بروس جنتلسون

مَن الفائز في حرب العقوبات؟

22 آب 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

يوم صيفي عادي يقضيه زوّار تلال فوروبيو في موسكو | 18 آب ٢٠٢٢
حذّر الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره الروسي فلاديمير بوتين منذ أشهر من عواقب إقتصادية "مدمّرة" نتيجة العقوبات التي سيفرضها الأميركيون وحلفاؤهم على روسيا في حال أقدمت على غزو أوكرانيا. عندما غزا بوتين أوكرانيا رغم كل شيء، حملت العقوبات تداعيات هائلة فعلاً، ومع ذلك لم يقرر بوتين الانسحاب، بل أطلق عقوبات روسية مضادة. لكن بعد مرور ستة أشهر على بدء العقوبات وإطلاق مرحلتها الثالثة (الردع، ثم الإكراه، وأخيراً الاستنزاف)، من هو الفائز بحرب العقوبات حتى الآن؟

لم تنجح المرحلة الأولى حيث استُعمِلت العقوبات كعنصر أساسي للردع. ربما أصبح بوتين غير قابل للردع بسبب الرؤية الطموحة التي يحملها لروسيا واقتناعه بأن انتصاره وشيك. لكن حتى لو لم يكن الرئيس الروسي مستعداً بالكامل لتنفيذ الغزو، تثبت حالات أخرى أن التهديد بالعقوبات يحقق درجة من النجاح على مستوى الأهداف المحدودة التي تتعلق بتغيير السياسات المعمول بها، لكنه يعجز عن منع المعتدين الصارمين من خوض الحرب.

ارتكزت المرحلة الثانية على إقرار عقوبات جارفة بعد الغزو الروسي، وكانت تهدف إلى فرض تكاليف كافية لدفع بوتين إلى الانسحاب. كانت العقوبات المالية كفيلة بعزل روسيا عن النظام المالي الدولي، وفُرِض حظر على تقنيات مثل أشباه الموصلات التي تُعتبر أساسية لتأمين المعدات العسكرية ومنتجات تجارية مثل الهواتف الخليوية والسيارات. كذلك، كانت قرارات الحظر الرياضي والثقافي تهدف إلى عزل الروس العاديين. على صعيد آخر، قد تحمل إمدادات النفط والغاز الطبيعي أهمية استراتيجية كبرى في الاقتصاد الروسي، لكن لم تُعْطِ العقوبات مفعولها سريعاً وبقيت تداعياتها محدودة نظراً إلى اتكال الجهات التي فرضت العقوبات على مصادر الطاقة الروسية، علماً أن الإنتاج الروسي قبل الحرب كان يساوي نصف الميزانية الفدرالية وثلث الناتج المحلي الإجمالي.

في المقابل، أعطت حزمة العقوبات الإجمالية آثاراً اقتصادية بارزة. سجّلت تقديرات الناتج المحلي الإجمالي الروسي أسوأ تراجع منذ فترة التسعينات الفوضوية. في شهر آذار الماضي، خسرت عملة الروبل نصف قيمتها تقريباً (من 84 إلى 154 روبل مقابل الدولار الأميركي). وفي منتصف شهر نيسان، حذر عمدة موسكو من خسارة 200 ألف وظيفة. كذلك، اقترب التضخم في مختلف المجالات الاقتصادية من 18%، ويرتفع مستواه بدرجة إضافية في القطاعات الأكثر اتكالاً على سلاسل الإمدادات الدولية. وتزامناً مع نجاح المقاومة الأوكرانية في تدمير كميات كبيرة من المعدّات القتالية وتصاعد العقوبات التي تمنع محاولات إعادة التزوّد بالمعدات، واجهت القوات الروسية في الخطوط الأمامية نقصاً حاداً.

لكن حذت روسيا حذو الدول التي تتعرّض للعقوبات ولجأت إلى ثلاث استراتيجيات دفاعية أساســـية لاحتواء تلك التكاليف: إيجاد خيارات بديلة عن الشركاء التجارييـــن السابقين، وخــرق العقوبات، وابتكار تعويضات محلية.

للتعامل مع التكاليف المتلاحقة، لجأ الكرملين أيضاً إلى خليط من التدابير الاقتصادية التعويضية والقمع السياسي. ساهم ارتفاع أسعار الفائدة في البنك المركزي وضوابط رأس المال في كبح تراجع الروبل الأولي وبلوغه أعلى مستوى منذ سبع سنوات في أواخر شهر حزيران. كذلك، كانت زيادة معاشات التقاعد وخطط إنقاذ الشركات كفيلة بدعم الروس العاديين، وكبحت حملة الاعتقالات وغيرها من أدوات القمع السياسي موجة الاحتجاجات الداخلية الأولية. وسرعان ما دفع الأوليغارشيون الذين تجرّأوا على الاحتجاج ثمن مواقفهم.

لقد بدأت المرحلة الثالثة من العقوبات الآن، وهي مرحلة الاستنزاف: من سيتعب أولاً؟

تعطي العقوبات الروسية المضادة، لا سيما قطع إمدادات الغاز الطبيعي عن الاتحاد الأوروبي، تداعيات من نوع آخر. بدءاً من 31 تموز، تراجعت أحجام خطوط الأنابيب إلى مئة مليون متر مكعب يومياً. وتشمل أحدث اتفاقيات أبرمها الاتحاد الأوروبي لتقاسم الغاز ثغرات كافية لمتابعة سياسة التقنين خلال الشتاء المقبل.

يجب ألا ننسى أيضاً التداعيات العالمية لكل ما يحصل. مجدداً، يخضع ملف التغير المناخي للمقايضة، فقد بدأت الولايات المتحدة تتراجع عن الحدود التي رسمتها للتنقيب عن النفط والغاز محلياً، وتتجه أوروبا إلى استئناف استعمال الفحم. تواجه الدول النامية والفقيرة أكبر الأضرار بسبب هذه التحركات، فقد يصل 40 مليون شخص على الأقل إلى خط الفقر. قد تكون تكتيكات الحرب الروسية المسؤولة الأولى عن النقص الغذائي الذي يواجهه نصف سكان العالم تقريباً، لكن يلوم معظم الجنوب العالمي العقوبات الغربية على هذه المشاكل أيضاً.

تذكر مجموعة من التحليلات أن العقوبات تُسبب أضراراً بنيوية عميقة في الاقتصاد الروسي. قد تتحسن قيمة الروبل، لكن يثبت سعر الصرف في السوق السوداء مدى هشاشة العملة. في غضون ذلك، هرب من البلد حوالى 500 ألف عامل، معظمهم أشخاص متعلّمون يتمتعون بخبرة واسعة في مجال التكنولوجيا ويشكلون جزءاً أساسياً من قاعدة المهارات الاقتصادية. وبعدما خسرت القوات الروسية 2600 مركبة مدرّعة وأطلقت حوالى 70% من صواريخها دقيقة التوجيه، تفرض عليها العقوبات إطلاق جهود بدائية لإعادة التزوّد بالمعدات، منها تصنيع أشباه الموصلات من الثلاجات وغسّالات الصحون.

إذا استمرت العقوبات الغربية وتابعت المقاومة الأوكرانية المدعومة من حلف الناتو فرض تكاليف كبرى ميدانياً، فقد تتصاعد الضغوط الاقتصادية والعسكرية بدرجة إضافية. مع ذلك، يجب ألا يتوقع أحد استسلام بوتين. لا تعكس المزاعم المرتبطة بوصول روسيا إلى حالة من "النسيان الاقتصادي" أو "تدمير آلة بوتين الحربية" المشهد الكامل. ولا تقتصر المهمة الأساسية على استهداف "البوتينية". يعجّ سجل العقوبات بحالات لم تنجح فيها التداعيات الاقتصادية الحادة في تغيير السياسات المعتمدة: فُرِضت العقوبات على كوبا لأكثر من ستين سنة مثلاً، لكن لا يزال النظام على حاله. واستمرت العقوبات ضد كوريا الشمالية لعقود طويلة، ومع ذلك نجح الزعيم كيم جونغ أون في توسيع ترسانته النووية. كذلك، أدت حملة "الضغوط القصوى" التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ضد إيران إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 10%، وارتفاع مستوى التضخم بنسبة وصلت إلى 40%، واقتراب معدل بطالة الشباب من 30%، ومع ذلك لم تظهر أي مؤشرات على استسلام طهران.

يبرز عاملان أساسيان في الحالات التي نجحت فيها العقوبات في تحويل التداعيات الاقتصادية إلى التزام حقيقي بالسياسات المطلوبة.

يتعلق العامل الأول بدور النُخَب الداخلية ومجموعة أخرى من اللاعبين السياسيين، فيعيق هؤلاء الضغوط المرافقة للعقوبات أو يرسّخونها ويستعملونها ضد النظــــام. يتوقف قرارهم على الطريقة التي تُحقق مصالحهم: المقاومة أو الرضوخ. حققت العقوبات على إيران في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما هدفها السياسي، مقابل فشل حملة ترامب، لأنها استهدفت التحولات الداخلية في السياسة الإيرانية من خلال فرض الضغوط الاقتصادية من دون إلحاقها بأي عداء سياسي. تكرّر الوضع نفسه مع ليبيا في العام 2003، حين تدهور قطاع النفط المحلي بسبب غياب التكنولوجيا والاستثمارات الدولية الخاضعة لعقوبات الولايات المتحدة وأوروبا والأمم المتحدة، ما سمح للتكنوقراطيين البراغماتيين في محيط الزعيم الليبي السابق معمر القذافي بإقناع أوساطهم بأن مصلحتهم تقضي بتقديم التنازلات في ملف الإرهاب وبرامج أسلحة الدمار الشامل.

في ظل تصاعد التقديرات التي تشير إلى مقتل أو إصابة بين 70 و80 ألف جندي روسي، وهو رقم أعلى من الخسائر التي تكبّدها البلد خلال حرب الثماني سنوات في أفغانستان، يجب ألا يبالغ أحد في تقدير أهمية التقارير التي تشير إلى توسّع المعارضة الداخلية في أوساط العائلات الروسية والمنشقين، لكن لا يمكن الاستخفاف بها أيضاً. يجب أن يتعامل المعنيون بالطريقة نفسها مع السيناريوات المتعلقة بإقدام صناع القرار في بعض النُخَب الأساسية على فرض الضغوط لإيجاد مخرج مقبول لأسباب قومية خاصة بهم، إذ يشعر البعض بأن كبرياءه لا يسمح له باللجوء إلى "متطوعين" من كوريا الشمالية أو حماية الجيش من أضرار إضافية.

يتعلق عامل أساسي آخر بالاستراتيجية الدبلوماسية التي تستعمل أداة العقوبات المكثفة لانتزاع شروط إيجابية لكن متبادلة بدرجة معينة. في هذا المجال أيضاً، يمكن استخلاص دروس مهمة من إيران وليبيا، رغم تعدد الاختلافات بين التجربتَين. سبّبت العقوبات التي فرضها أوباما على إيران أضراراً اقتصادية كافية لدفع إيران إلى خوض مفاوضات جدّية حول منع الانتشار النووي. وعندما اتفق الطرفان على "خطة العمل الشاملة المشتركة"، رُفِع جزء كبير من العقوبات. لكنّ إصرار ترامب على رفض أي اتفاق قريب من العمليات الدبلوماسية الجدّية قضى على فرص التوصل إلى حلّ يرضي الطرفَين. في ليبيا أيضاً، مهّد الاتفاق الذي أبرمه المفاوضون الأميركيون والبريطانيون (بقيادة مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، ويليام بيرنز، الذي أصبح اليوم مدير وكالة الاستخبارات المركزية) لرفع العقوبات مقابل تنازلات في مجال الإرهاب وتفكيك أسلحة الدمار الشامل. سرعان ما اتضحت أهمية هذا الاتفاق خلال الفوضى التي رافقت أحداث الربيع العربي في العام 2011 والاضطرابات المتلاحقة منذ ذلك الحين.

كان تحديد شروط مناسبة وممكنة سياسياً عملاً شاقاً مع إيران وليبيا، لكنه أكثر صعوبة مع روسيا. ما هي العقوبات التي يمكن رفعها، وما هي التنازلات الملائمة مقابل هذه الخطوة؟ وهل سيصبح جزء من العقوبات دائماً؟ للإجابة على هذه الأسئلة وسواها، يتعلق عامل أساسي بفرض عقوبات صارمة بما يكفي لحصد دعم الولايات المتحدة وأوروبا وأوكرانيا، تزامناً مع ترك المجال مفتوحاً أمام موافقة بوتين أو قادة روس آخرين. ستكون إقامة هذا النوع من التوازن مهمة شاقة لكن ضرورية.


MISS 3