د. غريس الياس

إشكاليّات التعايش والحياد والمصير" للدكتور عبدالرؤوف سنّو

كتاب "دولة لبنان الكبير 1920-2021"

2 تموز 2022

02 : 01

إعلان دولة لبنان الكبير من قبل الجنرال غوروا بحضور البطريرك إلياس الحويك عن يمينه والمفتي عن يساره | منزل الصنوبر في بيروت


دولة لبنان الكبير
٠١

يقول المفكر الفرنسي بول فاليري: "التاريخ اخطر نتاج أتيح لكيمياء العقل تحضيره يدفعنا إلى الحلم، هو يُمثل الشعوب ويولد لديها ذكريات زائفة، ويثير لديها ردود أفعال مبالغ فيها، ويُبقي على جراحها القديمة حيّة، ويعذبها في استراحتها، ويقودها الى جنون العظمة او الى جنون الإضطهاد ويحوِّل الأمم الى كيانات عنيفة، ورائعة، وغير محتملة وتافهة". فقد جاء كتاب المؤرخ الدكتور عبدالرؤوف سنّو، في ظل الوضع الخطير الذي يعاني منه لبنان، ليسرد ويوثق بكل واقعيّة وجرأة ومهنيّة عاليّة تاريخ لبنان خلال المئة سنة من وجوده.






يتألف الكتاب من 480 صفحة ويقسم الى ثمانية فصول، وخمسة ملاحق، فيه المئات من المراجع والمصادر والوثائق، صادر عن دار المشرق.

ينطلق الكاتب من طرح خمس فرضيات أساسية ألا وهي: وصول لبنان منهكاً إلى نهاية مئويته الأولى، عمل طوائفه على استجلاب للخارج لتحقيق أهدافها، مسؤولية المنظومة السياسية الحاكمة بكاملها في وصول لبنان إلى الانهيار الشامل، توقع تداعيات طروحات الفدرالية و"ديمقراطية الأكثرية" و"المثالثة" على لبنان الموحد، وأخيراً، تسلط "الثنائي الشيعي" على لبنان وإمساكه بطائفته في مقابل التآكل داخل الطوائف والتباعد بين زعاماتها.

إن ما يلفت نظرنا ويدفعنا الى قراءة الكتاب هو ان الكاتب لكي يبسط ويسهل سرد الاحداث والتطورات التاريخيّة للبنان، أقدم على وضع مقاربة تقويميّة بيانيّة للبنان في مئويته الأولى وذلك من عام 1920 الى العام 2021، بحيث قد وضع علامات تقييميّة عن كل مرحلة مهمة من تاريخ لبنان، وذلك لتبيان عدم الاستقرار في مساره. وهذا يعود بحسب الكاتب الى موقعه الجيوسياسي ونظامه الطائفيّ-السياسيّ وطائفيته-المجتمعيّة، وتبعيّة طوائفه للخارج، أو تدخلات الدول الخارجيّة في شؤونه الداخليّة، وبالتالي عدم تحوّله الى وطن حقيقي، فينتظره مستقبل قاتم وخطير. وان استخدامه لهذه التقنيّة قد أضاف لمسة من الإبداع والجرأة على النص وبخاصة في المجال التاريخي حيث انه لا يتم استخدام هذه التقنيات.

فعلى سبيل المثال:

- أعطى الكاتب 50 نقطة لحدث إنشاء "دولة لبنان الكبير"، وذلك بسبب رفضه من قبل المسلمـين وبعض الأرثوذكس.

- رفع الكاتب المؤشر مرتين الى 80 نقطة، عند اتفاق اللبنانيين على "الميثاق الوطني" وخوضهم معركة الاستقلال في العام 1943 متحدين ضد فرنسا، وبثورة الأرز في العام 2005 وانسحاب الجيش السوري من لبنان.

- ومن ثم خفض الكاتب المؤشر مرتين الى 0 (صفر) بإنهيار لبنان اقتصادياً ومالياً ونقدياً وتردي الأحوال المعيشيّة، وتفاقم تداعيات كورونا، ووصول الانتفاضة الى طريق مسدود، وبالتفجير الكارثي الذي حدث في مرفأ بيروت.

كما قام الدكتور سنّو بوضع جداول هامة جداً في كتابه، فتشكلت هذه الجداول بطريقة منهجيّة تلخص للقارئ وتسهل له قراءة الاحداث التاريخية بسهولة.

فيما يثير الكاتب نقطة مهمة جداً الا وهي: "ان المجتمعات تميل حالياً الى التعدديّة، أي الى التعايش وليس الى التلاحم. لكن العامل المؤثر في قيام علاقات تعايش راسخة في ما بينها، هو في تحقيق العدالة وسيادة الديمقراطية والمساواة، وعدم تسلط مجموعة على أخرى، والاعتراف بالآخر، ثقافة وخصوصيّة. عكس ذلك، يؤدي التمييز والتهميش الى ظهور نزعة التقوقع لدى الأقليات في بلدٍ ما، فتقوى مشاعر الخصوصيّة لديها، وتطفو على السطح مشكلات تتعلق بالعلاقة بين الأقلية والأكثرية داخل الدولة، من نزاعات بين السكان حول اللغة والثقافة والدين والتمثيل السياسي ونسبته في مؤسسات الدولة... وقد تدفع خلافات الطوائف والإثنيات في ما بينها، وشعور بعضها بالتهديد والغبن وعدم التساوي في الحقوق مع الآخرين وحالات الخوف، الى التطلع الى الخارج للحصول على الدعم والحماية منه ما قد تتعرض له من أخطار من قبل من في الداخل". ويصل الكاتب الى استنتاج ان تاريخ لبنان منذ تأسيسه في العام 1920 حتى اليوم، حمل في داخله كل جدليات هذه الصراعات بين الطوائف الدينيّة في لبنان.

ويطرح الكاتب التساؤل التالي: فأين يكمن الحل إذن؟ ويجيب ان المخرج الوحيد المتبقّي أمام اللبنانيين هو في إقامة الدولة المدنيّة. لكنّ الدولة المدنيّة تبقى بعيدة المنال، بالنسبة للكاتب في ضوء الظروف السياسيّة والثقافيّة والاجتماعية السائدة في لبنان.

في هذا السياق يشير المؤلف الى ان المعضلة التاريخية تكمن ان لا حل تسوية تحقق التماسك المجتمعي، في ظل وجود ثقافة "الأنا" والاستقواء على "الآخر" وغياب ثقافة التعدّد، أي الثقافة الوطنية والاعتراف بالآخر وبحقوقه، بغضّ النظر عن الدين أو المذهب أو العدد، فضلاً عن غياب الدولة التي تُمسك بشعبها وتستعمل القوة لفرض هيبتها وتعتمد الديمقراطية العادلة وتساوي بين مواطنيها.

تجدر الإشارة هنا الى ان الطائفية المجتمعية هي هذا المكون الثقافي الذي يشكل تعدديّة المجتمع، وبالتالي لإنهاء وإلغاء هذا الامر يحتاج اما الى تغيير الشعب الذي يتألف منه لبنان او الى مسار طويل من التطور لكي يتغير هذا الامر ويبقى هناك احتمال كبير في ان لا يتحول. كما ان التعبير الأدق هو "الدولة العلمانيّة"، ونلفت النظر الى ان دستور لبنان دستور مدني لا ينص على عقائد وأسس دينيّة أي بالأساس لبنان "دولة مدنية".

ومن أبرز ما خلص اليه الكاتب إستناجه: "إن الأوطان، كي تتقدم تحتاج الى الاستقرار والسلم الأهلي، والحفاظ على السيادة بإعتبارها مقدّسة. فما من دولة في العالم تظل في حالة عدم استقرار وتحارب داخلي وسلب سيادة على مدى قرن كامل، ما يعني أن أكثر من أربعة أجيال لبنانيّة عاشت أو تعيش حالة عدم الاستقرار وفقدان مقومات الدولة التي تُمسك بشعبها وتدافع عن سيادتها...".

فهل سوف يتعلم اللبنانيون من تجارب الماضي القريب دروساً، ولا يكررون التجارب الكارثية التي مروا ويمرون بها؟ فهل ما زال لدينا الشجاعة في مواصلة النضال من اجل البقاء والاستمرار؟ فما هو طموحنا نحن اللبنانيين؟ الهجرة أم بناء دولة القانون والمؤسسات الدولة القوية والقادرة؟


MISS 3