إيفو دالدير

الغرب يحافظ على تماسكه رغم الضغوط

22 أيلول 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

جنود أوكرانيون على إحدى الدبابات الروسيّة المدمّرة في ضواحي كييف | أوكرانيا
بعد نجاح الهجوم الأوكراني المفاجئ في استرجاع الأراضي التي استولت عليها روسيا منذ بدء غزوها في شهر شباط الماضي، تراجعت الخيارات المتاحة أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتغيير مسار الحرب. من دون تعبئة عامة، وهو خيار استبعده بوتين خوفاً من نشوء معارضة محلية، بدأت روسيا تفتقر إلى العناصر والمعدات للحفاظ على الأراضي التي تتابع السيطرة عليها أو استرجاع زمام المبادرة. تقتصر آمال بوتين اليوم على تلاشي الدعم الغربي لأوكرانيا بعدما بدأت تكاليف الحرب تؤثر على أوروبا، لا سيما نقص الطاقة وارتفاع الأسعار.

سبق وواجه بوتين وضعاً مماثلاً، فقد أقدم على غزو أوكرانيا وهو يظن أن الغرب المنقسم والضعيف لن يجرؤ على المواجهة، لكنه كان مخطئاً. ردّ الأميركيون وحلفاؤهم على تحرّكه بطريقة موحّدة وقوية فاجأت موسكو والكثيرين في بروكسل، ولندن، وواشنطن. فرضت الدول الغربية عقوبات غير مسبوقة على الاقتصاد الروسي، وأرسلت كميات هائلة من الأسلحة إلى أوكرانيا، واستقبلت ملايين اللاجئين، وقدّمت دعماً مالياً أساسياً لتعويم الاقتصاد الأوكراني. في غضون ذلك، توحّد الأوكرانيون حول قضية بلدهم، واسترجعوا أكثر من 60 ألف كيلومتر مربّع من الأراضي التي استولت عليها روسيا منذ شهر شباط.

ردّ بوتين على المقاومة الأوكرانية والغربية القوية عبر تقليص طموحاته وتحويل العمليات العسكرية الروسية إلى شرق أوكرانيا، لكنه عمد في الوقت نفسه إلى تخفيف إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا بانتظار أن تتلاشى الوحدة الغربية اللافتة. اليوم، أصبح الشتاء على بُعد أشهر قليلة، ويبدو أن بوتين يعوّل على انتهاء شحنات الغاز الروسي لتأجيج مشاكل أوروبا وكسر إرادة الغرب أخيراً. هو يكثّف أيضاً تدخّل روسيا في السياسات الأوروبية المحلية لدعم القوى السياسية الموالية لروسيا، لا سيما في معسكر اليمين، ويتابع إطلاق حملات التضليل لنشر خطاب محدّد في دول الجنوب العالمي، مفاده أن الغرب هو المُلام على مشاكلها الاقتصادية الحادة.

لقد أصبحت الضغوط التي تُهدد الوحدة الغربية هائلة. لطالما كانت النشوة التي رافقت الرد الأولي القوي على الغزو الروسي محكومة بالخضوع لأصعب الاختبارات في مرحلة معينة، وبدت الخلافات داخل البلدان وبينها حتمية حول الطرف الذي يُفترض أن يتحمّل أعباء معاقبة روسيا على عدوانها. زادت المخاوف من "التعب الأوكراني" على مر الصيف. في شهر حزيران، أعلن المسؤول السابق في البنتاغون، أندرو إيكسوم، أن "الدعم الغربي لأوكرانيا بلغ ذروته". وفي الشهر اللاحق، حذّر المحلل فريد زكريا من احتمال أن تنهار الاستراتيجية الغربية لأن "المنازل في أوروبا قد تفتقر إلى التدفئة الكافية" خلال الشتاء المقبل.

لكن رغم هذه الخلافات، أو ربما بسببها، لا يزال انهيار الإرادة الغربية مستبعداً، حتى لو تباطأ الهجوم الأوكراني المضاد. يدرك الغرب نفوذ بوتين، وهو يسعى إلى إضعافه بكامل قوته. ويفهم الأوروبيون، أكثر من الأميركيين على الأرجح، أن ثمن الحرية باهظ وأن الأوكرانيين يتحمّلون أكبر التكاليف. لقد كانت الصدمة التي أنتجتها أول حرب برية كبرى في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية قوية ودائمة، لكنها تساوي بقوتها تصميم الغرب على هزم روسيا.

لا يزال الدعم الغربي لأوكرانيا قوياً رغم جميع الضغوط إذاً. يتابع الرأي العام الأميركي تأييد مساعدة أوكرانيا بجميع الطرق. وفق استطلاع جديد أجراه "مجلس شيكاغو للشؤون العالمية"، يدعم أكثر من 70% من الأميركيين تقديم المساعدات العسكرية والمالية إلى أوكرانيا. تبالغ وسائل الإعلام في تسليط الضوء على عدد صغير من الجمهوريين الذين صوّتوا ضد تقديم المساعدات إلى أوكرانيا في الكونغرس، لكن صوّتت الأغلبية الساحقة من الحزبَين الجمهوري والديمقراطي دعماً لهذا القرار مراراً. وفي إثبات قوي على جدّية الالتزام الأميركي في هذا الملف، وافق 95 سيناتوراً على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، ما يعني توسيع الضمانات الأمنية الأميركية لصالح البلدان الواقعة في شمال غرب روسيا.

أدى التأييد الأميركي الواسع لأوكرانيا إلى تقوية الدعم في أنحاء الغرب. كان التحول السريع والجذري في السياسة الخارجية الألمانية مؤثراً أيضاً. لطالما ظنّت برلين أن السلام يتطلب متابعة الحوار والتواصل والتجارة مع موسكو، أو حتى اتكال ألمانيا على مصادر الطاقة الروسية. لكن تخلّت الحكومة الائتلافية التي يقودها "الحزب الاجتماعي الديمقراطي" و"حزب الخضر" عن الفكرة الراسخة منذ عقود حول إمكانية تجنب الصراع مع روسيا عبر تكثيف التواصل معها. بدأت الحكومة تكبح اتكال ألمانيا على الغاز الروسي، حتى أنها وافقت على وقف استيراد الفحم والغاز الروسي هذه السنة.

أيّد "حزب الخضر" ما اعتبره أحد المسؤولين البارزين فيه، وهو نائب المستشار الألماني ووزير الاقتصاد روبرت هابيك، قراراً "مريراً" بإعادة تشغيل مصانع الفحم. كذلك تعهدت وزيرة الخارجية، أنالينا بربوك المنتسبة بدورها إلى "حزب الخضر"، بأن "تقف برلين إلى جانب أوكرانيا طالما تحتاج إليها"، وأن تشمل مساهماتها الأسلحة والمساعدات المالية والإنسانية. يبدو أن الرأي العام الألماني يوافق على هذا التوجه. يكشف استطلاع من شهر تموز الماضي أن 70% من المشاركين الألمان أرادوا من حكومتهم أن تدعم أوكرانيا، مع أن نصفهم تقريباً مقتنع بأن العقوبات تؤذي ألمانيا أكثر من روسيا.

في إيطاليا، لا يعني دور روسيا في إسقاط حكومة دراغي أن الحكومة المقبلة في روما ستكون متساهلة مع موسكو. تكشف استطلاعات الرأي أن اليمين الوسطي سيفوز بأغلبية الأصوات في انتخابات 25 أيلول. من المعروف أن المرشّحة الأوفر حظاً لاستلام رئاسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، تدعم الغرب وتعارض روسيا بقوة، حتى لو كان حزبها ينحدر من حزب بينيتو موسوليني الفاشي الوطني. في شهر آب، اعتبرت ميلوني نتيجة التصويت لصالح انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو في مجلس النواب الإيطالي (398 صوتاً داعماً مقابل 9 أصوات معارِضة) "خبراً ساراً"، وصرّحت لإحدى الصحف الألمانية بأن "الركائز التاريخية للسياسة الخارجية الإيطالية، أي أوروبا وحلف الأطلسي، تبقى على رأس أولويات برنامجنا". ثم أضافت قائلة: "إذا خسرت أوكرانيا ورضخ الغرب سندفع، نحن الأوروبيين، أعلى كلفة على الإطلاق، علماً أننا لم نقم في السنوات الأخيرة باستثمارات كافية لتعزيز أمننا، على مستوى الجيوش والطاقة".

من الواضح أن الأشهر المقبلة ستختبر قوة إرادة أوروبا. بعد موجة الحر الفائقة التي اجتاحت القارة هذا الصيف، قد يواجه الأوروبيون شتاءً قارساً لأقصى حد، نظراً إلى نقص الإمدادات وتحليق الأسعار. لكن اتخذت الحكومات الأوروبية خطوات حاسمة لإبطاء هذه التداعيات، فبذلت قصارى جهدها لتأمين إمدادات جديدة من الطاقة وحماية المخزون الراهن. نتيجةً لذلك، باتت احتياطيات الغاز الأوروبي قريبة اليوم من بلوغ مستويات تاريخية، بما في ذلك 85% في ألمانيا و92% في فرنسا. كذلك، تسعى الحكومات إلى معالجة صدمة الأسعار، فقد طرحت بريطانيا حزمة بقيمة 150 مليار جنيه استرليني لحماية الأُسَر والشركات من تحليق الأسعار، وأقرّت ألمانيا حزمة إغاثة بقيمة 65 مليار يورو لدعم المستهلكين، وتتجه فرنسا إلى الحدّ من زيادة أسعار الطاقة بنسبة 4% بحلول نهاية السنة. إنها مبالغ مالية طائلة، وهي تثبت تصميم الحكومات على كبح أي مواقف شعبية محتملة ضد دعم أوكرانيا.

أخيراً، يظن المعسكر المقتنع بانهيار الوحدة الغربية قريباً أن التساهل مع بوتين هو أفضل حل. لكنّ هذا الخيار غير وارد. لنتخيّل مثلاً أن تقرر ألمانيا الاستسلام وتوقف شحن الأسلحة والدعم الاقتصادي إلى أوكرانيا. لن تكون هذه المقاربة محبّذة طبعاً. لكن تشكّل المساهمات الألمانية جزءاً بسيطاً من الأموال والأسلحة التي تتلقاها أوكرانيا أصلاً. كذلك، لا تستطيع ألمانيا أن ترفع العقوبات عن روسيا إلا إذا أقنعت الاتحاد الأوروبي كله بهذه الخطوة، وهي نتيجة مستبعدة لأن معظم دول شرق أوروبا تعتبر العدوان الروسي تهديداً قاتلاً. قد تدعو برلين كييف إلى إيجاد تسوية مع موسكو، لكن لن يقبل الأوكرانيون بهذا الاقتراح على الأرجح، لا سيما إذا تابعوا الانتصار في ساحة المعركة. تعرف برلين أيضاً أن إحداث تعديل سياسي تتراجع فرص نجاحه يترافق مع كلفة عالية. سيؤثر انقلاب مواقفها بهذا الشكل على علاقاتها مع شركائها في أوروبا ومع الولايات المتحدة أيضاً، وهي نتيجة تحاول ألمانيا تجنّبها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

يشكّل الغزو الروسي إهانة تاريخية للقواعد والمعايير الدولية، وتعتبره دول الناتو تهديداً خطيراً للأمن الأوروبي والأميركي. ردّ الغرب عليه بوحدة لافتة لم يتوقعها الكثيرون. اليوم، أصبحت روسيا الدولة الخاضعة لأكبر قدر من العقوبات في العالم. كان الدعم العسكري الذي حصلت عليه أوكرانيا كفيلاً بتسهيل تفوّقها في الحرب، ولا تزال أوروبا ملتزمة بمنع روسيا من استعمال الطاقة كسلاح بحد ذاته عبر وقف الاتكال على صادرات الوقود الأحفوري الروسي.

لن يتغيّر شيء من هذه الوقائع بحلول الشتاء المقبل. سرعان ما ينتهي الشتاء وتتوقف الضغوط التي يمارسها بوتين. يدرك معظم الناس في أوروبا وأميركا الشمالية أن أمنهم وحريتهم يتوقفان على حماية حرية أوكرانيا واستقلالها والحفاظ على انتمائها إلى الغرب. هذه هي المسائل الحقيقية التي أصبحت على المحك في هذه الحرب، ولهذا السبب تحديداً سيحافظ الغرب على تماسكه.


MISS 3