خالد أبو شقرا

بعملة غير عملته الوطنية... وهي "اللولار"

لبنان يسجل سابقة التداول بـ"الأموال الرقمية"

8 آب 2022

02 : 00

لولار
كما يتعلق الغريق بقشة، يتمسك اللبنانيون عامة والمودعون خاصة، بأهداب أي طرح نقدي يخفف من معاناتهم ويحدّ من فقدان ودائعهم لقيمتها. الانتقال إلى العملة الرقمية Digital Currency، بالنسبة للبعض، واحد من هذه الطروحات التي حولتها سنوات الأزمة من مؤشر على الرفاه وتطور القطاع المصرفي، إلى مرتجى للحدّ من الخسائر الناتجة عن انفلاش الاقتصاد النقدي. وعلى الرغم من توفّر البنيتين الفوقية والتحتية لاعتماد العملة الرقمية كلياً أو جزئياً، فان «قطبة مخفية» ما زالت تحول دون فك «عراوي» الانتقال «السلس»» نحو اقتصاد أقل مضاربة وأكثر فعالية ربما.




إعتماد العملة الرقمية في لبنان ليس أمراً طارئاً على الاقتصاد. فجذور هذه الفكرة المتطورة تعود إلى أعوام ما قبل الازمة، حين اعتزم البنك المركزي في العام 2018 اللحاق بركب التكنولوجيا الحديثة على صعيد التنظيمات النقدية. وهي، وإن كانت لم تلاقِ طريقها إلى التنفيذ سريعاً وقتذاك «لنيّة في نفس» الحاكم، فان بعض المصارف اعتمدتها بطريقة أو بأخرى. حيث برز على سبيل المثال إتاحة بنك عوده تسديد مدفوعات عمليات الشراء بواسطة ساعة اليد، التي تُعبّأ برصيد من الليرات أو الدولارات. ومع استفحال الازمة وانفلاش الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية الموضوعة في التداول (M1) عاد حاكم مصرف لبنان في العام 2021 ليجدد الطرح القديم بالانتقال إلى العملة الرقمية. لكن هذه المرة بهدف إعادة الثقة بالقطاع المصرفي، والسيطرة على توسع الاقتصاد النقدي. ولسبب «مفضوح» عُرقلت هذه العملية مرة جديدة، واستبدلت بتعاميم «بهلوانية» تهدف في الشكل للسيطرة على انهيار العملة الوطنية وامتصاص فائض الليرات المطبوعة، إنما في المضمون، لم تساهم هذه التعاميم إلا بتعميق أزمة الثقة بين المواطن والنظام النقدي المتهالك.

ما هي منافعها؟

العملة الرقمية «لا يمكن أن تكون إلا عملة البلد السيادية التي يصدرها المصرف المركزي ويديرها»، يقول المستشار المالي د. غسّان شمّاس. و»هي بهذا المعنى الليرة اللبنانية حصراً، إنما بشكل جديد غير حسي لا يمكن لمسها. يضعها المصرف المركزي بالتداول بواسطة البنوك التجارية، ويحصل عليها المواطنون من خلال استبدالها بالعملة الورقية النقدية، أو بالاموال الموجودة في الحسابات المصرفية. ويستخدمونها عوضاً عن الاوراق النقدية في تسديد مختلف الفواتير، والمستحقات، والمشتريات، والتبادلات التجارية».

منافع الانتقال نحو العملة الرقمية كثيرة، وهي:

1- تسهم بتسريع لمّ المصرف المركزي للنقد « cash money» من الأسواق بشكل محترف بعيداً عن التعاميم البدائية، التي تعرقل أمور المواطنين وتزيد من تضعضعهم وفقدانهم للثقة بالاقتصاد، وتفاقم النقمة على المصارف وتسبب المشاكل بين المؤسسات والمستهلكين.

2- تمكّن المصرف المركزي من امتصاص كميات من النقد المسال فوراً بنفس نسبة الاصدار الرقمي. وتسهل بالتالي من التحكم بكميات النقد الورقي الموضوع بالتداول. وتكون عملية التبادل هذه «substitution» التي تميز بشكل جوهري النقود الرقمية عن العملات المشفرة cryptocurrency أداة من أدوات «المركزي» للتحكم بكميات النقود وكيفية توزيعها.

3- تخفف بشكل كبير من المضاربة على الليرة، حيث يصبح بامكان «المركزي» (هذا إن كان لا يعلم!) معرفة من يضخ الاموال بكميات كبيرة لشراء الدولار ورفع سعره، وأين تتم العملية، وكم ينفق من أجلها. وعليه فان العملة الرقمية تساعد أكثر على تنظيم السوق ومراقبته، وتحد بالتالي من المضاربة على العملة الوطنية.

4- تخفف من حمل رزم الأموال التي أصبح يتطلبها شراء أبسط الحاجات، ولا سيما بعدما فقدت الليرة 95 في المئة من قيمتها، فما بالنا بالتبادلات التجارية الكبيرة. ويكفي النظر إلى كميات الأوراق النقدية التي تتكدس في جيوب عمال محطات تعبئة الوقود حتى نعرف حجم المعاناة من التعامل بالليرة الورقية.

5- يعتبر التداول بالليرة الرقمية أكثر أماناً بما لا يقاس مع التداول النقدي. حيث أن هذه الأموال التي عادة ما تكون مخزنة في الهواتف الخلوية لا يمكن سرقتها. وفي حال سرقة الجهاز يمكن للعميل بسهولة الاتصال بالبنك ووقف الحساب فوراً. وذلك على غرار ما يحصل في حال فقدت بطاقات الاعتماد.

6- تزيد من أرباح المصرف المركزي في عملية سك العملة أو ما يعرف بـ Seigniorage. فيحصل على الفرق بين القيمة الاسمية للعملة والتكاليف المُتمثلة في إنتاج وسك النقود التي تكون في هذه الحالة زهيدة جداً. في حين أن طباعة الألف ليرة أصبحت تكلف اليوم أكثر من قيمتها.

غسان شماس



فتش عن «اللولار» والمستفيدين من زواله

أمام كل هذه الايجابيات يبرز السؤال البديهي: لماذا لم يباشر البنك المركزي إذاً، اعتماد الليرة الرقمية على الرغم من اعتزامه اطلاقها في العام الماضي؟

من حيث الشكل، «لا يوجد مبرر منطقي أو تقني يحول دون الانتقال مباشرة وبشكل تدريجي نحو العملة الرقمية»، برأي شماس. فـالمصرف المركزي والمصارف التجارية لا تعوزها البنى التحتية أو حتى الخبرات والكفاءات اللازمة لاطلاق وإدارة مثل هذه العملة. أما المواطنون فهم معتادون على التداول الرقمي في البطاقات الخلوية مسبقة الدفع. حيث يعبؤون وحدات في هواتفهم من خلال شرائها بالليرات أو الدولارات النقدية، ويقومون بتداول هذه الوحدات في ما بينهم، وشرائها من محلات الهواتف، وأحياناً كثيرة إعادة بيعها مقابل الحصول على العملة الورقية. وعليه لن يجدوا أي صعوبة في استعمال العملة الرقمية المشابهة تماماً لعملية ملء الهواتف بالارصدة».

إلا أنه في المضمون فان القطبة المخفية الكبيرة لعدم طرح واعتماد العملة الرقمية هي أن «السلطة النقدية في البلد حوّلت الدولارات المحجوزة في الحسابات (اللولارات) إلى عملة رقمية»، من وجهة نظر شمّاس، «وهي تريد استنفاد هذه المبالغ بأسرع وقت ممكن أو التقليل من قيمتها. إذ إنه كلما انخفض حجمها، خفّ الحمل على «المركزي» والمصارف. ولكي تستمر هذه العملية بنجاح وتتسارع وتيرة استنفاد «اللولارات» يجب أن يرتفع سعر الصرف في السوق الموازية باضطراد، وهذا لا يتم من دون مضاربة على العملة الوطنية يقوم فيها من يحمل الليرات النقدية». وللتوضيح فان المودع الذي كان يسحب مثلاً 1 دولار من حسابه لشراء سلعة بالقيمة نفسها، أصبح اليوم في ظل سعر صرف 30 ألف ليرة مضطراً لسحب 3.7 دولارات على أساس سعر صرف 8000 ليرة كما ينص التعميم 151. وبالتالي، كلما زاد سعر الصرف في السوق الموازية استنفد المودع كمية أكبر من دولاراته. فاذا أصبح سعر الصرف في السوق الموازية 40 الف ليرة سيكون مضطراً لسحب 5 دولارات من حسابه بدلاً من 3.7 دولارات لشراء نفس السلعة التي ثمنها الفعلي 1 دولار.

بالفعل تحول «اللولار» في لبنان إلى عملة رقمية، كاملة المواصفات. فاللولار هو عملة غير نقدية لا يمكن لمسها، يجري شراؤها أو تبادلها وتحويلها من الحسابات بسعر صرف متفق عليه. ولكل المشككين والمنطلقين من قاعدة أن العملة الرقمية يجب أن تكون عملة البلد السيادية، وليست أي عملة أخرى، فليراجعوا تصاريح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي اعتبر أن الدولارات المحجوزة، أو ما أطلق عليها الخبير الاقتصادي دان قزي إسم «اللولار»، هي الدولار اللبناني. فقد أصبغ صفة اللبناني على هذه الدولارات التي لم يعد يربطها شيء بالفيدرالي الاميركي. وهو ما يشرع اعتمادها كعملة رمية محلية «ديفاكتو» أو بحكم الامر الواقع، من دون أن يكون بالضرورة مذكوراً ومنظماً من قبل القانون الساري المفعول.