حسين حقاني

باكستان تحصد ما زرعته

1 حزيران 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

في آخر عقدَين، ظنّ الكثيرون في باكستان أن خضوع أفغانستان لحُكم حركة "طالبان" سينعكس إيجاباً على الأمن الباكستاني. لطالما دعمت إسلام أباد "طالبان" على اعتبار أن مقاتليها قد يساعدونها على تجريد الهند من أي نفوذ في أفغانستان. لكن أكدت "طالبان"، منذ عودتها إلى السلطة في شهر آب الماضي، أن هذه الفكرة خاطئة على جميع المستويات. لقد تدهور الأمن في باكستان بعد وصول "طالبان" إلى كابول.

أدى انتصار "طالبان" في أفغانستان إلى تقوية جماعة "تحريك طالبان باكستان" المتطرفة. أطلقت هذه الجماعة أكثر من 124 هجوماً إرهابياً في باكستان منذ عودة "طالبان" إلى السلطة، انطلاقاً من قواعد تقع في أفغانستان. وأدت نشاطات هذه الجماعة إلى زيادة الاضطرابات بين إسلام أباد و"طالبان" في كابول. كذلك، أطلقت الضربات المضادة من جانب القوات الجوية الباكستانية سلسلة احتجاجات من السلطات التي تديرها "طالبان". تحدّى حراس أمن الحدود التابعون لحركة "طالبان" الجهود الباكستانية الرامية إلى تسييج الحدود بين باكستان وأفغانستان. واضطر جنرال باكستاني بارز، كان يرأس جهاز الاستخبارات الباكستانية حتى الفترة الأخيرة، لزيارة كابول للتحاور مع جماعة "تحريك طالبان باكستان" بوساطة من حركة "طالبان" الأفغانية.

هذه ليست المرة الأولى التي تتضرر فيها باكستان بسبب دعمها لحركة "طالبان". لم تحقق جهود إسلام أباد الحثيثة لانتزاع اعتراف دولي بنظام "طالبان" وتأمين مساعدات اقتصادية له أي نجاح حقيقي. أوضح المجتمع الدولي أنه لن يسارع إلى الاعتراف بـ"طالبان" إذا لم تغيّر سلوكها. في المقابل، رفضت "طالبان" التخلي عن موقفها المتشدد في مسائل مثل حقوق المرأة والسماح للفتيات بالذهاب إلى المدرسة، لذا بدا إصرار باكستان على تطوّر "طالبان" موقفاً مُضللاً. في عهد "طالبان"، أصبحت أفغانستان دولة منبوذة. اليوم، قد تضطر الحكومة الباكستانية الجديدة لدعم حليف مثير للمشاكل في كابول وشعبٍ متعطش للمال تزامناً مع تعثّر الاقتصاد الباكستاني. كان دعم إسلام أباد المتواصل منذ سنوات قد ساعد "طالبان" على العودة إلى السلطة، لكنه لم يساعد باكستان بأي طريقة.

تجاهلت واشنطن، طوال فترة تورطها العسكري في أفغانستان، مواقف القادة الأفغان والمعارضين الباكستانيين حول الأسس الإيديولوجية العميقة الكامنة وراء دعم باكستان لحركة "طالبان". كان فهم دوافع باكستان ليدفع الأميركيين على الأرجح إلى تخفيف اتكالهم على باكستان خلال حربهم في أفغانستان. كذلك، كان يمكن أن توفّر الولايات المتحدة مليارات الدولارات المقدّمة على شكل مساعدات إلى باكستان رغم فشلها في إرساء الاستقرار في أفغانستان أو تعاونها الشائب في هذا المجال. اعتبر الدبلوماسيون الأميركيون فكرة التهديد الهندي لباكستان عن طريق أفغانستان غير منطقية، وافترضوا أنهم يستطيعون إقناع باكستان بتغيير حساباتها الاستراتيجية. لكن أبلغت باكستان الدبلوماسيين والجنرالات الغربيين بأن العلاقة التي تجمعها مع "طالبان" هي عبارة عن استراتيجية محدودة للتعامل مع عواقب الانسحاب الأميركي الحتمي.

لم تتوقع باكستان أن يكون انسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان مرادفاً لتلاشي اهتمام واشنطن بالمنطقة، بل كانت تأمل في التحول إلى لاعبة مؤثرة إقليمياً، فتصبح قوة خارجية طاغية في أفغانستان والوسيطة الأساسية بين "طالبان" والولايات المتحدة وحلفائها.

رغم الانسحاب الأميركي الشائب من أفغانستان في الصيف الماضي، حافظ المسؤولون الباكستانيون على تفاؤلهم بشأن استمرار تأثيرهم على "طالبان" تزامناً مع الحفاظ على روابط وثيقة مع الولايات المتحدة، لكن كانت حساباتهم خاطئة. من المعروف أن النفوذ يسير في الاتجاهَين. يسيطر جهاز الاستخبارات الباكستاني القوي على "طالبان" عبر الدعم المادي والروابط الشخصية مع كبار القادة. لكن حصدت "طالبان" دعم أطراف قوية داخل باكستان، بما في ذلك رجال دين محافظون وأحزاب سياسية إسلامية. ربما قبلت "طالبان" وشبكة "حقاني" (جماعة قوية داخل الحركة المتطرفة) دعم باكستان طوال سنوات، لكنهما لا تريدان أن تبقيا تابعتَين لها إلى الأبد. لا تزال باكستان الجهة الأقوى في هذه العلاقة، لكن لم يعد ميزان القوى على حاله بعد سيطرة "طالبان" على كامل أفغانستان.

لا يبدي الإيديولوجيون داخل حركة "طالبان" الأفغانية استعدادهم لقطع علاقاتهم مع جماعة "تحريك طالبان باكستان" المسؤولة عن عددٍ من أسوأ الاعتداءات الإرهابية داخل باكستان منذ العام 2007. هاجمت هذه الجماعة مقر الجيش الباكستاني في العام 2009 وأعلنت مسؤوليتها عن هجوم استهدف مدرسة حربية في "بيشاور" وأسفر عن مقتل 145 شخصاً، معظمهم من طلاب المدارس، في العام 2014. حارب الجيش الباكستاني جماعة "تحريك طالبان باكستان" في المناطق التي تحدّ أفغانستان واشتكى في الماضي من تحوّل أفغانستان إلى ملاذ آمن لقادة "طالبان" الباكستانية.

بعد انتصار "طالبان" في أفغانستان، توقعت باكستان أن تلعب "طالبان" الأفغانية دور الوساطة لوقف إطلاق النار بين فرعها الباكستاني والحكومة الباكستانية. لكن فشلت تلك المحادثات، ونفذت باكستان عدداً من الضربات الجوية والغارات بالطائرات المسيّرة ضد مواقع تابعة لجماعة "تحريك طالبان باكستان" في أفغانســـتان. ذكرت وسائل الإعلام الباكستانية أن تلك الضربات حصلت على دعم ضمني من "طالبان" التي تحكم كابول، مع أن المسؤولين في الحركة احتجوا على انتهاك باكستان للسيادة الأفغانية، مثلما كانت باكستان تحتجّ على الضربات الأميركية العابرة للحدود بالطائرات المسيّرة.



خلال تخريج "طالبان" جنوداً خضعوا لدورة تدريب في خوست - أفغانستان، 12 كانون الثاني 2022




بغض النظر عن حقيقة الوضع، أدت أعمال العنف هذه إلى تبديد آمال باكستان بترسيخ الأمن على الحدود الغربية بعد وصول "طالبان" إلى الحُكم. لكن فرض المتمردون القوميون البلوشيون العلمانيون سيطرتهم في محافظة "بلوشستان" التي تحدّ أفغانستان، في جنوب غرب باكستان، بدل أن تنجح "طالبان" في اقتلاعهم من تلك المنطقة. طوال سنوات، لامت باكستان الحُكم الجمهوري في أفغانستان (وداعميه الهنود) على مساعدة الانفصاليين البلوشيين وتسهيل استقرارهم بكل أمان في أفغانستان. لكن منذ سقوط الحكومة وتلاشي النفوذ الهندي في أفغانستان، زادت قوة الجماعات البلوشية على ما يبدو، فأطلقت مجموعة من أخطر الاعتداءات. حتى أنها استهدفت مشاريع البنية التحتية التي تقودها الصين، حليفة باكستان المقرّبة.

وصلت حكومــة مدنية جديدة إلى السلطة في باكستان في شهر نيسان الماضي، بعد إسقاط عمران خان، رئيس الوزراء الذي حكم البلد بالتوافق مع الجنرالات في آخر أربع سنوات. لكن حُجِبت الثقة عنه في المجلس الوطني الباكستاني بعد خسارة الأغلبية التي كان يملكها في المجلس التشريعي، وبعدما امتنع الجيش عن التدخل لإبقائه في السلطة. استُبدِل خان بشهباز شريف الذي يرأس ائتلافاً شائكاً يتألف من أطراف متناحرة توحّدت لإسقاط خان. من المتوقع أن تُحسّن حكومة شريف علاقات البلد مع الولايات المتحدة عبر التخلي عن خطاب خان اللاذع ضد الغرب، لكن من المستبعد أن تغيّر الحكومة سياسة باكستان في الملف الأفغاني الذي يبقى من اختصاص الجيش والاستخبارات الباكستانية.

لا تنوي القيادة العسكرية الباكستانية على ما يبدو التخلي عن رؤيتها العالمية التي تتمحور حول الهند، وتجبرها هذه المقاربة على حماية روابطها الوثيقة مع "طالبان" في أفغانستان. ثمة حاجة إلى تغيير هذا المسار، لكن يبقى هذا الخيار مستبعداً. قد تضغط باكستان على "طالبان" عسكرياً واقتصادياً، فتطالبها بتقاسم السلطة مع فصائل أفغانية أخرى وتعديل جزءٍ من أكثر سياساتها تطرفاً، لكن لن يتبنى الجنرالات الباكستانيون هذا الخيار على الأرجح ويجازفوا بخسارة شريك مهم في صراعهم الاستراتيجي الوهمي مع الهند.

قد يعطي انتصار "طالبان" في كابول آثاراً طويلة الأمد على السياسة المحلية في باكستان وفرص تجديد العلاقات مع الولايات المتحدة. رفض خان تقبّل سقوطه، وهو يأمل في كسب تعاطف "طالبان" لنشر موجة من المشاعر المعادية للولايات المتحدة وتسهيل عودته إلى السلطة. عمد خان، خلال الأسابيع التي تلت سقوطه، إلى قيادة مسيرات حاشدة في أنحاء البلد حيث كرر ادعاءات لا أساس لها عن تآمر الولايات المتحدة لتنحيته. لكن يجازف خطاب خان بتعميق الانقسامات في المجتمع الباكستاني والسياسة الباكستانية ككل، فيما يواجه البلد أزمة اقتصادية حادة تزامناً مع جمود النمو، وتصاعد معدل التضخم، وزيادة الديون الخارجية بدرجة هائلة.

يجازف هذا الخطاب أيضاً بإعاقة جهود إسلام أباد الرامية إلى إصلاح علاقاتها مع واشنطن. في السنة الماضية، لم تكتفِ إدارة بايدن بالانسحاب من أفغانستان، بل أبعدت نفسها أيضاً عن باكستان. لم يتصل بايدن يوماً بخان بعد وصوله إلى الرئاسة، ما أدى إلى امتعاض رئيس الوزراء السابق. لكن بعد نشوء حكومة جديدة في إسلام أباد اليوم، أصبح الوقت مناسباً لإعادة ضبط العلاقات الثنائية. يجب أن تقدّم واشنطن دعمها مقابل موافقة القادة الباكستانيين على تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية جدّية. سيكون تعطيل البنية التحتية الجهادية في باكستان (أي معقل الجماعات المتطرفة ومراكز التدريب وتلقين العقائد) شرطاً مسبقاً كي تفتح باكستان صفحة جديدة وتُجدّد علاقاتها مع الولايات المتحدة.

يجب أن تراجع باكستان إذاً طريقة تعاملها مع "طالبان". من الواضح أن القادة الباكستانيين المتعاقبين أساؤوا فهم التحديات الحقيقية التي يواجهها البلد، علماً أنهم أصرّوا على دعم "طالبان" على أمل تعزيز الأمن في باكستان. يمكن تفسير مخاوفهم المعلنة بشأن الأمن الباكستاني بالحالة النفسية العامة أو ضرورات السياسة، لكن لا تشتق تلك المخاوف من أي تقييم منطقي للواقع. طوال عقود، أجّجت السياسة الباكستانية تجاه أفغانستان النزعة الإسلامية وحركة الجهاد والخوف من الهند. هذا الخليط السام من العوامل منع القادة الباكستانيين من التعامل مع الهند وأفغانستان كشريكتَين تجاريتَين، فتحوّلت الأولى إلى عدوة دائمة والثانية إلى مصدر تهديد استراتيجي. باختصار، كان الإصرار على مساعدة "طالبان" كفيلاً بتأجيج مشاكل باكستان بدل معالجة أيٍّ منها.


MISS 3