جان كلود سعادة

يبقى الترسيم مع الكارتيل

13 تشرين الأول 2022

02 : 00

وصل الترسيم البحري إلى خواتيمه ولعلّه باب أمل يُفتح في أفق مقفل لبلدٍ يرزح تحت أعتى الأزمات النقدية والإقتصادية المعروفة في هذا الجيل. لكن ما تمّت تسميته «الإتفاق البحري» يضعنا أمام ضرورة أخرى ومهمّة أصعب يجب إنجازها وهي الترسيم النهائي والشامل مع كارتيل الفساد والنهب بجميع مكوّناته والذي هو السبب الأول في خراب البلد وتخلّفه.

فالأذى الذي أنزله هذا الكارتيل على لبنان واللبنانيين لم يَقدِر عليه عدوّ قريب أو بعيد. فبعد عقود من المحاصصة والزبائنية التي جمعت الى طاولة واحدة ميليشيات السلم الأهلي مع حيتان المال والإحتكارات والمافيات القديمة والجديدة منها، تمّت عملية شفط موارد الدولة وشَل قدراتها ومؤسساتها. فعمليات الإنعاش المتتالية عبرالمؤتمرات الدوليّة كانت في الحقيقة عمليات إخفاء للمشكلة وتكبير للحفرة ومزيد من شراء الوقت لاستمرار النهب وتهريب الثروات إلى الخارج والداخل.

لكن فداحة الجرم لم تردع المجرمين، بل زيّنت لهم أفكاراً أكثر إجراماً ونذالة. فبعد عملية منظّمة لنهب المال العام وتجفيف قدرات الدولة، مدّ الكارتيل يده على مدّخرات أجيال من اللبنانيين فتم هدرها وتبديدها وتقاسمها واستعمال دولاراتها الحقيقية لتحويل ثروات المحظيين إلى الخارج. هذه الجريمة المالية المتمادية لم تقم بها عصابة غريبة أو مجموعة من الهاكرز، إنما كانت من تخطيط وتنفيذ مصرف الدولة المركزي والقطاع المصرفي وحماتهما من أهل السياسة والأمن والقضاء والدين.

ثلاث سنوات مرّت على انكشاف الأزمة كانت سِمتها الأساسيّة وقاحة الكارتيل اللامُتناهية وبؤس الشعب اللبناني أو ما تبقى منه داخل المعتقل الكبير. خلال هذه السنوات الثلاث تم وضع الخطط الحسابيّة من قبل الحكومات وإفشالها بالإلتفاف عليها من أزلام الكارتيل نفسه، ثم تم التوصل إلى اتفاق على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي واستمرّ التذاكي للتهرّب من تنفيذ الشروط المُسبقة والبديهية التي وضعها صندوق النقد. وفي مقابلة حديثة لمديرة الصندوق مع إحدى الفضائيات العربية تقول إن «فريق الصندوق جاهز للتحرّك عندما يستشعر وجود إرادة سياسيّة عند الحكومة اللبنانية للسير في الإصلاحات المطلوبة»، ووجهت رسالة معبّرة للبنانيين: «ساعدونا لنساعدكم».

لكن عقل الكارتيل وتركيزه في مكان آخر. فمع «الإتفاق البحري» واحتمال الإستفادة من ثروة لبنان النفطية والغازية ولو بعد سنوات، إنتعشت شهيّة أمراء المنظومة وها هم يسعون للمحافظة على مكتسباتهم وإعادة تشغيل آلة شفط الثروات وتوزيعها في ما بينهم ولو أدّى ذلك إلى خراب البلد بالكامل وضياع أموال اللبنانيين من دون رجعة. فالأرجح أنهم الآن يحاولون الإستغناء عن خيار صندوق النقد أو استعماله مرحلياً لكسب الوقت إلى أن يتمكنوا من وضع اليد على الثروة النفطية وتقاسمها.

فالترسيم والثروة النفطيّة رغم أهمّيتهما، ليسا الحلّ للأزمة النقدية والإقتصادية الراهنة. فأي مصدر دعم للإقتصاد اللبناني لا يسبقه تدقيق شامل بالأسباب التي أدّت إلى الإنهيار وتحديد المسؤولين عمّا حصل، تتبعه محاسبة شاملة وعادلة، سيكون النفط والغاز مجرّد وسيلة لإعادة إطلاق مخطط البونزي وآلة النهب المنظّم في موسم جديد. ألَم يحن الوقت لترسيم حدّ فاصل بين دولة المزرعة والمحاصصة والزبائنية التي أوصلتنا إلى هذه الحفرة، ودولة القانون والعدالة الإجتماعية والتطوّر؟

واهِمٌ من يظنّ أن هنالك شكلاً من أشكال الترسيم قد ينجح مع الكارتيل أو أن «إصلاحه من الداخل وتدريجيّاً» ممكن. فهذه العصابة هي مرض سرطاني، تقتلعه أو يقتلك.

@JeanClaudeSaade

(*) خبير متقاعد في التواصل الاستراتيجي


MISS 3