جوزيفين حبشي

"البحر أمامكم"... لؤلؤة فنية سوداء ورسالة سنرميها في البحر

7 حزيران 2022

02 : 02

إيلي داغر ومنال عيسى

يقول المصريون "كل من يشرب من ماء النيل لا بد وأن يرجع له"، ويقول اللبنانيون "كل من يتعمّد ببحر بيروت، سيظل مسكونا به"... بين المخرج اللبناني ايلي داغر وبحر بيروت بموجه ومدّه وجزره ونوّه، علاقة إستثنائية تسبح به وبنا بين أمواج الحب والغضب، واليأس والأمل، والوجع والفرح، والفشل و... النجاح.

العام 2015، غرق لبنان الثقافة والفن في بحر من الفخر عندما استطاع داغر أن يصطاد أول سعفة ذهبية عن فيلمه التحريكي القصير "موج98" في مهرجان كان السينمائي، ليكون بذلك اول مخرج لبناني وعربي يفوز بهذه الجائزة. يومها، قدم المخرج الشاب قصة مراهق يغرق في الملل، ويراقب مدينته بكل تغيّراتها البنيانية من فوق، منتظراً أن يحصل شيء ما مختلف قد يوقظها. مختلف؟ أن يبتلع البحر المدينة كحوت ازرق ضخم، ثم يعيد لفظها حورية بحر مثلاً!؟





البحر الذي لم يبتلع بيروت في "موج 98"، على وشك أن يبتلعها في "البحر أمامكم"، (The Sea Ahead)، الفيلم الروائي الطويل الأول لإيلي داغر الذي عاد ورسا به مجدداً على ضفة المهرجان الارقى والاعرق سينمائيا سنة 2021، والذي نافس من خلاله على جائزة "الكاميرا الذهبية" ضمن برنامج la" Quinzaine des Réalisateurs" (نصف شهر المخرجين). منذ مشاركته في مهرجان كان، كانت امام "البحر أمامكم" رحلة على مهرجانات عديدة مثل كارلو في فاري والجونة والبحر الأحمر، قبل أن يرسو اليوم في بيروت. بيروت التي صُنع الفيلم من اجلها، ومن اجل أبنائها. أبناء تائهون بين ماض يصعب التحرر من اثقاله وحاضر جامد ومستقبل ضبابي وغير مضمون. أبناء غارقون في غربة داخلية اشد صعوبة من تلك الخارجية التي يهربون اليها، فيلحق بهم الوطن ويتشبث بذكرياتهم وخيباتهم وفشلهم كطفل يرفض ترك فستان أمه. أبناء يدورون في حلقة مفرغة معزولة ومخيفة تشبه نهاية العالم، مع إحساس وترقّب بأن البحر سيبتلع كل شيء في لحظة ما. هذا مع العلم أن تصوير الفيلم جرى في أواخر سنة 2019، أي تمت كتابته قبل ثورة "17 تشرين"، وقبل كارثة مرفأ بيروت في 4 آب 2020، ورغم ذلك كل ما فيه ينبئ ان العاصمة الغارقة في صمت مميت وضجر منازع وفراغ رمادي، تشبه السكون الذي يسبق العاصفة التي ستشلّع كل شيء. أبناء مثل الشابة جنى (الرائعة منال عيسى) العائدة على جنح الظلام، من باريس الى بيروت الغارقة في سواد حالك وسط موج بحر يتصاعد بايقاع رتيب ووتيرة مملة. من خلال عيني جنى واحساسها سنتابع هذه العودة من غربة خارجية عنوانها الاكتئاب نتيجة الفشل في متابعة دراستها والثبات في أي عمل في فرنسا، الى غربة داخلية اشدّ ايلاماً لأنها سترميها مجدداً في دوامة اختناق حاولت الهرب منها. ولكن اين المفر من كل ما يسكن اللبنانيين من خيبات؟ قلق الاهل ومحاولاتهم انتشال ابنتهم من يأسها من خلال جعلها تنخرط مجدداً في نشاطات اجتماعية. تساؤلات الأقارب والجيران الفضولية. الحياة البطيئة والفارغة من الحياة. صمت وهدوء يغلفان ملامح شابة تتقد في داخلها ثورة باردة ويشتعل تحدّ مخَدّر. محاولة هرب الى حب ماضٍ لم يكن يوما يرضي طموحها ولن يحبط عزيمتها رغم سخريته من احلامها. سهر وسكر ومخدر لفقدان الوعي بكل ما يحيط بها من احتضار مدينة ضبابية فقدت قدرتها على الفرح ، وفقد سكانها (أطفالاً وشباباً وكهولاً) قدرتهم على الأمل. أجواء كئيبة، الوان قاتمة باردة، حوارات قليلة جداً، حوادث اقل من قليلة، فلا أكشن ولا مفاجآت، بل حالة وجودية وذهنية لمدينة وحالة نفسية لشخصيات تعيش على هامش حياة مسكونة بالضياع والانهيار، وترقّب يطول ويطول على إيقاع موسيقى تشارك في البطولة. موسيقى من اعداد شقيق ايلي داغر الذي سبق أن عاش تجربة الهجرة والعودة تماماً مثل جنى. ولهذا السبب نجح في نقل إحساسه الينا مع كل ايقاع كهربائي يضرب على وتر الغربة الداخلية واليأس والاختناق والفراغ والسكون الذي يشبه عاصفة لا بد أن تهب، وتسونامي مقبل مع كل موجة تضرب الشاطئ، وتفقش زبداً رمادياً وسط مشهدية سوداء.



منال عيسى ويارا أبو حيدر




الرمزية والبحر بدورهما بطل رئيسي، والبحر الذي يرمز للسفر والتجدد عادة، تحوّل كابوساً بالنسبة الى جنى التي ستغرق في مياهه الوسخة، هي وغيرها من اشباح المدينة المتشحين بالسواد، الناظرين الى الأفق، منتظرين موجة عملاقة ربما، قد تبتلعهم وتلفظهم بعيداً جداً عن مدينة الموت. مشهد يذكرنا بعنوان الفيلم، وكأن المخرج يحاول ان يقول بأن البحر امامكم وهو منفذكم الوحيد للهرب من أفق مظلم باتجاه أفق مجهول قد يكون أكثر املاً.




هروب من الواقع


"البحر أمامكم" انتاج مشترك (لبنان وقطر وفرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة) وهو من بطولة منال عيسى ويارا أبو حيدر وربيع الزهر وروجيه عازار وفادي ابي سمرا. الفيلم يعرض حاليا في صالات لبنان، ورسالته واضحة للبنانيين: البحر والرحيل نحو الحياة امامكم، وخلفكم وطن يخنق احلامكم ويغتال فرصتكم بالحياة. رسالة واقعية صحيح، تدعونا للاستيقاظ من وهم وطن ليس قطعة السما والأخضر حلو الذي رسمته لنا الأغنيات بالوان زاهية، بل المطهر المعلق بين الجنة والجحيم، بانتظار الممر الأخير. ولكن رغم واقعية الفيلم ، ورغم مقوماته الفنية الرائعة تصويراً ومشهدية واداءً ومونتاجاً وموسيقى ومناخاً ورمزية، إلا أننا لا نوافق على رسالته السوداوية. الحل ليس الرحيل ولا الهرب، بل التشبث بالوطن ومحاولة عدم الغرق في أوحاله. "البحر امامنا" صحيح، الحياة أمامنا صحيح، المستقبل والفرص والاحلام أمامنا صحيح، ولكننا لن نترك لبنان خلفنا. لن نهرب، لن نرم أنفسنا في البحر، سنتشبث بجذورنا مهما كان المشهد أسودَ وحالكا، فماذا ينفع اللبناني اذا ربح العالم كله وخسر وطنه؟


MISS 3