مبادرة سياسات الغد تُلقي الضوء على سرّية كارتيل المقاولات

الفساد ينغل في عقود مجلس الإنماء والإعمار... نغلاً!

02 : 00

ليس تفصيلاً عادياً أن يجد الشعب اللبناني نفسه بخدمات عامة سيئة جداً لا بل معدومة أحياناً، على صعيد الكهرباء والماء والنفايات والطرقات وغيرها من الخدمات العامة الأساسية.

تؤكد دراسة اعدتها مبادرة «سياسات الغد» بالتعاون مع مؤسسة كونراد ادينهاور الألمانية أن مجلس الانماء والاعمار أشرف على مئات المشاريع التي تجاوزت قميتها 10 مليارات دولار في العشرين سنة الماضية، منها الطرق السريعة والجسور وادارة النفايات. إستعان المجلس بشركات خاصة لمجالات التصميم والتنفيذ والاشراف. لكن كل هذه الاستثمارات لم ترفع مستوى البنى التحتية في البلاد ولا انعكست ايجاباً على حياة الناس. وتوضح دراسة «مبادرة سياسات الغد» ان مجموعة من المقاولين والاستشاريين المقربين من النخب السياسية هيمنت على معظم قيمة المشاريع المنفذة من مجلس الانماء والاعمار بين 2008 و2018. وتظهر نتائج الدراسة ان العقود المصممة والمنفذة من شركات مقربة من النخب السياسية هي مضخمة الاسعار بنسبة 35% مقابل عقود أخرى. وعلى الرغم من انها تشكل اقل من ربع عدد الشركات، فان مجموعة من المقاولين فازت بما نسبته 64% من قيم اجمالي العقود.




كيف يحصل ذلك؟

كيف تمكنت النخب السياسية من توجيه العقود الكبيرة الى شركات مقربة منها، علماً بأن الشراء العام يخضع لرقابة عالية المعايير؟ في هكذا بيئات معقدة، يتضح ان ابسط المحسوبيات لها تداعيات بعيدة المدى. فالسياسي الفاسد يستعين بشركاء متواطئين لانجاح الصفقات. هذه الشبكة المتحالفة، التي تتصرف كما لو أنها كارتيل، تهدف الى ايجاد شركاء في الصفقات والاتفاق على شروطها والتأكد من تنفيذها من خلالها، على النحو التالي:

اولاً: العمل على تعيين وإبقاء اعضاء مجلس الادارة (الإنماء والاعمار مثالاً) في مراكزهم لفترة تصل 15 سنة.

ثانياً، ممارسة النخب السياسية دور سماسرة بين بعض المقاولين والاستشاريين المقربين منها وبين اعضاء مجلس الادارة (في الإنماء والإعمار).

ثالثاً، ضمان فوز المقاول المناسب بالمشاريع القيمة بهامش ربح اعلى من الذي يتحقق في مناقصة تنافسية.

إن بقاء كبار السياسيين في السلطة على مر السنوات سهّل عمل الكارتيلات، وعزز موقعها ومنها الشبكة القائمة على مجلس الانماء والاعمار. هذا الواقع جعل من الانفاق العام للدولة صناديق سوداء تحوّل الاستثمارات من اموال يفترض ان تحسن احوال الشعب الى اموال تستفيد منها النخب السياسية والجهات المقربة منها. ومن بين توصيات الدراسة اجراء تغيير حاسم في آلية عمل مجلس الانماء والاعمار، والتقيد بالمرسوم الاشتراعي الخاص بانشائه الذي ينص على مداورة ادارة المجلس وزيادة اعضائه الى 12.



نبيل الجسر



المسألة تتجاوز الوكيل الرئيسي

تسلط مجموعة من الأبحاث الضوء على أهمية الشبكات أو الكارتيلات لفهم الفساد في المقاولات العامة من ضمنها مقاولات البنى التحتية. ففي حين كان ينظر للفساد على أنه مشكلة تتعلق بالوكيل الرئيسي، فان الدراسات الحديثة تظهر الفساد على أنه مسؤولية شبكة أو كارتيل.

وفي ورقة العمل هذه، استكشاف لآليات الكارتيلات في قطاع مشتريات المقاولات في لبنان حيث تقوم بتحليل مجموعة بيانات لجميع عقود البنية التحتية البالغ عددها 395 عقداً، والتي تم منحها بين 2008 و2018 من قبل مجلس الانماء والاعمار.

ومن خلال تحديد الروابط السياسية لكل من المقاول والشركات الاستشارية المشاركة في تنفيذ عقد الشراء، تتجاوز الدراسة تركيز الدراسات السابقة على المقاولين، وتحلل التفاعل بين وكالة التنمية (في هذه الحالة مجلس الانماء والاعمار) والمقاولين والمستشارين. وفي النتائج، يتلقى المقاولون المرتبطون سياسياً عقوداً مبالغاً فيها بنسبة 35% تقريباً مقارنة مع متوسط العقد. فالدراسة حللت كيفية عمل الكارتيلات. وبشكل أكثر تحديداً من خلال اجراء مقابلات مع الخبراء والسياسيين والمسؤولين والمقاولين والاستشاريين، من أجل وضع فرضيات لتحديد الظروف التي ينجح فيها الكارتيل في توليد الريع.



المستشارون لاعبون أساسيون

إن مستشاري المشتريات (العقود) لاعبون مهمون للغاية في عملية الشراء مع درجة كبيرة من التأثير والتقدير في مراحل مختلفة من دورة المشروع مما يكسبهم لقب «سادة اللعبة». ويشارك الاستشاريون في تصميم المشروع والاشراف على تنفيذه وتقديم العطاءات، فضلاً عن تقييم المطالبات وأوامر التغيير للمشاريع الجارية. والدراسة تضع تصوراً لدور الاستشاريين في شراء متطلبات البنية التحتية العامة مع تسليط الضوء على آليات السمسرة بين مختلف الجهات الفاعلة في الكارتيلات.

نوعان من الروابط

وثمة نوعان من هذه الروابط: PCF1 وهي تلك الشركات المرتبطة بأعضاء مجلس إدارة مجلس الانماء والاعمار، أو بمجموعة صغيرة من النخب السياسية التي تعمل علناً كحماة لها، وبالتالي تحتفظ بـ»مقعد حول الطاولة» في المجلس. وPCF2 وهي شركات مرتبطة بأي رئيس وزراء أو رئيس أو وزير أو عضو في البرلمان أو نخبة حزبية شغلت مناصب خلال هذه الفترة.

ويعمل مستشارو التصميم كركيزة أساسية في عمليات الكارتيلات. فبالنسبة للمبالغة بالتسعير، يتم تضخيم العقود فقط عندما يكون كل من المصمم والمقاول متصلين بنخبة مع «مقعد حول الطاولة». وبالنسبة للانفاق الزائد، فمن المرجح أن تكون المشاريع التي صممها مصممون من المرتبطين سياسياً أو PCF1 قد أفرطت في الانفاق، والجدير بالذكر أنه ليس مهماً ما اذا كان المشرف على المشروع مرتبطاً سياسياً.

خرق المؤسسات الرسمية

وتشير هذه النتائج الى أن الوساطة الرفيعة المستوى تعمل من خلال القناة المؤسسية والتي يمكن أن تؤثر على تخصيص الريع حسب الحصص. في الدول ذات البيروقراطية مثال لبنان، تحتاج النخب، بصفتها وساطة، الى السيطرة على الوظائف المؤسسية الرسمية من خلال موظفين مخلصين يتمتعون في اطارها بأفق طويل الأمد. تتطلب عقود البنية التحتية تنسيق مجموعة معقدة من المهام بين مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة، نظراً لدرجات التخصص العالية التي يتطلبها كل مشروع والقيود المفروضة على الموارد التي تواجهها المؤسسات العامة. فان أي وكالة (في هذه الحالة مجلس الانماء والاعمار) لا تستفيد فقط من شركات التعاقد مع الكارتيلات في شراء البنية التحتية، ولكن أيضا من شركات الاستشارات للتصميم والاشراف.

المطالبات والأوامر التغييرية

الزيارات الميدانية التي يقوم بها موظفو مجلس الانماء والاعمار يتم الإعلان عنها مسبقاً بالتنسيق مع المقاول، ولا تتم الا بشكل متقطع في نهاية المطاف. ويقوم المشرف بتقييم ما اذا كانت جميع متطلبات العقد قد تم الوفاء بها، وأن المقاول قد سلم جميع الاعمال على النحو المحدد، كما يلعب الاستشاريون الاشرافيون دوراً رئيسياً في إدارة تجاوزات التكاليف. ويمكن أن تحدث هذه التجاوزات من مصدرين: أوامر تغيير أو مطالبات. إن أوامر التغيير هي تعديل للعقد الأصلي لتغيير نطاق المشروع أو تقنياته. وعادة ما يتم اعدادها، وبالتالي الموافقة عليها، من قبل استشاري.

تشابكات من كل اتجاه

في حين أن المصمم يمكن أن يؤثر على مواصفات المشروع، وبالتالي يؤثر على أسعار العقود أو المنافسة بين شركات تقديم العطاءات. ويحدد المشرفون كيف يمكن للمقاول أن يبالغ في انفاق العقد. ويمكن للكارتيل أن يولّد العوائد من خلال المبالغة في التسعير أو الافراط في الانفاق، وهو ينجح فقط في توليد العوائد على العقود التي تمكن فيها من خفض تكاليف البحث (العمل المسبق اللازم قبل طرح المشروع)، وهذا يضع دور مستشاري التصميم في بؤرة التركيز من خلال السلطة التقديرية لعملية تقديم العطاءات. ويسهل مستشارو التصميم، المرتبطون سياسياً، المبالغة في التسعير أو الافراط في الانفاق على عقود البنية التحتية عن طريق الحد من عدد الشركات المؤهلة. عندما يكون المصمم والمشرف هما نفس الشركة، سوف تتاح للاستشاري فرص لادراج أحكام مفرطة في تصميم المشروع مع العلم أنه ستتم «تغطيتها» في مرحلة الاشراف. ويتوسط السياسيون في صفقة بين المصممين والمشرفين المرتبطين ومجلس الانماء والاعمار الذي من شأنه أن يوافق على أحكام مفرطة في وثائق المناقصات. وعندما يكون المصمم والمشرف هما نفس الشركة، يمكن للمقاولين المبالغة في تسعير العقد. ومن شأن المصمم أن يحد من المنافسة بين الشركات من خلال «تكييف» وثائق المناقصات واستبعاد شركات دون أخرى، وبالتالي تمكين الشركات المفضلة من المبالغة بالأسعار. والسياسي يتوسط بين المصممين والمقاولين لمعرفة الشركة التي تقوم بعملية التصميم أو تقديم العطاءات. سيتم تضخيم العقود عندما يكون المصمم متصلاً بالسياسيين بغض النظر عما اذا كان المقاول متصلاً أيضاً.






عصابة واحدة

في فرضية أخرى، سيحتاج السياسيون أيضاً الى اتصال بمقاول ليتمكنوا من التوسط في الصفقة. وعندما يكون استشاريو التصميم من المرتبطين بالسياسيين يمكن للمقاولين المبالغة في تسعير العقد، وعندما يكون أيضاً مستشارو التصميم والمقاولين من المرتبطين سياسياً يمكن للمقاولين أيضاً المبالغة في تسعير العقد.

وسيكون كافياً عندما يكون المصمم والمشرف هما نفس الشركة لتتم تغطية التصاميم غير اللائقة أو الاحكام المبالغ فيها من المقاولات. واذا تفاعل المشرف والمقاول بشكل متكرر مع بعضهما البعض فيمكن أن تبنى بينهما علاقة ثقة بناء على العقود التي يمكن الافراط في الانفاق عليها. وفي حال كان المصمم والمشرف هما الشركة ذاتها فمن المرجح أن يتم الافراط في إنفاق العقود، وأيضاً عندما يقوم المشرف والمقاول بتنفيذ العقود بشكل متكرر معاً فمن المرجح أن يتم الافراط في انفاق العقود.


الإختراق

إن النخب التي تمكنت من اختراق المؤسسات العامة بموظفين مخلصين لديها درجة أكبر من السلطة التقديرية بشأن القرارات في مجلس الانماء والاعمار، ومن شأن الشركات أن تضع ثقة أكبر في قدرة النخب على ممارسة السلطة التقديرية على القرارات من خلال الموظفين المخلصين. ويتوقع أن يكون لدى نخب الانتماء السياسي تكاليف مساومة أقل للتوسط في الصفقات وبالتالي جعل الافراط في الانفاق والمبالغة في التسعير أكثر احتمالاً.


دور المشرف

يلعب المشرفون دوراً مركزياً في السماح بالافراط في انفاق المشاريع، ومن شأن ذلك أن يمكّن المقاول من تقديم طلبات أو مطالبات تغيير مفرطة واستخدام علاقاته السياسية لضمان موافقة مجلس الانماء والاعمار عليها. وعندما يكون المشرف مرتبطاً سياسياً فمن المرجح أن يتم الافراط في العقود، وأيضاً عندما يكون كذلك كل من المشرف والمقاول. ومن شأن المصممين المرتبطين سياسياً أن يحدوا من المنافسة بين المقاولين ويعرفوا أن النخب تسهل الموافقة على التصاميم التي تتطلب تعديلات خلال مرحلة تنفيذ المشروع.