاسماً في الخيارات المصيرية الكبرى لأهل السنّة في لبنان، فله ولمستشاره وللرئيس الحريري معنى الآية الكريمة: «فأمّا الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكثُ في الأرض».