محمد علي مقلد

مات مازن

20 آب 2022

02 : 00

وصلتني رسالة من كلمتين. مات مازن. وأظنها رسالة موجهة إلى كل الأسماء في لائحة هذا الصديق العزيز. تذكرت كلمة شيخ جليل في تأبين صديقه. اعتلى المنبر وأخبر جمعاً محتشداً في القاعة بأنه فور دخوله ساحة القرية سأل ما الخبر، فقيل له مات ناصيف. نطقوا باسمه، ناصيف «حاف» من غير لقب، فالكل يعرف أن ناصيف لا يحتاج إلى لقب. هو أكبر من كل الألقاب.

هكذا هو مازن لا يحتاج إلى تعريف في ذاكرة من يعرفونه. هو بطل أول عملية عسكرية ضد العدو الإسرائيلي بالقرب من صيدلية بسترس. وكان قبل الاحتلال مقاتلاً شجاعاً على كل الجبهات الداخلية.

الشيخ الجليل أضاف في كلمته، أنه كان قبل عشرين عاماً قد اعتلى المنبر ليرثي «أبو ناصيف» أحد وجهاء القرية. ناصيف حمّل والده الكنية وورث عنه «الوجاهة» القروية، على قول الشيخ، فكان خير من حمل الأمانة. ثم استفاض في الكلام عن الأمانة وحاملها بتلميح إلى الأمانة التي تركها الإمام موسى الصدر في عهدة الورثة.

مازن، هو الآخر، كان خير من حمل الأمانة بافتتاحه عمليات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية «جمول». الأمانة بيان وقعه المناضلان الكبيران جورج حاوي ومحسن ابراهيم في السادس عشر من أيلول، وفي السابع عشر، نفذ مازن ورفاق له مضمون البيان.

قد تكون الأمانة التزاماً نضالياً سار على هديه متحدرون من أحزاب الحركة الوطنية، من بينهم خالد علوان من الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي نفذ مع رفاق له عملية شجاعة ضد ضابطين من الجيش الإسرائيلي في مقهى الويمبي في الحمرا.

ليس مهماً من كان البادئ. تؤرخ الصحف لعملية مازن في 17 أيلول وفي رواية أخرى في العشرين منه ، ولعملية خالد في 24 منه. كلاهما حمل الأمانة ببطولة. ولم يكونا وحيدين. كثر من المقاومين لبوا نداء الواجب إلى أن تمكنوا من تحرير الأرض. المهم هو مصير الأمانة ومصير حامليها.

لن أرثي مازناً بجميل الكلام حتى لا أرمى بـ»مادح نفسه يقرؤك السلام». أستأذن قاسم، صديقه من حركة أمل، وأنقل ما قاله عنه. «سأحدثكم قليلاً عن مازن... رفيق الفقراء. وسالك دروب الفلاحين. عابر النهر. ورفيق الصخر. وأول المناضلين.

بسيط مع ذكاء. طيب مع عنفوان. متواضع مع كبرياء. هادئ هدوء العظماء. حتى عندما تختلف معه بالسياسه والعقيدة. مازن، سائق التاكسي. القادم من عز وثراء. القنوع بحياته. الراضي بشظف العيش.

عندما التقيناه، حدّثنا عن سهى بشاره التي كانت صورتها تزين جدارغرفته. عن مسدسها وتدريبها. عن العمليه الأولى في بيروت في اليوم التالي لاحتلالها (عملية بسترس) وعملية محطة أيوب وعملية ساحة النجمه في صيدا وعن الشهداء. عن أخي وابن بلدي القائد علي أيوب وعن خالد علوان. تحدثنا كثيراً عن الجبهه والأفواج الاسلاميه، وأنصف الجميع.

مازن عبود. لو عرف محتلو العاصمه بيروت اسمه لاستبدلوا هتافهم بمكبرات الصوت.

لا تطلق النار يا مازن..نحن منسحبون.

مازن عبود راسم خريطة الوطن الجميل. وإس مقاومته

مازن عبود قهره الخبيث ولم يقهره الاعداء.

عشت عظيماً ورحلت صامتاً. هكذا يموت الشرفاء.

لروحك الف رحمه وورده».

لو اتسعت المقالة لرويت لك كل ما قالته ماري القصيفي في مقالتها عنك. كلام مؤلم عمن حملوا السلاح. قالت: «هؤلاء اليساريون، على علل كثيرة ضربت مسيرتهم وخطايا مميتة واكبت أداءهم، وحدهم كانوا يطمئنونني إلى أن لبنان ليس مسيحياً وليس مسلماً، كأن فيهم شيئاً من كل الديانات، من غير أن يكونوا طائفة... الرجال والنساء من طينة هؤلاء المقاومين كانوا يذهبون إلى الموت بكامل وعيهم وعن سابق تصور وتصميم، تلبية لنداء الوجدان والضمير والكرامة. لكن المسألة برمتها بالنسبة إليّ هي في موت جمول ونهاية الحزب الشيوعي».

حامل الأمانة مات. مات عبد الكريم عبود المعروف بمازن. وصاحب الأمانة استشهد وضاعت الأمانة بين لصوص الهيكل وتجار الموت والمرجئة الجدد، الذين يؤجلون الرد على العدو إلى يوم الدين ولا يؤجلون اغتيال خصومهم ساعة واحدة.

شكرا لك يا ماري على كلامك المؤلم لكثرة ما هو صادق. شكراً لك يا قاسم على مرثيتك، لكن، لا العدو قهره ولا المرض الخبيث لوى عزيمته. مازن مات كمداً قبل أن يموت. عجز عنه العدو، وعن مرضه الأطباء. مازن مات مقهوراً، لأن وارثي الأمانة يخبطون خبط عشواء لا يعرفون على من يطلقون الرصاص. وإن صوبوا بدقة في اليوم الأول يتلون فعل الندامة في اليوم التالي.

عندما استشهد حسن حمدان عام 1987، كتبت في رثائه: « إذا كنا يا حسن قد فقدنا بغيابك بعضاً من نكهة الصبر وشهية العناد، فلأن الكورس قد شرد عن اللحن، ولأن أفراد الجوقة تاهوا في ركام من عزف منفرد».

ربما لم تكن تعلم يا مازن أن الجوقة في قيادة الحزب كانت تصوب في ذلك الحين على صاحب الأمانة بالذات، لكنك كنت تحدس الخطر لأنك أم الصبي. هذا حصل أيام وجود الجوقة ، فكيف بعد أن «تشظى»؟ والعبارة قالها النائب محمد رعد عام 98 خلال الانتخابات البلدية في النبطية، يوم لم يجد الشيوعيون من يلفهم بجناحه.

في بدايات أزمة الحزب كان جورج حاوي لا يزال درعنا للدفاع عن الرأي الحر، عن الرأي المختلف داخل الحزب. قبل اغتياله بأيام، هددته قيادة ما بعد الجوقة بالفصل ما لم يمتثل لقرارها.

من حزب إلى جوقة إلى مبتدئين من هواة النضال. أليس هذا سبباً كافياً لموت حزب بكامله؟

مشى في جنازتك وكتب عنك رفاق من كل الأجيال. من المؤسسين ومن المجددين الذين كانوا مرجعاً للمناضلين وقوى التغيير والتقدم، إلى «الجوقة» التي جوفّت الحزب من داخله، إلى الهواة اللاهثين وراء الأقوى، إلى الأبرياء الحالمين ببعث يسار أممي من بوابة دمشق أو طهران، إلى من حملوا أمانة جورج حاوي في النقد الذاتي ورأوا أن الوحدة الوطنية هي الأساس وأن الدولة هي الحل.

سلام عليك يا مازن يوم ولدت ويوم حملت الأمانة. وسلام لروحك مدى حبنا لك ولصاحب الأمانة.


MISS 3