نيكولا شيخاني

إجراءات تدقيق ومحاسبة وترشيق ورسملة وحوكمة

كيف نُعيد هيكلة القطاع المصرفي؟

30 أيار 2022

02 : 00

جمعية المصارف أمام واقع جديد كلياً

تقع على عاتق المصارف مسؤوليات كبيرة. قبل تفصيل ذلك، علينا أن نعلم أن لدى البنوك مشكلة سيولة ومشكلة ملاءة. في ما خص الملاءة، يذكر على سبيل المثال لا الحصر، ان المصارف دخلت في الهندسات المالية في العام 2016 وبعده. وتلك كانت اكبر الاخطاء التي ارتكبت.

خطأ الانكشاف الكبير على الدولة والبنك المركزي

أن جسامة الخطأ تكمن في الانكشاف الكبير بالدولارعلى مقترض واحد. وفقاً لافضل الممارسات المصرفية الدولية كان يجب الانكشاف على الدولة ومصرف لبنان بنسبة 20% من الرساميل المصرفية، اي بنحو 4 مليارات دولار فقط لكل جهة، بما يساوي 8 مليارات. في الحقيقة بلغ الانكشاف في لبنان أكثر من 20 مرة النسبة المسموحة نظرياً. لماذا؟ لأنه كان هناك استحالة لتوظيف الأموال الطائلة في الاقتصاد والاسواق.

لذا، اقول انه كان من حق البنوك او من واجبها رفض قبول الودائع الاضافية. لكن البنك المركزي قال لهم أودعوا هذه الاموال لدي اعتماداً على أن سعر الصرف ثابت. وأجرى الهندسات المالية التي دفع فوائد عليها 10 ثم 15% وأكثر. وحققت المصارف بين 2016 و2019 ارباحاً صافية بنحو 12 مليار دولار. توزع منها 5 مليارات دولار لمساهمي المصارف، والباقي أعيد ضخه في الرساميل البنكية.

إذاً، الخطأ الأول والاكبر هو الانكشاف على المخاطر الى هذه الدرجة. لدى المصارف رد على ذلك بان الانكشاف الكبير على البنك المركزي ممكن ومسموح. هذه الحجة صحيحة اذا كان الانكشاف بالليرة وليس بالعملات الاجنبية. بالليرة لأن «المركزي» يمكنه طباعتها، اما الدولار فلا يمكنه ذلك.

خطأ عدم المواءمة بين الاستحقاقات

الخطأ الثاني الذي ارتكبته المصارف هو قبول ودائع بمتوسط استحقاق سنة قابلة للتجديد، ووظفوها باستحقاقات في البنك المركزي بين 7 و10 سنوات. وهذا الخطأ يسمى عدم المواءمة بين المدى القصير والمدى الطويل بين الالتزامات والمطلوبات.

كان لدى المصارف فائض ودائع. وتلك الودائع كانت تساوي 3 مرات الناتج المحلي للبنان قبل الازمة. أرادوا تشغيل تلك الودائع علماً بانه كان عليهم عدم قبولها بهذا الحجم الفائض. القاعدة تقول ان القطاع المصرفي يتحمل ودائع حوالى 1.7 مرة الناتج المحلي، الا اذا كان البلد يتمتع باسواق مالية مفتوحة مثل سويسرا والولايات المتحدة.

باتت الخسائر محققة ويجب تثبيتها في الميزانيات

مع توقف الدولة عن الدفع، ومع تبيان ان البنك المركزي صرف معظم الاموال المودعة لديه، دخلت المصارف في ازمة سيولة لذا وقعت في عدم القدرة على تلبية سحوبات المودعين.

الآن، وبعد أن وقعت الخسائر ويحصل تقديرها رسمياً، فعندما يأتي مدقق حسابات أي مصرف لاعداد بيانات آخر العام وتدقيق الميزانية حسب المعيار الدولي رقم 9، عليه تثبيت الخسائر المحققة. لأن الدولة توقفت عن الدفع. وهي تقول بالعلن ان البنك المركزي خاسر بنحو 65 مليار دولار.

لذا تحولت ازمة السيولة الى ازمة ملاءة. وعلى مدقق الحسابات تطبيق المعايير الدولية لا سيما المعيار المحاسبي الدولي رقم 9 حتى يستطيع البنك الاجنبي المراسل الاستمرار في التعامل مع البنك المحلي المعني. بات المدقق مجبراً على وضع الخسائر كما هي.

الخسائر الاجمالية في القطاع المصرفي تتجاوز اجمالي رساميل كل المصارف بحوالى 35 مليار دولار (دولار محلي). إذاً عملياً معظم البنوك مفلسة.

الودائع إنخفضت نحو 50 الى 55 مليار دولار

الفرصة شبه الوحيدة التي كانت امام المصارف لتوظيف تلك الأموال هي تمويل الدولة بسندات خزينة بالليرة، وباليوروبوندز (15 ملياراً) والايداع في البنك المركزي، بالاضافة الى اقراض القطاع الخاص شركات وافراداً: نحن نتحدث عن 100 مليار دولار مقرضة للدولة ومصرف لبنان، و55 ملياراً للقطاع الخاص... هذه كانت الارقام عشية الأزمة. انخفضت الودائع حالياً الى نحو 100 مليار بعدما استخدمت ودائع لتسكير ديون (30 ملياراً) بالاضافة الى 20 الى 25 مليار دولار ذابت، لأن المودع ارتضى اجراء الاقتطاع او الهيركات في السحوبات التي اجراها وفقاً لعدد من تعاميم البنك المركزي التي يمكن وصفها بالتكتيكية التضخمية الخاطئة. تضخمية لأن السحوبات على 8 آلاف على سبيل المثال، تعني 5 مرات سعر الصرف الذي كان قبل الازمة، لذا تضخمت الكتلة النقدية بالليرة.

رغم الأخطاء، فان التعاميم، بغياب خطة شاملة، ساعدت على توفير سيولة للناس لتيسير أمور معيشتها وعدم نزولها الى الشارع، ثم أتت منصة صيرفة... كل ذلك بغية امتصاص الصدمة المالية والاقتصادية. ذلك الامتصاص حصل باستخدام ثروات الناس وليس لخلق القيمة. وهذا ما استهلك 20 الى 25 مليار دولار من الودائع، هبط مقابلها وبنفس القيمة مطلوبات في البنوك. بهذه الطريقة أراح البنك المركزي البنوك بتلك القيمة وأراح نفسه أيضاً بالقيمة عينها.

البنوك مسؤولة ومطالبة برساميلها وموجوداتها

عندما نرفع دعوى ضد بنك ما علينا ان نعلم درجة مسؤوليته في هذه الازمة المتشابكة. اذا نظرنا الى الخسائر التي تحققت في البنك المركزي وفي البنوك سنصل الى نتيجة هي أن 50% تقع على المصارف والبنك المركزي مقابل 50% على الدولة.

اذا كانت خسارة المركزي 65 الى 70 مليار دولار، فلأنه كان يدفع مليارات الدولارات لدعم السلع والمحروقات (دعم هو من واجبات عدد من وزارات الحكومة)، فتكبد «المركزي» خسائر نيابة عن الدولة، علماً بان قسماً كبيراً خرج من لبنان بالتهريب. كما استخدم مليارات الدولارات لدعم الليرة بالاضافة الى اقراض الدولة بشكل مباشر وغير مباشر.

مسؤولية المصارف هي على مستوى أو قدر الارباح التي تحققت من الهندسات المالية، بالاضافة الاخطاء التي ذكرناها وأودت بأموال المودعين. لذا يمكن القول إن رساميل المصارف تبخرت. وهناك بنوك قابلة لهذا الواقع، مقابل بنوك اخرى قليلة وضعها افضل.

علينا انتظار اقرار قانون اعادة هيكلة المصارف. ونبدأ وفقاً لذلك القانون في مراجعة جودة الأصول لكل بنك على حدة، مقابل الالتزامات. لا ننسى ان لدى المصارف اصولاً بحاجة الى اعادة تقييم لان تقييماتها قديمة.

مساهمو البنوك مسؤولون أيضاً بأموالهم الشخصية

عندما نصل الى خسارة بنك ما، ونحدد تلك الخسارة، نقارنها برأس المال ثم بالموجودات لمعرفة النتيجة السلبية وحجمها. بعد ذلك نحدد المسؤوليات وفق تدقيق جنائي لمعرفة سبب الخطأ والمتسبب به وفقاً لقانونين هما: 110/91 و2/67. نبدأ بتجميد أصول حملة الأسهم في البنك (المساهمون) كما أصول مجلس الادارة التنفيذية العليا. نتوقف امام الاخطاء المعنوية والتقنية ونحمل صاحبها المسؤولية ويلاحق على امواله الشخصية.

تبدأ المعالجات بشركة ذات غرض خاص SPV

الى ذلك، يجب تحديد الاصول الجيدة الباقية مقابل الاصول السيئة. نأخذ الاصول المصرفية السيئة ونضعها في شركة استثمار SPV، هي شركة مالية وليست مصرفية، عليها اعادة هيكلة هذه الاصول، وذلك بمساعدة صندوق النقد الدولي.

الاصول السيئة هي عبارة عن 80 مليار دولار لم تعد موجودة، نحذف منها رساميل المصارف، وما تبقى يوضع في شركة الـ SPV مع حصر علاقة اصولها بالبنك المركزي الى حين حل أزمة خسارة «المركزي».

يجب معارضة ما يحكى عنه لشطب 60 مليار دولار كما ورد في خطة الحكومة، بل يجب اعداد خطة لحماية الودائع بقانون يثبت الحقوق ويحميها. ثم اعداد خطة لرد الحقوق لاصحابها حتى لو استغرق الامر 20 سنة.

في مقابل الاصول السيئة في شركة الـ SPV نضع مطلوبات سيئة، ونستعين بمؤسسة التمويل الدولية المتخصصة باعادة هيكلة الاصول المتعثرة كما حصل في عدة دول في العالم. ويجري تمويل هذه الشركة حتى تصغر خسائرها تدريجياً، ويقابل ذلك رد حقوق للمودعين حتى الامتصاص النهائي. وما يبقى غير قابل للامتصاص يسجل خسارة على المودع.

نحن نتحدث عن 10 سنوات اذا بدأنا الآن. مع منع اي استنسابية بين المودعين صغاراً وكباراً وفقاً للدستور في المساواة بين الجميع.

تعديل السرية المصرفية واجراء التحقيقات اللازمة

أما تعديل السرية المصرفية فهو ضروري ويسمح بالتحقيقات الجنائية القضائية اللازمة لكشف الاخطاء وتحديد المسؤوليات. وذلك عبر الاستعانة بخبراء ماليين الى جانب القضاة. قد يستغرق الامر 6 اشهر الى سنة. ونستعين بشركة مثل «الفاريس اند مارسال» المتخصصة في اعادة هيكلة المصارف والشركات.

رفع دعاوى ضد مدققي الحسابات والحصول على تعويضات

هناك مسؤوليات على مدققي الحسابات، لانه يفترض انهم مستقلون وعلميون في اعمالهم، كان عليهم التنبيه منذ سنوات طويلة. يمكن للبنانيين رفع دعاوى ضد هؤلاء وربح تعويضات. سبق وحصل ذلك حول العالم لا سيما في قضية انرون الاميركية للطاقة قبل اكثر من 20 سنة.

المسؤولية الأولى على الدولة ثم مصرف لبنان

لكن المحاسبة الاولى هي للدولة جراء اخطاء مزمنة ومتراكمة على مدى 30 سنة. ثم محاسبة البنك المركزي لأنه ساير الاعيب الدولة ولبى طلباتها باستمرار، مثل دعم السلع فذلك مخالف لقانون النقد والتسليف. كما ان دعم الليرة كان يجب ان يكون ضمن استراتيجية نقدية ولفترة من الزمن وليس لمدة أكثر من 20 سنة متواصلة. بالاضافة الى التورط في التوسع في اقراض الدولة بشكل غير مباشر مثل شراء سندات الخزينة.

حوكمة تشمل «المركزي» والبنوك والهيئات الرقابية

يتطلب هذا السيناريو استقلالية تامة للجنة الرقابة على المصارف، وكذلك هيئة التحقيق الخاصة وهيئة اسواق المال. هيئات تقتصر ولاية اعضائها على فترة واحدة غير قابلة للتجديد.

على صعيد مجالس ادارات البنوك يجب زيادة عدد الاعضاء المستقلين، والتأكد من عدم تراكم الادوار بين الرؤساء التنفيذيين ورؤساء مجالس الادارات، لضمان الاستقلالية الكاملة دون اي تضارب للمصالح. كما ان تفويض مجلس الادارة يقتصر على فترتين غير متتاليتين كحد اقصى (الامر عينه ينطبق على حاكم البنك المركزي ونوابه).

بالاضافة الى ذلك يجب انشاء وحدة رقابية داخلية قوية داخل كل بنك، لضمان تطبيق العمليات والاجراءت بما يتماشى مع معايير الحوكمة الرشيدة. هذا من شأنه ضمان الحد من تضارب المصالح المحتمل، ومراقبة مناسبة للمخاطر تدقيق صارم في العمليات. وسيكون للاعضاء المعرضين سياسياً PEPs حد لا يسمح بتجاوزه لتجنب تضارب المصالح النظامية والمزمنة بين المجالين السياسي والمصرفي.

مليارا دولار من الذهب للمساهمة في رسملة البنوك الجديدة

بنتيجة ذلك، يتحجم القطاع الى نحو 8 الى 10 مصارف تقريباً بما يتناسب مع الحجم الجديد الصغير للناتج المحلي. برساميل جديدة قد لا تتجاوز 6 الى 7 مليارات دولار فقط.

بالنسبة لرسملة المصارف القابلة للاستمرار وعددها بين 8 و10، يمكن استخدام ملياري دولار من قيمة الذهب، فيدخل البنك المركزي في رساميل تلك المصارف بما يشجع بنوكاً اقليمية ودولية على القيام بالمثل، بالاضافة الى 20% من الرساميل تخصص لمساهمين آخرين سواء المساهمين في البنوك القائمة او غيرهم. مع التشديد على أن الذهب يمنع استخدامه لسداد عجز أو دين بل يجب أن يكون أصلاً منتجاً.

(*) مستشار مالي ومصرفي


MISS 3