هالة نهرا

وديع الصافي... يطلّ في أغانٍ غير مذاعة

15 حزيران 2022

02 : 00

أنطوان الصافي حاملاً شعلة وديع الصافي في مئويته في تونس (2022)

ذلك الذي يرتدي صوتَه ويرتديه الصوتُ، سيطلّ علينا من جسور الخلود المعلّقة، في أعمالٍ وأغانٍ غير منشورة وغير مُذاعة سابقاً، لا يعرفها الجمهور. حنجرة وديع الصافي العظيمة الرهيبة سقفها السماء، تنطلق من نطاق الـ"باريتون" (Baryton) نحو المُطْلَق، علماً بأنّه سجّى بأوتاره الصوتية أيضاً فضاء الـ"تينور" (Ténor). غناؤه، تاريخياً، مجدٌ دَوَّى في لبنان والعالم العربيّ والعالم، مُسدِلاً ضياءه وظلاله على كتف الفنّ والثقافة. هذا الصوت استرسل في فرائده على تخوم الأبد بطلاقةٍ غير مسبوقة تُماثِلُ التغريد المكوَّم. بَشَّ صوته للجمهور بانصبابِ الجَرْسِ (Timbre) النادر، والنَّبْر والنبرة، والتقنيّات الفطرية والمكتسَبة المهولة، والزخارف الصوتية المترقرقة كالمياه على قيعان حصى النغم، والألوان الطربية والتراثية والفولكلورية والشعبية الهالَّة، وميكانيزمات الصوت العاري في اكتنازٍ آسرٍ يُدثّر الآذان.

أفادَنا حصريّاً من تونس نجله الفنّان الكبير والمطرب أنطوان الصافي بأنّ ثمّة محطّاتٍ غنائية لوديع وأغنياتٍ عدّة له لم تبصر النور، وقد لحّنها والده بعدما اختمر نتاجه وتقدّمت به السِّنُّ، ومثّلتْ عصارة مشواره الطويل في دروب الفن العريق. وأردف أنطوان قائلاً: "عددٌ من ألحانها لوديع، وبعضها من ألحاني. كان وديع شديد التعلّق بها وبمحتواها الأصيل والمتجدّد معاً، علماً بأنه "لا يشبه غيره"، على حدّ تعبير وديع". يذكر منها أنطوان لـ"نداء الوطن": "غنوتي" (كلمات الشاعر إلياس عطوي من مغدوشة) وقد لحّنها وأدّاها وديع، و"أوعى يا قلبي" (كلمات الشاعر جوزيف موسى من عكار) وهي من ألحان أنطوان وكان وديع مولعاً بها، إضافةً إلى "دويتّو" (Duetto) أعدَّهُ أنطوان لوديع ووردة الجزائرية بعنوان "رح نبقى سوى" (كلمات الشاعر سليم حماده من بعقلين، ألحان أنطوان الصافي). أطلعَنا أنطوان على موضوع الأغنية التي تندرج في خانة الطرب الخفيف، وهي جديدة في مقاربتها وتناولها العلاقة الزوجية التي طال بها الزمن العابق بطيب الوفاء.

في المقابل، كانت ثمّة جلسات غنّى فيها وديع العديد من الأغاني، بعضها معروفٌ، وبعضها الآخر كان في فضاء جلسةٍ حميمة، ما أتاح تَجلّي الأغاني بنكهةٍ مختلفة تناغماً وتجانساً في التفاعل والحاضرين والأحبّة. "وديع كتلةٌ متأجّجة من العواطف والتفاعلات، وهو لا يؤدّي الأغنيةَ ذاتها مرَّتين بالطريقة عينها. لذلك فكلُّ تسجيلٍ للأغنية ذاتها يتميّز بطعمٍ جديد ويصطبغ برونقٍ مختلف وبُعْدٍ يوائم بين المشترَك والمغاير في الكثير من الأحيان، ما تفرّد به وديع الصافي في عصره".

وأضاف: "يمكننا العثور على بعض التسجيلات التي تصلح لإعادة إنتاجها وتَنْقِية المحتوى تقنيّاً، لمنح الأجيال الجديدة الكمّ الوافر من إمكانيّات وديع الصافي غير المحدودة، ومروحة تعبيراته الصوتية الشاسعة التي تتباينُ بين تأديةٍ وأُخرى للأغنية عينها".

عن الإطار الذي ستُطلَق من خلاله الأغاني قال أنطوان: "الانطلاقة ستكون عبر منصّة "يوتيوب"، مع إضافة الصوَر والمَشاهد المناسبة لكلّ أغنية".

يُبدي أنطوان انفتاحه على كلّ مَن يريد أو لديه رغبة في رفع مشعل الأصالة معه وإلى جانبه. مواصلاً حديثه قال: "الحمد لله، بالإشتراك مع إخواني والكثيرين من المقرّبين إلى عائلتنا، لديّ الإمكانيات الكافية لتقديم هذه الأعمال بشكلٍ مُرْضٍ يُصيّرها ذخيرةً للأجيال القادمة، لا سيّما أنّ فنّ وديع الصافي اشتملَ على كلّ ما سبقه، إضافةً إلى إبداعاته وإسهاماته الكثيرة والزاخرة بالتنوّع. لذلك كنتُ أتمنى أن تدعم مشروعي جهةٌ رسمية، لكن على ما يبدو فإنّ الجهات الرسمية اليوم تتّجه نحو ما يُعرف بالبوب (Pop) أي الأغاني الشعبية، لا بالضرورة الأعمال التي تستوجب التأمّل والإصغاء العميق، أي الأغاني التي تنتسب في أغوارها إلى الوجدان ثقافياً وروحياً أكثر من الفنّ ذي المنحى الغرائزيّ والترفيهيّ".

مُختَتِماً، أضاء أنطوان الصافي على الدور الذي يجب أن يؤدّيه الإعلام بأشكاله كافّة، بمسؤوليته تجاه ثقافتنا وهويّتنا الفنّية الفريدة: "أطلبُ من الإعلام مؤازرته الفنّانين المتسربلين بالأصالة والمؤتمنين على الهوية؛ فإن لم ننشر من خلال إعلامنا ما يروي حكايتنا فلن يحكي عنّا إعلام الغرب الذي ما زال يستثمر فنَّهُ وينشره داعماً كلّ مَن ينتمي إلى هويته الفنية، على عكس إعلامنا بصورةٍ عامّة".

ستكتسي الأغاني المذكورة المرتقبة بُعداً مستحدثاً في التلقّي والتلقّف في زمنِ الهبوط، زمن اختلاف الذائقة الفنّية جذرياً (ربّما موَقتاً وظرفياً)، وقلّة النتاجات والأعمال الذهبية أو القيّمة... ستكتسي بُعداً ذا دلالاتٍ جمالية ورمزية. قيمتُها تكمن في بصمة وديع وأثره وحساسيته المعتَّقة، وفي تسجيلاتٍ لا تخلو من التلقائية والصدقية في تعبيرٍ فنّيٍّ مترجّحٍ حرٍّ وليد لحظته، أفلتَ من حدود الاستديوات والحفلات معاً، ليسامرَ قريباً-بلا شروطٍ- الجُلّاس حول العالم خلف شاشات الكومبيوتر و"الهواتف الذكيّة" في عصر الإنترنت. قد تحتاج في مناحٍ ومقاطع منها إلى تصفيةٍ و"فَلْتَرَة" (Filtrage)، ما يستدعي دعم المنتجين. صوت وديع الآتي يتقطّرُ من خواتيم زمنٍ آخر، ليداخل الزمن الجديد الشائك اللاهث. كأنّما ثمّة ما يشفّ عن انسيابٍ ميتافيزيقي لصوته غداً، لا بالمعنى الإيمانيّ، بل بالمعنى الفلسفيّ حين يتسرّبُ إلى الفنّ والموسيقى.


MISS 3