هالة نهرا

الشعب اللبناني بين أنوار الثقافة وردهات التخلّف

19 تشرين الأول 2022

02 : 01

"كما تكونون يولَّى عليكم" و"لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم"، قولان يحضرانني كلّما حاولنا راهناً مقاربة واقع الشعب اللبناني المظلوم والمستغَلّ الذي جُرّد من معظم حقوق الإنسان. يا للمفارقة الناتئة في القرن الحادي والعشرين، حيث نعيش جزئياً في فجوةٍ جليّة مع الزمن والتقدّم والعالم، وحيث يلوح ويُرعدُ شبح القرون الوسطى ههنا حيناً، والعصر الحجريّ أحياناً!

علمياً أو حتى ثقافياً على مستوى النخَب، يتمظهر إلتماع عددٍ من الأدمغة النيّرة في لبنان وفي انتشارها في العالم والوجوه المضيئة المتسلّحة بالجسارة والإقدام وبالثقافة النقدية وثقافة السؤال، حيث ينبغي للأفكار ووجهات النظر والأحداث والمواقف أن توزن في ميزان العقل، وحيث يتقدّم العقلُ على النقلِ والترديدِ الببغائيّ. بالنسبة إلى المستنيرين فإنّ الثقافة في أغوارها ليست مقتصرة على القراءة في تراكم الكتب التي تُقلَّب أوراقُها للاطّلاع عليها، بل تتكثّف في مفهومٍ متقدّم يشفّ عن تحوّل هذا التراكم واختماره في الوعي ليتقطّرَ نوعيّاً وكيفيّاً، والثقافة هي مجموعة المواقف النقدية تجاه الواقع والإشكاليات الراهنة أو التاريخية الممتدّة الملحّة.

وفيما يجتهد البعض في إضاءاته القيّمة والمؤثّرة في أوساط محدّدة، نرى جزءاً من الشعب يجترّ واقعه وواقعنا ويعيد إنتاجه على شكل مهزلة مدوّية بعد المأساة، عبر إعادة انتخاب المنظومة الفاسدة عينها التي أهلكتْهُ وعرقلت البلد سنواتٍ طويلة وعبر اجتناب التغيير والتطوّر. كذلك، فإنّ الوقت ههنا لم يعُد يتدثّر بقيمته الكبرى، ما ينمّ عن تخلُّفٍ بَيِّنٍ، كأنّ الوقت لدينا شبه معلّقٍ مثلما عُلِّق الوطن والإنسان في إنسانيّته، ومثلما تُعلَّق حَيَوات الناس، بل إننا نسير عموماً في خُطى حثيثةٍ إلى الوراء. لاكتناهِ أسباب ذلك ربطاً بسيكولوجيا الشعوب وعلم الدماغ نستعين أيضاً بتحليل الدكتور المثقّف رمزي هلال، الطبيب اللبناني المُتخصِّص في أمراض الدماغ والجهاز العصبي، الذي يقول معلّقاً بأسفٍ شديد على ما يجري عموماً: "إنها خارطة طريق لطريقٍ غير سالكة؛ هذا ما قاله لي إله الجغرافيا والتاريخ". وأردف قائلاً: "تاريخياً منذ أيّام الأتراك والفرنسيين في لبنان، بل منذ زمن الإقطاع والمماليك، جنح الناس في لبنان نحو الانزواء والاقتصار على التفكير بمصالح كلٍّ منهم الفردية، ما يرتبط بغريزة الـ"أنا" والعقل الغريزيّ. ثمّة "اشتباكٌ" يترنّح ويراوح مكانه اليوم ولا يوجد حلٌّ جذريٌّ له حالياً. ثقافة القطيع هي السائدة عموماً؛ إنهم لا يفكّرون، بل ثمّة مَن يفكّر بدلاً منهم ونيابةً عنهم. كذلك، ثمّة تلاعبٌ نفسيٌّ وعقليّ يُمارَس عليهم وهناك نوعٌ من التنويم المغناطيسي مجازياً عبر الخطابات وتكرار الشعارات الكاذبة وهذا فنُّ خداعٍ معروف ومكشوف، لإقناع هؤلاء بأنفسهم وبأنهم حُماتهم، وإنّ ذلك يتحوّل وقد تحوّل إلى نوعٍ من التأليه والعبادة اللاعقلانيين لزعماء الطوائف. أمّا الزعماء، فهُم - بعددٍ كبيرٍ منهم- سَيْكوباتيون! السلطة بلا رادعٍ أو محاسبة مغريةٌ ومفسدةٌ جداً في آنٍ واحد. الإنسان فقد معناه ههنا". ويرى الطبيب رمزي هلال أنّ الحلّ يكمن علمياً وثقافياً في تثوير الوعي وفي الحفر في العقل الجمعيّ الواعي، وفي إعادة برمجة العقل الباطن الجمعيّ لنعيد تعريف الحياة وأهدافها، ولكي نعرّف الإنسان بماهيّته ودوره بوصفه مسؤولاً عن مستقبل الحياة. قدَرُ الإنسان بيده وقدَرُ سواه بيده أيضاً. الاتّكال الكلّيّ الغيبيّ مرعبٌ كما يرى دكتور هلال، ويشكّل ذلك جزءاً من لاوعينا المخيف في لبنان. ثمّة مشكلة في ذهنية اللبناني المعوجّة، إنْ في عقله الواعي أو في عقله الباطن، (على حدٍّ سواء) واللبناني مشوَّهٌ نفسياً، كما استنتج هلال في تشخيصه وتتبُّعه. يتوقّع رمزي هلال أن تكون نتائج الانتخابات المقبلة مختلفة فهذه البيئات لا يمكن أن تستمرّ على النحو هذا. "أحد الديكتاتوريين قال ذات يوم: "كلّما سمعتُ كلمة "مثقّف" تحسَّسْتُ مسدّسي". السلطة تخاف من صوت المثقّف وتأثيره واكتناز وعيه وتخاف من التغيير الحقيقيّ، لكنّها مضطرّة إلى قراءته والإصغاء إليه وتحسب للمثقّف ألف حساب، رغم ادّعائها أنها تتجاهله، وثمة سلطويون يستعيرون بعض أقوال وأفكار المثقفين التقدّميين والمتنوّرين، لا سيّما حين "يُحشرون" في الزاوية، وذلك لتضليل الناس والتمادي في التلاعب بهم مجدّداً. إنها الديماغوجية العلنية".


MISS 3