شربل داغر

عشبة كلكامش على طرف لساني

6 حزيران 2022

02 : 00

كنتُ أتحدث عن أن الكتابة حياةٌ مزيدة، مضافة، تزيد في أعمارنا. حياة مختلفة عما عشنا، عما سنعيش.

الا أن الثورة الرقمية تعدنا بأكثر من ذلك.

تعدنا بوجود افتراضي لشخصنا: تمكننا من أن نلقي خطاباً في عدة أمكنة، في الوقت عينه، فنصير كثراً في الوقت عينه.

تعدنا بوجود افتراضي لشخوص غيرنا: تمكننا من ان نستحضر الراحلين، الغائبين، في "هيكل الوقت"، مثلما فعل صحافي فرنسي مع المطربة الراحلة داليدا...

هذا الهوس القديم بإدامة الحياة، بإطالتها، شعرَ كلكامش (في الأسطورة السومرية) بالحاجة الملحة إليه، فطلبَه، من دون أن ينفعه.

في ما يخصني، أطمع بسنوات مزيدة، بدقائق من البهجة العميقة التي تزن أكثر من وقتها الطبيعي.

أطمع بما لا يُتاح. بما لا يَصير.

أطمع بالتفاحة عينها التي تتلألأ في ناظري، منذ أن انتصبتْ قدماي أمام الشجرة القديمة...

هذه التفاحة باتت تُلوِّن صفحة الحاسوب بين أصابعي، إلا أنها ما عادت تُغريني، إذ بتُّ أشعر بأنني أقرب إلى إنسان آلي مني إلى من يُخطئ ويَتعثر قبل ان يقف من جديد، ويتعثر من دون ان تُفارقه متعة المحاولة.

صفحة الحاسوب نظيفة كيفما تنتهي كتابتي فوق صفحاته: براقة، وعجيبة، مثل ورق العيد.

لا متعة، عندي، أبعد مما في إمكاني عيشه.

كنت أتشوق لاستلام رسائل بريدية، وأحتفظ بالكثير منها. أما اليوم، فقد انقطع عملُ ساعي البريد، إلا في نقل تبليغات إدارة الضريبة.

كنت أتشوق لسماع صوت مباغت، أو قديم في الهاتف الثابت او النقال. اما اليوم، فبات الكلام قليلاً، والواتساب صندوقَ بريد أو مسجلة صوتية في الغالب.

تلك العشبة القديمة تُزهر في مخيلات كثيرين، فيَعملون على استنباتها بما يتوافر لهم من إمكانات.

هذه العشبة تَنبت في حديقتي، بدوري، لكنها تذبل بمجرد طلوعها من العشب، بمجرد التفكير في ما يديمني.

ذلك ان الكتابة - كما يتحدث عنها البعض- ليست عشبة خلود مرجأ، في ظني. ما يصيب كتبَ البعض، في الذاكرة، في عيون القراء، في الدرس وغيرها، يُبقي الاسمَ، والنصّ، من دون كاتبه.

فالكاتب (كما أرى إليه) لا يُرسل رسائل صوب المستقبل، حتى لو خطط لكتابة ما لا يُمحى أثره في الذاكرة المحفوظة. إذ إنه يعيش الحياة، بل حياة في الحياة، مثل حياة سرية، أو مزدوجة، مثل عبور من دون عبور، مثل تحليق من دون أجنحة، في ما لم يَحدث، في ما لن يَحدث.

تلك العشبة، القديمة، أقتاتُها فيما أرويها. أستعذبُها، فيما أبسط أصابع جسدي الممتدة، وأتلقفها فوق وليمة مخيلتي الشغوفة.

الحياة، هنا.

الخلود، هنا.

في اللحظة التي لا أرى خارجها أي حياة، أي عيش: أبدٌ في لحظة.


MISS 3