ديفيد فرام

مَن المستفيد حين تعيد المتاحف الغربية القطع الفنية المسروقة؟

22 تشرين الأول 2022

المصدر: The Atlantic

02 : 00

منحوتة معدنية من "بنين" تعود إلى أواخر القرن السادس عشر ... وأخرى خزفية تعود إلى القرن السادس أو السابع عشر
وصلت أشهر مجموعة من الأعمال الفنية الأفريقية في العالم إلى بريطانيا بعد ارتكاب أسوأ أنواع العنف الاستعماري. في شباط 1897، عبرت قوة استطلاعية مؤلفة من 1200 جندي بريطاني ومساعِد أفريقي الخنادق وجدران الطين القديمة في أنحاء مدينة "بنين" التي تقع اليوم في جنوب نيجيريا. استعملت القوة التي قادها البريطانيون الأسلحة الرشاشة والمدفعيات المتنقلة ضد مدافعين حملوا السيوف والبنادق، وخسر مئات الأشخاص من سكان "بنين" حياتهم حينها على الأرجح.

قام البريطانيون بنفي ملك "بنين"، وهو رجل له مكانة شبه إلهية ويُعرَف تاريخياً باسمه الملكي، أوبا أوفونراموين، ثم ألقوا القبض عليه لاحقاً. سرق البريطانيون قطعاً ملكية وجمعوا أجمل المقتنيات في صناديق لشحنها إلى بلدهم. ثم اندلع حريق كبير (لا أحد يعرف إذا كان عرضياً أو مقصوداً)، وتدمّرت المزارات، والمخازن، والمنازل، والمدافن التي تعود إلى الملوك السابقين. في المرحلة اللاحقة، بيعت معظم الغنائم خلال مزادات علنية في لندن.

كانت معظم القطع المعدنية في "بنين" مصنوعة من سبائك نحاس وزنك، لكنها عُرِفت في لندن باسم "برونزيات بنين"، وسرعان ما انتشرت هذه التسمية الخاطئة للإشارة إلى الأعمال الفنية الآتية من "بنين"، في الأوساط العامة والخاصة، في بريطانيا وحول العالم.

تشمل المتاحف العامة أو المجموعات الخاصة حول العالم 3 آلاف قطعة فنية من "بنين" على الأقل، لا سيما في بريطانيا، وألمانيا، والولايات المتحدة، ولطالما طالب النيجيريون بإعادتها. في شهر آب الماضي، تعهد "متحف هورنيمان للأنثروبولوجيا والتاريخ الطبيعي" في لندن بإعادة القطع التي يملكها من "بنين"، وقد تُسلّم جامعة "أكسفورد" ومتاحفها مجموعاتها الثمينة قريباً.

يُعبّر الجميع في نيجيريا اليوم عن رغبتهم في إعادة قطع "بنين"، بما في ذلك من لا يهتمون بالفنون كثيراً. كان الاستعمار الأوروبي كفيلاً بنقل أفريقيا إلى العالم المعاصر، لكن لطالما بدت هذه العملية مشروطة. ترك الاستعمار وراءه شبكات طرقات مُعدّة لخدمة الأسواق الدولية، لا التجارة المحلية، وتعتبر الحكومات حتى هذا اليوم شعبها مجرّد أداة يمكن استغلالها، بدل التعامل مع الناس كمواطنين يستحقون من يخدمهم. اليوم، تعتبر أقلية نخبوية صغيرة في نيجيريا إعادة القطع الفنية من أبرز عشر مشاكل يواجهها البلد، ويبقى سَلْب القطع التراثية برأي هذه المجموعة من أكبر الصدمات العاطفية التي أنتجها الاستعمار. يقول فيمي أكينسانيا، وهو من أهم جامعي القطع الفنية في نيجيريا: "الفن أداة قوية لتحديد ما يجمعنا: إنه الاستنتاج الذي توصّلتُ إليه. حتى أنه قد يصبح طريقة للاعتراف بالتراث بجميع تعقيداته".



منحوتة معدنية صنعت في مملكة "بنين" بين عامي 1515 و 1550



تبدو هذه الفكرة مثيرة للاهتمام، لكنها تطرح سؤالاً آخر: في عالم الفن، ما هي الفئات البشرية التي تتكل على مساهمات الغير؟ في العام 1907، شاهد بابلو بيكاسو، وهو في عمر الخامسة والعشرين، أقنعة أفريقية في أول متحف للأنثروبولوجيا في باريس. هذا اللقاء قاده إلى مرحلة جديدة من حياته الفنية، فقد تعلّم أن الرسم "ليس مجرّد عملية فنية، بل إنه شكل من السحر المتداخل بيننا وبين العالم العدائي، أو أداة للاستحواذ على السلطة عبر فرض نموذج معيّن على مخاوفنا ورغباتنا". بعد بضعة أسابيع، أنهى بيكاسو لوحته الشهيرة، "آنسات أفينيون"، حيث استُبدِل وجهان من وجوه النساء العاريات الخمس بأقنعة أفريقية. من وجهة نظر بيكاسو، أصبحت أفريقيا منبعاً لفنون العالم المعاصر.

اليوم، بدأت تظهر بنية تحتية لإدارة الفنون في غرب أفريقيا. تبرعت الحكومة الصينية بملايين الدولارات للمشاركة في بناء متحف جديد في السنغال لضمّ الأعمال الفنية التي اقترضتها الحكومة الفرنسية. مقابل الطريق الذي يبدأ من المتحف الوطني المهترئ في لاغوس، ثمة مركز مُخصّص لثقافة شعب اليوروبا في جنوب غرب نيجيريا. ويعرض "معرض ريليه"، في لاغوس ولوس أنجلوس، قطعاً فنية جديدة ونابضة بالحياة للبيع. تستحق هذه الأعمال كلها الإعجاب والاحتفال.

لكن تزامناً مع الاحتفال بالفنون الناشئة، تبرز الحاجة أيضاً إلى الدفاع عن القطع الفنية السابقة. تُعتبر المتاحف الغربية إنجازاً عظيماً للحضارة البشرية، فهي قادرة على ربط جذورها بجرائم الملوك وغطرسة المستعمرين، وتسمح اليوم لعشرات ملايين الناس بالاستمتاع بفنونٍ كانت حكراً على قلة من الأغنياء وأصحاب النفوذ في الماضي. تضمن المتاحف الواقعة في دول مستقرة أمناً لا مثيل له للكنوز الهشة والثمينة. وتربط المتاحف في مراكز التجارة الدولية والسفر بين القطع الأثرية النادرة وعامة الناس. قبل تفشي جائحة كورونا، كان المتحف البريطاني يجذب حوالى 4 ملايين زائر سنوياً من خارج المملكة المتحدة. وكان ثلاثة أرباع زوار متحف اللوفر قبل أزمة كورونا (يصل مجموعهم إلى 10 ملايين زائر سنوياً) يأتون من دول مختلفة خارج فرنسا. لهذا السبب، يُفترض أن يتمكن الشتات الأفريقي الواسع والمتزايد في أميركا الشمالية من رؤية تراثه في متاحف نيويورك، وشيكاغو، وواشنطن، وتورنتو.

تبقى كميــة الفنون العظيمة في هذا العالم أكبر من الأماكن التي تستطيع عرضها بالشكل المناسب. في جولة قمتُ بها لمشاهدة مجموعة "بنين" الفنية في المتحف البريطاني مع مؤلف كتاب Loot (النهب)، بارنابي فيليبس، سألني هذا الأخير: "ما عدد القطع الفنية التي تراها هنا من "بنين"؟ قلتُ له 65. فأجاب أن البريطانيين استحوذوا على 3 آلاف قطعة عاجية ومعدنية على الأقل في العام 1897.




ملك "بنين" أوبا أوفونراموين



يسهل أن نتخيّل إبرام اتفاقيات مفيدة على شكل شراكات بين المتاحف أو تقديم تعويضات مالية عند الحاجة. قد تجلب برامج التبادل الدولي الفنون المخزّنة في المستودعات من برلين ولندن لعرضها مؤقتاً في معارض نيجيريا. وقد تُضاف هذه المبادرات إلى مشاريع جديدة لزيادة فرص العمل في مجال الفنون والثقافة، علماً أن النيجيريين يجدون أفضل الفرص في هذه القطاعات اليوم خارج بلدهم. كذلك، يمكن توسيع المِنَح الدراسية للفنانين والحرفيين الواعدين، وتسليط الضوء على الفنون الأفريقية المعاصرة في الأسواق العالمية في أسرع وقت. أنا شخصياً تشرّفتُ بزيارة المتحف الذي أسّسه الأمير يميسي أديدوين شيلون في "جامعة عموم الأطلسي"، في شرق لاغوس. على عكس المتحف الحكومي في وسط المدينة، يتولى فريق صغير وكفوء إدارة العمل بدقة فائقة في هذا المكان. اكتشفتُ هناك فنانين لم أكن أعرفهم، لكني بدأتُ الآن أتابع أعمالهم عن قرب.

على صعيد آخر، يمكن تعديل محتوى المعارض في المتاحف الغربية لتقديم فكرة أوضح عن الثقافة التي أنتجت هذه الفنون. في المتحف البريطاني مثلاً، تُعرَض فنون "بنين" مع نص على الجدار حول حملة العام 1897. لكن ما الذي يمنع عرض مجسّم عن القصر الملكي في تلك الحقبة لتسليط الضوء على الحضارة التي أنتجت هذه الفنون قبل العام 1897؟ لقد أصبحت مدينة "بنين" بحد ذاتها متعطشة لمن يستشكف آثارها ويعيد ترميم شبكة طموحة من الأسوار والخنادق في المدينة التاريخية، علماً أن هذا المشروع تعثّر الآن للأسف. تتّضح الرؤية الأثرية الخاصة بالبلد في المفهوم الذي طرحه الحاكم جودوين أوباسيكي لإنشاء متحف مستقل عن فنون "بنين". لكن حتى لو فشل هذا المفهوم، قد يسمح الدعم الخارجي بمتابعة عمليات التنقيب. يمكن بناء نسخة مطابقة من بعض الأحياء الملكية القديمة مثلاً، مثلما أُعيد بناء قصر ملوك بروسيا في موقعه السابق في برلين. ويمكن التجاوب مع مطالبات العائلة المالكة في "بنين" عبر تقديم التعويضات المالية على شكل مؤسسة لدعم الفنون والثقافة في ولاية "إدو" النيجيرية.

في الوقت نفسه، تطرح التكنولوجيا الجديدة فرصاً هائلة اليوم. يعمل اتحاد من المتاحف الألمانية على إطلاق موقع إلكتروني، اسمه Digital Benin، لتسهيل اطلاع كل من يتّصل بشبكة الإنترنت على فنون "بنين" وتقديم مِنَح دراسية مرتبطة بتلك الأعمال الفنية. بعد طرح تقنيات الواقع الافتراضي في الأسواق، يمكن رؤية تلك الفنون على نطاق واسع وبتقنية ثلاثية الأبعاد. حتى أننا قد نتمكن يوماً من وضع نظارات وقفازات والذهاب للتنزه وسط القصور الملكية في "بنين" حين كانت في ذروة مجدها.

لكن تبرز الحاجة أولاً إلى تفكير تفاؤلي وواسع الأفق لاستبدال الأحقاد الشائكة التي تشوّه النقاش المرتبط بهذه المسألة اليوم. سبق وبدأت مبادرات من هذا النوع، ويُفترض أن تنطلق مشاريع أخرى لتحقيق الغاية نفسها.

يعتبر الكثيرون القطع الفنية أداة لبلوغ أهدافٍ يعجز الفن عن تحقيقها، منها معالجة حالات الظلم، وتجاوز شعور العار، والتخلص من مشاعر الذنب.

يُفترض أن نتمكن جميعاً من تكريم الماضي، ودعم المنحدرين من السلالة التي سُلِبت منها الفنون، وحماية القطع الفنية بحد ذاتها من السرقة والتحلّل، والسعي إلى عرض الفنون على أوسع نطاق ممكن. بُذِلت جهود هائلة لتجاوز الفكرة الفوقية التي تعتبر الفن الأفريقي أقل مستوى من الفن الأوروبي، أو تلك التي لا تعتبره جزءاً من الفنون أصلاً. اليوم، يحتفل العالم أجمع بالإنجازات الثقافية الأفريقية وبالعبقرية الفنية التي تميّزت بها "بنين" على وجه التحديد. يجب أن يتوسّع نطاق هذا التكريم لأن الأعمال الفنية التي ينتجها البشر هي إرث مشترك للبشرية جمعاء.


MISS 3