جان كلود سعادة

من مَزرعَة إلى مُعتَقل

17 آب 2022

02 : 00

بعدما كان يوصَف بالمزرعة التي ترعى فيها المنظومة مصالحها وتتقاسم الغلّة حسب ميزان دقيق لحقوق الطوائف تحوّل لبنان إلى معتقل عَلِقَ فيه ملايين اللبنانيين دون تفرقة بعدما تمّت سرقتهم ومن ثم إفلات غول الإنهيار المتعمّد عليهم ليقوّض جميع نواحي حياتهم ومستقبلهم.

فبعد ثلاث سنوات من الإختطاف والإذلال وفي ظِلّ غياب تام للدولة والقانون والمرجعيّات؛ ها أنّ مليون ونصف مودع يواجهون خطّتين متنافستين في السوء والإجحاف.

أولاً - التذويب والليلرة

فسياسة مصرف لبنان والمصارف التي توقفت عن الدفع في أواخر 2019 هي تذويب الودائع ومعها خسائر القطاع المصرفي واستعمال سلاح الوقت «لقتل الدائن» (kill the creditor) الذي هو المودع في هذه الحالة.

فبعد تهريب عشرات مليارات الدولارات إلى الخارج لمصلحة السياسيين والمصرفيين والنافذين نجح النظام المصرفي في تذويب مليارات أخرى من الودائع عبر تخويف الناس ودفعهم إلى بيع شيكات الدولار بحسومات هائلة وصلت إلى أكثر من 88 بالمئة وكذلك عبر تعاميم مصرف لبنان التي تجبر مودع الدولار على سحب وديعته على سعر 8000 ليرة (تعميم 151) أو 12000 ليرة نصفها بالبطاقة العديمة الفائدة (تعميم 158) بينما دولار السوق قد وصل سعره إلى أكثر من 32000 ليرة.

إستعملت سياسة «التذويب» أيضاً لخدمة بعض كبار المقترضين فعمد النظام المصرفي إلى تذويب ما يقارب 40 مليار دولار من قروض القطاع الخاص عبر السماح بدفعها على سعر 1500 عوض تمديد المهل والإصرار على استرجاعها بالدولار خصوصاً ان المصارف قد استحصلت على ضمانات مقابل هذه القروض مما كان سيتيح للمصارف إعادة جزء من الودائع. فيصحّ القول هنا ان «أبناء المنظومة» رابحون دائماً وكيفما دارت ألأمور.

ثانياً - الشطب العشوائي

من ناحية أخرى فقد أتى أكثر من «أقرع ليشجّعنا، فكشّف عن الخطة وفزّعنا».

فالخطة المسمّاة «خطة تعافٍ» هي في الواقع خطة حسابية لتصفير خسائر الدولة ومصرف لبنان وتحميل المودعين نتائج ثلاثة عقود من البهلوانيّات النقدية والمالية والهدر والفساد عبر شطب أكثر من 60 مليار دولار من موجودات النظام المصرفي التي هي في النهاية أموال المودعين.

قد تكون هذه الخطة أفضل الممكن عند واضعيها لكنّها تسرّعت في الوصول إلى التصفير الحسابي دون المرور بالمحاسبة وتحديد المسؤوليات والتدقيق الجنائي في بنية الودائع. فالشطب الحسابي والعشوائي على مُجمل الموجودات هو طريقة إضافية للعفو عن المرتكبين وتحميل المدّخر اللبناني فاتورة الإبراء المالي للمنظومة وزبانيتها. أمّا البديل العلمي والأخلاقي فموجود ولو كانت الحكومات تتحاشى التطرّق إليه حتى الآن وهذا الخيار يشكّل مدخلاً منطقيّاً لحلّ معضلة الودائع في مقابل إستمرار القرصنة والبهلوانيّات وهو يعتمد على الخطوات التالية:

1 - إلغاء السرية المصرفية بالكامل مع مفعول رجعي.

2 - التدقيق الجنائي في بُنية الودائع ومصادرها وحركتها.

3 - فصل المدخرات الشرعية للّبنانيين عن باقي موجودات المصارف المشكوك بأمرها أو التي يمكن أن تطبّق عليها قوانين الإثراء غير المشروع، أو قانون تبييض الأموال أو التهرب الضريبي أو قانون إستعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج وغيرها من الجرائم الماليّة.

4 - إعادة الودائع الشرعية بعملة الإيداع خلال فترة معقولة تراعي حاجة المودعين وأعمارهم بينما يتم إستكمال الإجراءات بما يخص الحسابات المصرفية الأخرى والإنتهاء من إعادة هيكلة المصارف.

بعد ثلاث سنوات من إنكشاف الأزمة على أكبر عملية نهب منظّمة ومتعمّدة لشعب بكامله في التاريخ وبعد توصيفها من قبل رؤساء دول وأمين عام الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية وكان آخرها تقرير البنك الدولي الذي صدر في 2 آب 2022 لم يعد خافياً على أحد مدى الضرر والبؤس الذي أصاب اللبنانيين. فبعد أن عانى هذا الشعب من فشل بناء دولة حديثة وقادرة أصبح الآن أسيراً ومعتقلاً لا تتوفّر له متطلّبات الحياة الكريمة من دواء وطبابة ونقل ومواد غذائية حتى لو ارتضى شراءها بأسعارها الخيالية. وحتى لو قرر الهروب وترك البلد بما فيه فذلك أيضاً غير متاح لأن أمواله محجوزة وجوازات السفر غير متوفرة.

ففي غياب أيّة خطوات جديّة لإستعادة الثقة والمصداقية فالشعب اللبناني اليوم يعيش في جهنّم المنظومة ومعتقلها بعد أن عاش لسنوات في مزرعتها... فهنيئاً لنا!

@JeanClaudeSaade

(*) خبير متقاعد في التواصل الاستراتيجي


MISS 3