ثورة "التوك توك" على الطريقة العراقية

09 : 41

تشكّل مجموعة من سيارات الأجرة ثلاثية العجلات ركيزة الاحتجاجات المعادية للحكومة في بغداد، فتنقل الإمدادات إلى الخطوط الأمامية وتعود أدراجها وهي مُحَمّلة بالجرحى. إنها لعبة خطيرة، لكنّ سائقيها مصمّمون على الفوز بها! تأتي تهديدات الموت في العادة عبر الهاتف، لكن عجز أعداء أبو طيبة عن الوصول إليه. فقد خسر هاتفه قبل أيام، غداة تعرّضه لإطلاق نار حين كان يحاول سحب رجلٍ مصاب من منطقة القتال. لذا تلقى تحذيراً تقليدياً عبر رسالة من تحت باب منزله كُتِب فيها إنه سيُقتَل إذا تابع ما يفعله. يهز أبو طيبة كتفَيه الموشومَين ويقول: "ليفعلوا ما يريدونه ويجرّبوا"!

هذا الرجل البالغ من العمر 34 عاماً هو أب لثلاثة أولاد وجزء من أغرب جماعة مشارِكة في الاحتجاجات الحاشدة التي هزت بغداد وغيرها من المدن العراقية الكبرى في آخر شهر ونصف. هو سائق "توك توك" وواحد من آلاف السائقين الآخرين في أحياء بغداد الفقيرة، فينقل الناس في أنحاء العاصمة العراقية عبر مركبته ثلاثية العجلات. هذا ما فعله السائقون حتى شهر تشرين الأول على الأقل، حين بدأ مئات آلاف الناس بالنزول إلى الشوارع، أولاً في بغداد، ثم في عشرات المدن الأخرى. لقد غضبوا من جشع قادتهم الفاضح وأرادوا الاحتجاج ضد الدولة الفاسدة، حيث تكسب الحكومة المليارات من صادرات النفط، بينما يعيش الشعب في فقر مدقع.هذه الحركة بلا قائد ولكنها طوّرت مستوىً غير مسبوق من التضامن. يحتجّ الشبان إلى جانب الشابات، والطلاب إلى جانب العاطلين عن العمل، والموظفون الحكوميون والجنود بملابس مدنية إلى جانب الأمهات والفقراء وشيوخ القبائل بأزيائهم المزخرفة، والممرضات الجريئات إلى جانب شابات محجبات بالكامل يضعن خوذات بناء صفراء وأقنعة غاز.

وسط هذه الجماعات كلها، برز سائقو التوك توك. تنتشر أعداد كبيرة منهم في الساحات. هم يجلبون الجرحى من الخطوط الأمامية إلى المستشفيات الميدانية الخلفية، ثم يعودون وهم يحملون المياه وكتل الخرسانة لبناء المتاريس.

أحياناً، تزيد عربات التوك التوك الرفيعة وسهلة القيادة سرعتها على الطرقات المنحدرة، فتعبر واحدة تلو الأخرى وتخلو منها الساحة بلمح البصر حالما تبدأ قوى الأمن المخيفة بإطلاق رصاص حي باتجاه الحشود. منذ أسبوعين تقريباً، أعلنت لجان حقوق الإنسان في البرلمان العراقي عن مقتل 319 شخصاً منذ بدء الاحتجاجات في تشرين الأول، لكن لم تصدر أي أرقام رسمية. مع ذلك، لم يستسلم الشعب. في فترة بعد الظهر من كل يوم في بغداد، يجتمع الآلاف في ساحة التحرير التي تحولت إلى مدينة من الخِيَم للمتمردين. يقف معظم المحتجين الشجعان في الصف الأمامي، أمام متاريس مصنوعة من الخرسانة، رغم سيل خراطيش الغاز المسيل للدموع. في المساء، تبدأ الحشود غناء شعارات مثل "عشرة يموتون، مئة يموتون، مستمرون من أجل الوطن"! يقف كبار السن على الصناديق لساعات، على بُعد أقل من 70 متراً عن قوى الأمن، ويلوّحون بعلم عراقي ضخم.

يقول أحد المحتجين بهدوء: "كنت خائفاً طوال حياتي، لكنّ الحياة وسط الخوف ليست حياة. لم أعد خائفاً اليوم. فليطلقوا النار إذا أرادوا"!

بغض النظر عن هوية رئيس الوزراء في آخر عقد ونصف، لم يتم اتخاذ أي تدابير لمنع تفكك الدولة التدريجي. لا بد من شراء كل توقيع للموافقة على القرارات في النظام البيروقراطي الشائب، وتفتقر المستشفيات إلى الأدوية، ويصبح خريجو الجامعات عاطلين عن العمل، ولا يجد أصحاب الاحتياجات الخاصة من يعتني بهم. كذلك، تضطر عائلات من سُجِنوا منذ سنوات من دون محاكمة لدفع ثمن أدويتهم وكل قطعة ملابس تُعطى لأحبائهم.

تتذمر والدة شاب مفقود قائلة: "هذا ليس سجناً بل خطة عمل بحد ذاتها". سبق واندلعت احتجاجات في البصرة منذ صيف 2018 لأن مياه الصنبور كانت ملوثة لدرجة أنّ آلاف الناس دخلوا إلى المستشفى بسببها.

يسأل طبيب شاب رفض الإفصاح عن اسمه حفاظاً على سلامته: "ماذا قدّم لنا قادتنا السياسيون"؟ ثم يجيب: "تديّن قاتم وموجات كره موجّهة ضد غير المسلمين الشيعة. هم يتصرفون وكأنهم شعب الله المختار لاستنزافنا. لقد اكتفينا! لا نريد أن يتعاملوا معنا كمستعمرة لإيران بعد الآن! نريد بلداً موحداً لجميع العراقيين السُنّة والشيعة والمسيحيين".

منذ سقوط صدام حسين في العام 2003، يخضع البلد لسيطرة الأغلبية الشيعية وتطغى جمهورية إيران المجاورة عليه سياسياً وعسكرياً.

من ناحية معينة، ترمز سيارات التوك توك إلى انهيار العراق البطيء ودخوله خانة البلدان النامية مجدداً، ما يعني أن الأثرياء وحدهم يستطيعون شراء سيارات مكيّفة، بينما يركب عامة الشعب التوك توك. اليوم، تحوّلت سيارات الأجرة المخصصة للفقراء إلى "فرسان الثورة"، كما تشير الكتابات على جدران ساحة التحرير، إلى جانب صورة التوك توك. وحتى الصحيفة التي يصدرها محتلّو الساحات اسمها "توك توك".

خلال أسابيع قليلة وفي منطقة تقتصر على بضعة كيلومترات مربّعة، تمكن المحتجون من إنشاء كيان فشلت الحكومة العراقية في تأسيسه خلال السنوات الأخيرة: مجتمع عالي التنظيم حيث تتولى لجان متنوعة تلبية مختلف الحاجات، مثل الكهرباء ومياه الشرب والطعام والمراحيــــض. يستعـمل المضيفون حبالاً لإنشاء ممرات لإجلاء الجرحى. وفي مبنى مهجور (طُرِد منه قنّاصة تابعون للحكومة في أواخر تشرين الأول)، ثمة مساكن ومكتبة ومسجد.

إذا كان التوك توك محرّك ثورة تشرين الأول العراقية، يمكن اعتبار أبو طيبة نقطة الهجوم. عربته كلها، باستثناء مقعد الراكب، مغطاة بصفيحة معدنية جلبها من تاجر خردة. وبدل الزجاج الأمامي الذي تعرّض لإطلاق نار، بنى شاشة مصنوعة من شبكة سلكية والجزء الخلفي من ثلاجة. إنها أداة مثالية لصدّ قنابل الغاز المسيل للدموع. هو يتنقل كل ليلة، فيتقدم وسط ظلام صاخب باتجاه موقع الاشتباكات على الخطوط الأمامية، علماً أن أحداً لا يستطيع رؤيتها إلا عن بُعد بسبب الوميض الأخضر لأجهزة الليزر التي يحملها المحتجون.

لم يتفاجأ أبو طيبة حين بدأ يتلقى تهديدات بالموت. فقد أمضى سنوات وهو يحارب تجمّع الميليشيات التي تسيطر عليها إيران. تُعرَف هذه الجماعات باسم "وحدات الحشد الشعبي" ونشأت في العام 2014 رداً على موجة الهلع التي انتشرت غداة توسّع "داعش". لكن وجودها طرح مشكلة منذ البداية: صحيح أنها تحظى بالتمويل والشرعية من الحكومة العراقية، لكنها تخضع لسلطة طهران. عمد أعضاء هذه الميليشيات المُقنّعة (لا يحملون أي شعار يُعرّف عنهم) إلى نشر مظاهر الموت والإرهاب في صفوف المتظاهرين عبر إطلاق النار على الحشود. يقول أبو طيبة إنه سئم من هذا الوضع وقرر الانتقال إلى الجبهة الأخرى.رغم مرور أسابيع على بدء الاحتجاجات، لم تقدّم الحكومة شيئاً للمتظاهرين، باستثناء الإهانات والعنف. بعد بدء التحرك بفترة قصيرة، أمر رئيس الحكومة عادل عبد المهدي بقطع الإنترنت في أنحاء البلد. ثم زعم أن قوى الأمن لم تفتح النار مطلقاً ضد المحتجين، مع أن أكثر من 100 جثة تثبت العكس. أخيراً، تعهدت الحكومة بالامتناع عن استعمال "الأسلحة القاتلة". لكن منذ ذلك الحين، عمدت قوى الأمن إلى إطلاق خراطيش الغاز المسيل للدموع (عيار 40 ملم)، وهي أقوى بكثير من الأسلحة العادية. كذلك، يبدو أنها تميل إلى استهداف رؤوس وصدور المتظاهرين بدل إطلاق النار في الهواء.

انتشرت فيديوات مأسوية عن أشخاصٍ يموتون، ويظهر فيها ما يحصل عند إصابة الناس في الرأس بخراطيش معدنية من مسافة قريبة، فيتدفق الغاز المسيل للدموع من فروة رؤوسهم.ستتفوق الدولة دوماً من حيث حجم القوة المستعملة ضد المتظاهرين. لكن بدأ قادة العراق، من دون علمهم، يخسرون معركة مختلفة لها طابع رمزي، إذ يتم اعتقال الناس لمجرّد أن يحملوا العلم العراقي. على صعيد آخر، بدأ المحتجون يتبنون الحكايات الدينية عن معاناة الأئمة الشيعة في معركتهم ضد الاستبداد منذ 1400 سنة ويعيدون تفسيرها على طريقتهم. حتى ادعاء رئيس الحكومة عبد المهدي بأن المتظاهرين الشباب يعيدون تجسيد لعبة الفيديو الشهيرة PlayerUnknown's Battlegrounds استُعمِل كمادة للسخرية من الحكومة. بدأ جزء من المحتجين يرتدي أزياء شخصيات اللعبة ويتجول بين سُحُب الغاز المسيل للدموع في بغداد بأثواب تصل إلى مستوى الكاحل، معتبرين أنفسهم كائنات "زومبي" انتقلت من عالم الخيال إلى أرض الواقع.

ونظراً إلى اهتمام البعض بالدفاع عن سلطته وملياراته، اجتمع كبار السياسيين منذ أسبوعين مع واحد من أهم رجال الدين الشيعة، لمقابلة صانع الحكومات العراقية قاسم سليماني. أراد هذا الأخير أن يتأكد من بقاء الجميع في صفّه، مع الحرص على إنهاء الاحتجاجات بأي ثمن.

خلال الاجتماع، وحده حيدر العبادي، رئيس الحكومة السابق في السنة الماضية، عبّر بكل وضوح عن معارضته لتلك المقاربة. لكن ستتعلق المسألة المحورية قريباً بمعرفة مدى فعالية استراتيجية القمع الوحشي أو قدرتها على تحويل الاحتجاجات إلى حركة مقاومة عنيفة.

يظن أبو طيبة، سائق التوك توك الشجاع، أن التوصل إلى حل منطقي غير وارد على الأرجح. لكنّ المسألة المُلحّة بنظره اليوم مختلفة، فهو يهتم بدفع فاتورة المستشفى لابنته البالغة من العمر سنتين. حتى أنه لم يدفع بعد الأقساط الثلاثة الماضية من ثمن التوك توك، أي 630$. ارتسمت في تلك اللحظة ابتسامة عاجزة على وجهه، ثم عاد أدراجه نحو موقع المتاريس.


MISS 3