هند مطر

أسطوانات شيكو: ما تبقّى من عزّ عاصمة نبيلة بحزنها

1 حزيران 2022

02 : 00

الفسحة القديمة الشاهدة على أيام العزّ

لن تمر به مرور الكرام، حتى وإن كنت من الذين يعتبرون الماضي حكاية مُملّة مُسيّجة بغبار الأوهام. شيء ما في الواجهة أو نافذة العرض التي يحلو لديران مارديريان أن يلهو بإطلالتها، يغمز إلى ما تبقّى من أيام عزّ تلك العاصمة النبيلة بحزنها التي تُدعى بيروت. قد تستوقفك القطّة "المُتمترسة" بلامبالاة مُرتاحة في إحدى الزوايا التي تُشرف على شارع الصيداني العريق القائم في راس بيروت. تنغمس في قيلولة "مُتعالية" بعض الشيء (والأكيد أنها مُتثائبة)، وبين الفينة والأخرى تسترق النظر على "الرايح والجايي". أو ربما جذبتك اللمسات الفنيّة التي يحلو لزوجة ديران أن "تقمع" من خلالها أي رقصة عاديّة قد تخطر في بالها الترنّح داخل هذا المحل المُرتّب والمُنمّق عالليبرة.



الأب خاتشيغ المعروف بلقب شيكو



و"بيناتنا" قد يكون اسم الفُسحة هو المُحرّض الأساسي لكي تسمح لنفسك بالتخلّي، وإن للحظات هاربة، عن هذه السرياليّة في الخارج التي نرتديها ثوب أيامنا الراعبة. فإذا بك تنتقل بكل طيبة خاطر، ومن خلال خطوة صغيرة، إلى حيث أسطوانات الفينيل العتيقة تُهدهد خيبتك وتُشعرك بالقليل من الإفتتان. وإن كنت تعرف سلفاً بأنها لحظة أمان عابرة قد تنتهي بين طرفة عين وأخرى.



الموسيقي زياد الرحباني يزور شيكو



أسطوانات شيكو – بيروت 1964

وقد اختار مارديريان هذا الإسم تيمناً بلقب والده، خاتشيغ، المُحبّب، ليُكمل من خلاله الرواية التي بدأها الأب في العام 1964، وما زالت مُستمرة حتى اليوم، وعلى الرغم من كل ما يجري حولنا من جنون. فنجان قهوة وبعض مُلاعبة على رأس القطة التي نزلت من برجها العالي لهُنيهات. ونوادر تُعيدنا إلى تلك الأيام التي بتنا نتحسّر على طيفها.

والديكور الخلفي يبقى بكل تأكيد أسطوانات الفينيل الأصليّة التي يعتني بها ديران بعناية مُفرطة وتعود إلى ستينات وسبعينات القرن الماضي، "وشويّة من الثمانينات"، وهي في الدرجة الأولى أميركيّة وإنكليزيّة وأوروبيّة.

وفي حين تخصّص في إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت بيد أنه وجد نفسه يمضي أيام الفراغ مذ كان مُراهقاً، في مُساعدة والده، "شيكو" في إدارة الفُسحة التي كانت ماضياً تحمل اسم "pick of the pops" وتستقر "على تقاطع أبو طالب". إستلم المكان، على حد قوله، بطريقة طبيعيّة. ففي العام 1982، وبعد الإجتياح الإسرائيلي، أخذ خاتشيغ – شيكو موقفاً سلبياً من الموسيقى بعدما أفلست شركة أسطوانات "زيدا" التي أسسها مع الموسيقي الكبير زياد الرحباني وأنتجت أسطوانة "وحدن"، ومسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟"، ومقطوعة "أبو علي" التي اقتحم من خلالها زياد الرحباني آفاقاً موسيقيّة جديدة لم يتحمّلها الرأي العام آنذاك لما تضمنته من أنغام طليعيّة، فكانت الخسارة كبيرة.



الفسحة بإطلالتها الحديثة



وكانت مسألة بديهيّة أن يتحوّل المحل مقرّاً لعشّاق "الفيديو" لا سيما وأن الناس كانوا سُجناء في منازلهم في العام 1983 بفعل الحرب التي يُقال إنها مرّت من هنا، وكانت شرائط الفيديو أشبه بدور السينما التي تزور اللبناني في سجنه الصغير. وجرت العادة أن يُساعد ديران والده، بعدما سحره العالم الذي نسجه والده من جهة، ولقدرته على التعامل بسلاسة مع العالم وإن إختلفت شخصياتهم من جهة أخرى.

وعندما صار في سن الـ14، "صبلّلي الوالد مفاتيح المحل، وقلّلي نزال فتاح المحل. كنا في تلك الفترة ما زلنا في المكان الأولي ولم ننتقل إلى شارع الصيداني إلا في العام 2004. وتوفي الوالد في العام 2013 وكان سعيداً جداً لأنني تمكّنت من أن أكمل مسيرته وأن أطوّر في المهنة بعد تسلّمي كلياً المكان في العام 1995 وأنا في الـ25 من عمري".

يروي هذا الحالم الذي كرّس حياته من دون أي شعور بالندم لأسطوانات الفينيل القديمة، أن والده فتح الفُسحة الأوليّة وهو في الـ20 من عمره، بعد عمله لفترة طويلة في محل مُتخصّص بالآلات الموسيقيّة والأسطوانات تملكه عائلة صليبي.



ديران مرديريان وريث هذا الكنز الخفي



وفي العام 1976، وخلال الحرب الأهليّة التي استمرّت زهاء 15 عاماً، "حطّوا عبوة حد المحل وراحت الآرمة. ومن وقتها ما عاد الوالد استبدلها"، بحسب ديران. وعُرف المكان الأولي، بعد تلك الحادثة، باسم "شيكو". وحدهم الذين عشقوا عالم الأسطوانات الموسيقيّة واقتنوها، حفظوا الإسم الذي أزالت "العبوة" آثاره.

وبعد تسلّم ديران محل "شيكو"، إنتقل من شرائط الفيديو إلى الـ"دي في دي"، "تحديداً في العام 2000. ففي تلك السنة فُتن الناس بالعالم الجديد والترجمة وإطلالة الأفلام بأكثر من لغة. وبطبيعة الحال كان هذا كله قبل اقتحام عالم الإنترنت". ولأنه كان يعمل كـ"دي جاي" في أوقات الفراغ في الحانات والنوادي الليليّة، "قلت خلّيني بيع أسطوانات. وقلّلي الكريم خود". وراح يشتري المجموعات التي تعب منها أصحابها وأرادوا أن يقدموا لها حياة جديدة. واليوم، يطلب الناس من كل أنحاء العالم أسطوانات الفينيل القديمة والأصليّة التي يُحافظ عليها ديران وكأنها صديقة كل الأيام، "ومن كل الأعمار. بدايةً، إعتقدت أن وحدهم أبناء جيلي سيرغبون في العودة إلى الماضي. ولكنني فوجئت بأن عشق الموسيقى والأسطوانات القديمة ليس حكراً على فئة عمريّة واحدة. فيني قلّك أنو التلتين من زبوناتي تحت سن الـ30".



الفسحة في مقرّها الحالي والقطّة "الدويمة"



في المحل الذي حوّله ديران المنزل القديم الذي يحلو لكل من ملّ غُربة العالم الخارجي الإختباء لهُنيهات في "فيّاته"، نجد كل الأنماط الموسيقيّة، من الجاز إلى الروك، مروراً بأنغام الـSoul التي تُحاكي في الدرجة الأولى روح ديران المُتمرّدة والغائرة في تحويل الحزن نوادر نغميّة تجعلها أكثر نعومةً، وصولاً إلى الأنغام العربيّة والأخرى الكلاسيكيّة. "شوي وشوي عم زيد المجموعة".

يُعلّق ديران بين نادرة وأخرى ورشفة من القهوة اللذيذة وأخرى، "كيف بدي إندم؟ أبداً ما بندم لأنني كرّست حياتي للمكان". يصمت قليلاً ثم يروي أنه، صغيراً، "عشقت أغنية (بوناسيرا) للويس بريما. كنا نملك قرصاً دواراً (Tourne Disque) في المنزل لونه برتقالي. وضلّيتني إسمعها لحتى طلعت الجارة تانت لوريس (الله يرحمها) علينا وراحت تصرخ في وجه جدتي الألمانيّة باللغة الفرنسيّة. يعني على شوي كانت إندلعت الحرب على كل الجبهات!".

ولكن في الواقع، منذ تلك الحادثة إندلعت حرب أشعلها ديران مارديريان على العالم الخارجي، وصارت مسألة بديهيّة أن يختبئ في "فيّات" أسطوانات الفينيل العتيقة في المحل الذي لن تمرّ به مرور الكرام. وإن كنت محظوظاً، قد تنزل قطته المُدللة من برجها العالي مُقابل لمسة أو 2 على رأسها قبل أن تمل منك بصراحة غير لائقة، وسُرعان ما تعود إلى قيلولتها.


MISS 3