نغم شرف

إليك أينما تكون... صورة عن بيروت

5 تموز 2019

12 : 39

جلست لسنوات طويلة في صغري أراقب سكّان بيروت وحياتهم في المجلات، مصمّمة أنني سأعيش فيها عندما أكبر. حين وطأتها للمرة الأولى، حاربت النوم طوال الليل بسبب إدراكي أن جسدي داخل المدينة. في تلك الليلة أيضّا رأيت قبلة حقيقية  بين رجل وامرأة وتنبّهت أن لا أحد غيري يراقب هذا التعبير العلني عن الحب. لطالما عرفت انها ستكون مدينتي. جئتها في أواخر مراهقتي مثل العديد من أبناء طينتي طالبة الخلاص. إختبرت مع ناسها كل انواع المشاعر، الموسيقى والرقصات، من الشوارع وصولًا إلى السطوح المهجورة. حاولت أن أتركها أكثر من مرة بغضب وبكاء وإصرار، وكنت دائمًا أحمل أمتعتي، نباتاتي، قطتي وأعود. تقبّلت أنني أحب هذه المدينة التي أصفها بأنها ربتني، وأنه لا جدوى من محاربة حبّي لها بعد اليوم، وطالما أن الحب ليس اختيارياً فلا يهم إن كان صحيّا أم لا.

اليوم، وبعد مرور 9 سنوات، ورغم تصالحي معها، أختبر أحياناً حنيناً غير مبرر لها كأنني امرأة عجوز تعيش في بلاد بعيدة وتسترجع ذكريات شبابها. لم أجد إجابة لهذه الحالة إلا حين شاهدت قبل عامين   فيلم "إليك أينما تكون" لـ "برهان علوية"،  والذي كشف لي الحياة في بيروت بعد الحرب الأهلية، وكيفية تحوّل الوطن إلى منفى.
يصف أنسي الحاج  بيروت ما قبل الحرب، فيقول: "بيروت مدينة اللقاء بمعنى الصدفة، مدينة محتملة دائماً. بيروت احتمال الصدفة العجيبة. تخترع نفسها من جديد". أما أحمد بيضون فقال: "رجعت بيروت بدون عمر. الحي بوسط المدينة ورغم جماله، بحطّك برّا. مدينة بتزهق بالنهار وبتحاول تمرض باللّيل".
لطالما تساءلت عن أسباب تكتّم الذين عايشوا الحرب على ذكرياتهم، أو عدم حضورها بشكل واضح بواجهة شخصياتهم وأعتقد أنها وسيلتهم الوحيدة ليتعايشوا مع ما في داخلهم. شخصيات فيلم برهان علوية تفعل العكس تماماً عبر كشف الخبايا النفسية للحرب والإضطرابات الجسدية والعقلية التي طغت عليهم، فتظهر المرأة تمشي بعد منتصف الليل في الشارع لأن الرّجال في منزلها مصطفون على الحائط ويتعرّضون للقتل بالرشّاش الذي بقيت تقلد صوته طوال المقابلة. وتحكي أخرى عن كيفية اغتصاب زوجها لها، هربها من البلد، عملها كراقصة تعرٍّ وعودتها لترى أن ابنها يرغب بعلاقة جنسية معها. يُظهر الفيلم الرجل المتدين، والآخر الحزين على والدته التي باعت العلكة في الجنوب، والمعتز بقطع أذن شاب ادّعى أمامه أنه لا يسمع وقتله عشرات آخرين، ولعلّ اكثرجملة حقيقية تفوّه بها هي :"أنا بس شوف دم بنبسط".

عُدت وشاهدت "إليك أينما تكون" قبل يومين مع صديقي، وفهمت أننا جيل يعيش حالة حداد على ماضي مدينة لا يعرفها ولا ذكريات له فيها. ورثنا الحنين الى بيروت من حكايات وسط البلد، شاطئ الأوزاعي والحفلات التي لم تنتهِ. نحن نتيجة الحرب الأهلية، نعرفها جيّدا دون أن نملك صورة في ذاكرتنا عن الأحداث لنسقط أفكارنا عليها، فينتهي بنا المطاف متخبّطين في داخلنا. الفيلم أمّن لي الصورة. صديقي الذي يملك قدرة هائلة على الحياة هو نفسه لا يعرفها، اعتبر الفيلم كليشيه وقال لي: "بيروت ليست مدينة مدمّرة، ربما هي متعبة، مكتظّة، ملوّثة. لكنّها قابلة للحياة، المباني وساحة البرج وكل ما انتهى ليس من شأننا، نحن لم نحمل سلاحاً يوماً، لا نعرف كيف كانت بيروت ونملك ما يكفي من صراعات يومية. لدينا أماكننا وشوارعنا التي قد لا تكون الأجمل، لكننا نصنع فيها قصصًا. أعتقد أن أفضل ما حدث هو فشل من سبقونا بتحقيق أحلامهم التي كانت ستمسحنا. الحرب ليست في الشارع بين البشر الذين لا يرغبون سوى العيش، الحرب في الحكومة".


MISS 3