جان كلود سعادة

كانوا جميعاً يعلمون!

17 أيلول 2022

02 : 00

يُقال إن هنالك طريقتين للسيطرة على الناس: تخويفهم وإحباطهم.

ففي الحرب الأهلية تمّ تخويف الناس وقتلهم وليس فقط إحباطهم. أمّا في زمن «السلم الأهلي المقدس» فتم تخويفهم من بعضهم البعض وعندما اعتقد اللبنانيون أنهم وجدوا طريقة للتحرر نهائياً من سيطرة المنظومة أظهرت هذه وجهها الحقيقي ودهاءها المعهود فسرقتهم عن سابق تصوّر وتصميم وأوقعت البلد بما فيه في دوامة الإنهيار المتعدد الأبعاد لتحقيق أعلى درجات الإحباط والسيطرة عليهم من جديد. فليس من مصلحة المنظومة أن يكون الناس واثقين ومتعلمين ومرتاحين مادياً لأنهم سيخرجون عن نطاق السيطرة. أمّا المطلوب فهو مجموعة فقراء، محبطين، خائفين يعتقدون أن الشيء الأكثر أماناً هو تلقي الأوامر وانتظار الأمل بحياة أفضل من زعماء الطوائف.

كنّا نعلم أن ما تمّ تركيبه بعد الحرب الأهلية لم يكن دولة قادرة ولا عادلة. فمن زمن دخول عقلية الميليشيات الى الدولة تحوّلت الدولة نفسها الى ميليشيا كبيرة لكن بوجه مدني. وعمليّاً إقتصر دور هذه الدولة على كونها آلة معقدة لتوزيع الحصص من دون رُؤية للمستقبل ومن دون إنتاجية وخدمات للمواطنين.

كنّا نعلم أن هذه المسمّاة دولة لا نفع لها ولا دور غير إصدار جوازات السفر وتجديدها كما استخراج بعض الأوراق الرسمية لمن خانتهم الرؤية والحظ ولم يستحصلوا لأنفسهم وعائلاتهم على جنسيّات من دول تحترم نفسها وتحترم الإنسان والمواطن وتحفظ حقوقه.

كنّا نعلم أن هذه العصابة قادرة أن تأخذنا إلى جهنّم بالقول والفعل لأن جيلنا كان قد اختبر جهنّم للمرّة الأولى عندما سمعنا بكل هذه الأسماء المجيدة أيام الحرب وما بعدها وما زالوا على ثباتهم. كنّا نعلم أن لا الوظيفة في الدولة ولا حتى العمل في لبنان كان أمراً مرغوباً أو كافياً للخروج من حفرة «جهنم الأولى» للذين ما زالوا يذكرونها. فهاجر الكثيرون ممن نجا من الحرب والموت ولم يعودوا واغترب البعض الآخر للعمل وعاد ليقع في فخ البونزي الكبير.

فرسان المنظومة

كانوا يعلمون أن البلد كلّه قد تم تركيبه على شكل آلة لسرقة الناس وشفط دولارات المغتربين والمساعدات الأجنبية وإثراء الكارتيل وحاشيته بالسرقة والسمسرة والفساد.

كانوا يعلمون أن أساطير زيادة الودائع سنوياً والقطاع المصرفي الناجح والمتين والليرة المستقرة وجوائز أفضل حاكم مصرف مركزي في المجرّة كانت كلها أكاذيب وروايات حاكتها شركات العلاقات العامّة التي احترفت تلميع الصوَر. فكان مصرف لبنان والقطاع المصرفي بأكمله مجرّد آلة لجمع الدولارات ثم تبديلها بأرقام وهمية وعملة مزوّرة في أكبر عمليّة إحتياليّة في تاريخ البشرية.

كانوا يعلمون أن كامل البناء الإقتصادي لما بعد الـ1990 هو بناء من ورق وآيل للسقوط في أي لحظة وسيأخذ معه مدخرات المتقاعدين ودولارات المغتربين وليرات اللبنانيين جميعاً إلى جهنّم وللمرّة الثانية في جيل واحد.

كانوا يعلمون أن كل الذي نراه هو خديعة بصريّة كبرى ومخطط شيطاني لسرقة اللبنانيين لكن ذلك لم يمنعهم من المشاركة بالأكل من صحن المحاصصة والنهب من خزائن الدولة ومشاريعها وسمسراتها وتلزيماتها. ولم يمنعهم أبداً من إطالة عمر المشكلة بكافة الأساليب لكي يتاح لهم الوقت الكافي للمشاركة في حفلة النهب الوطني المتوازن.

كانوا يعلمون منذ أكثر من عقدين أن الإنفجار حاصل لا محالة وتخبئة الخسائر تحت السجادة مستمرة. لكن شهية السرقة من المال العام والمال الخاص كانت أقوى من خوفهم من السقوط في الحفرة. لكن بعد هندسات 2016 واحتجاز سعد الحريري في 2017 أرسلت المنظومة التحذيرات المشفرة إلى جماعتها المباشرة لتهريب أموالهم إلى الخارج، أو إلى العقارات والذهب والأصول الآمنة الأخرى. واستمرّوا كمجموعة بخداع الناس وإخفاء الحقيقة للإستفادة من كازينو البونزي الكبير حتى آخر لحظة.

إنه نظام مافيوي مجرم يجتمع على السرقة كالضباع الكاسرة وله أداة تنفيذية مالية توزّع الريع والرشوة على نطاق واسع. وكلّما دعت الحاجة، يستعمل الطائفية والغوغائية والعصبيّات لإدارة الجمهور وتخويفه وإحباطه وإفقاره ليبقى سهل الإنقياد للزعامات إيّاها.

كانوا جميعاً يعلمون وهذه المرة لم تبق هناك أموال ولا خدمات ولا علاقات عامّة قادرة أن تغيّر صورتهم أو تسكت الناس عن الصراخ. «فلّوا».

@JeanClaudeSaade

(*) خبير متقاعد في التواصل الاستراتيجي


MISS 3