شربل داغر

الشعر بين عموده وشعوره

11 تشرين الأول 2022

02 : 01

لا يزال نقاد وبلاغيون عرب ينساقون وراء التعريف الشهير: "الشعر كلام موزون ومقفى، يدل على معنى"، من دون تبصّر أو مراجعة. هذا ما يستمر عند المتأخرين بعد القدماء...

لكنهم -هم، وغيرهم- لم يلتفتوا إلى ما أورده الفراهيدي في "كتاب العين" عن الشعر والشاعر. وما أوردَه، لا يَرِدُ مصحوباً بمثلٍ أو قولٍ سابق عليه.

يفيد التعريف أن "الشاعر يَشعر بما لا يَشعر به غيرُه".

ما هو ممكنُ العمل به، وما انسقتُ إليه هو الوقوف عند "أنواع" الشعر العربي القديم، ابتداءً من الأسئلة التالية : ما النوع الشعري؟ أهو يشير إلى بناء فني أم إلى غير ذلك؟

الإجابة تكاد تكون بسيطة وإيجابية، وهي أن هذه الأنواع هي أقرب إلى أنماط تعبيرية، منها إلى أشكال بنائية. لذلك يبدو النوع دون تحديد الشعر، أي "العمود"، بل يقع تحته، ويتفرع منه، إذا جاز القول.

لو جرى فحص الأنواع ابتداء من تسمياتها، لبدا بيُسر أنها تشير إلى أنواع شعورية، مثل: المدح، والهجاء، والنسيب، والغزل، والرثاء، والفخر... فيما بقي نوع الوصف (الضعيف في الشعر العربي) محايداً بعض الشيء، ومخالفًاً لها، مع أنه يشتمل على تعبيرات شعورية، كما عند ابن الرومي أكثر الشعراء العرب القدامى انصرافاً إلى الوصف. وماذا يمكن القول في تحديد الشعر المعهود: "الشعر كلام موزون مقفى يدلُّ على معنى"؟ الظريف، في هذا التحديد، هو أنه ورد عند أكثر النقاد القدامى تأثراً بالفكر الإغريقي، أي قدامة بن جعفر، كما وَردَ عند كثيرين، ما باتت تسميته: "عمود" الشعر، إلا أنه تحديدٌ يفيد تعيين شروط بناء القصيدة، لا الشعر بالضرورة، ومن دون نصابها الفكري أو الفلسفي.

لا ينقطع الشعر العربي، في قديمه وراهنه، عن التعبيرات الشعورية. بل يمكن القول إن سيادة الغنائية فيه تنشيطٌ وتجديدٌ لكون الشعر إعلاء للعواطف، ما يخصُّ الشاعر والمتكلم، والجمهور والقارئ، والقصيدة نفسها، حيث تتحول إلى وسيط يَعمل في الاتجاهَين: هذا يجعل الشاعر مفرداً ولكن بذات متوسعة، ما يبيح له التفرد والانتشار، فيُسمي الوجود والكائنات لو شاء، أي: مفرد بصيغة الجمع.

هذا يجعل المتلقي، في الطرف الآخر من القصيدة، قارئاً قابعاً في عتمة الانفراد بالقصيدة، أو شريكاً مع غيره، في جمعٍ، على أن ما يَعرضُه الشاعر عليهم، يصدر عنهم، ويتبنونه مثل يافطة أو نشيد.

لهذا يلتقي الثلاثة (الشاعر والقارئ والقصيدة)، بل يَصدرون معًا عمّا يكون في التداول، في "المبثوث" بينهم من قضايا وتعابير وتطلعات.

مِثلُ هذه التعبيرات الشعورية تَخِيط مثلما تنشر ما هو مسبوق ومطلوب، لدرجة أن الجالس في أمسية قد يسبق الشاعر إلى بقبة جملته الشعرية: يسبق الشاعرَ إلى ما هو شراكة، أو عزفٌ جامعٌ فوق أوتار الوطن، والحبيبة، و"العدو"، والأمل.


MISS 3