باري أيشنغرين

مخاطر الدولار القوي

25 تشرين الأول 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

تراس تلقي كلمة خارج مقر 10 داونينغ ستريت بوسط لندن، لاعلان استقالتها | ٢٠ تشرين الأوّل ٢٠٢٢
إرتفع الدولار الأميركي مقابل تراجع قيمة الجنيه الاسترليني. لكن يُعتبر واحد من هذين التطورَين مهماً في الاقتصاد العالمي. لا أهمية كبرى لتراجع الجنيه الاسترليني، إذ لم تعد المملكة المتحدة تتكل على سياسة ربط العملة كي تضطر للدفاع عنها، كما حصل خلال أزمات أخرى في الأعوام 1931، و1949، و1967، و1992. يستطيع سعر الصرف العائم فيها أن يُحقق الهدف المُعدّ له، أي تعويم العملة المحلية.

تقترض الحكومة البريطانية المال بعملتها، وتتركز ثلاثة أرباع ديونها محلياً. ولا يشغل ارتفاع أسعار الفائدة إلا أصحاب المنازل البريطانيين لأنهم مضطرون لتسديد رهون عقارية متقلبة الأسعار، أو من يطمحون لشراء المنازل إذا شاهدوا مصارفهم وهي تنسحب من سوق الرهن العقاري. كذلك، قد يشغل ارتفاع أسعار الفائدة صناديق التقاعد المحلية التي تستعمل سندات تصدرها الحكومة البريطانية لتحمّل مسؤولياتها طويلة الأمد، ولو جزئياً. حين تخسر الاستثمارات قيمتها، تضطر تلك الصناديق لبيع السندات في سوق متداعية. في المقابل، يضطر بنك إنكلترا للتدخل ودعم سوق السندات الحكومية للحفاظ على الاستقرار المالي.



أدى ضعف الجنيه الاسترليني إلى زعزعة الثقة برئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس. لكن تبقى هذه المشاكل البريطانية محصورة في نهاية المطاف، لأن بريطانيا تشكّل 3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي فقط، ويساوي الجنيه الاسترليني، رغم تاريخه الطويل، أقل من 5% من احتياطيات النقد الأجنبي المُحددة للبنوك المركزية عالمياً. قد تقرر تلك البنوك الآن أن تستبدل الجنيه الاسترليني بعملات أكثر مصداقية. تطرح الشكوك الدائمة مشكلة متواصلة في بريطانيا لأنها تؤكد على ضعف العملة وتنذر بزيادة كلفة الاقتراض. لكن لا يشكّل هذا الوضع مشكلة للولايات المتحدة وبقية دول العالم، وسيستفيد البعض أصلاً إذا جاءت الأزمات المالية البريطانية لتذكّر الآخرين بأن المشاكل المالية بدأت تتفاقم أيضاً في صناديق التقاعد وأسواق الرهن العقاري في دول أخرى.

في المقابل، يطرح الدولار مشكلة على الجميع، كما قال وزير الخزانة الأميركي السابق جون كونالي يوماً. يترافق ارتفاع الدولار مع مشاكل هائلة في القدرة على تحمّل الديون في عدد كبير من البلدان ذات الدخل المنخفض أو المتوسط. تكون معظم المبالغ التي تدين بها الشركات في تلك الدول للمستثمرين الأجانب بعملة الدولار. يصبح تسديد هذا الدين أعلى كلفة حين يكون الدولار قوياً. وحتى لو كان الدين الخارجي بالعملة المحلية، قد تنشأ المشاكل إذا تراجع سعر الصرف مقابل الدولار. حين تتكبد الشركات المالية الأميركية الخسائر بسبب تلك الاستثمارات الخارجية، قد تنسحب من أصول الأسواق الناشئة، فتزيد الضغوط على قيمة العملات الأجنبية وتُمعن في إضعافها وتطلق بذلك حلقة مفرغة.

وبما أن أسعار السلع العالمية تُحدَّد بالدولار أيضاً، ترتفع كلفة الواردات تزامناً مع انخفاض قيمة العملات المحلية. هذا الوضع يرفع مستوى التضخم، وهو آخر ما تحتاج إليه الحكومات في الوقت الراهن. لهذا السبب، تؤثر مجموعة متزايدة من البنوك المركزية على سوق صرف العملات الأجنبية، فتستعمل احتياطياتها من الدولار لشراء العملة المحلية ودعمها. لكن تصل معظم سندات الخزانة الأميركية التي تبيعها إلى الأسواق المالية الأميركية في نهاية المطاف، فيتوسّع فائض المعروض من سندات الخزانة الأميركية، وترتفع العائدات، وتزيد قوة الدولار نتيجةً لذلك. في الوقت نفسه، غالباً ما يُعتبر التدخّل في سوق صرف العملات من جانب البنوك المركزية في الأسواق الناشئة مؤشر ضعف، وقد تنذر هذه العوامل كلها باضطرابات اقتصادية ومالية إضافية.

لن يتخلى الاحتياطي الفدرالي من جهته عن برنامج مكافحة التضخم لرفع أسعار الفائدة، لأن هذه الخطوة تنعكس سلباً على بقية دول العالم. هو يستطيع أن ينشّط خطوط مبادلة العملات التي يستعملها لتأمين الدولار للبنوك المركزية الأجنبية، ويمكنه أن يتفاوض على إنشاء خطوط جديدة. لكن تتراجع أهمية تلك الخطوط نسبةً إلى حجم الأسواق المالية العالمية. وإذا استعملتها البنوك المركزية الأجنبية لتكثيف تدخّلها في سوق الصرف، ستعود الدولارات التي تؤمّنها إلى الولايات المتحدة بكل بساطة.

من المستبعد أن يحصل أي شكل من التدخّل المنسّق، على غرار «اتفاق بلازا» في العام 1985، حيث اتفقت الولايات المتحدة وحكومات أخرى على بيع الدولار مقابل العملات الأجنبية في الوقت نفسه لتخفيض قيمة الدولار. لم تتفق الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، واليابان، على المقاربة نفسها في تلك الفترة إلا بعد سنوات من الجهود الدبلوماسية المكثفة. اليوم، أصبح عدد البلدان التي يُفترض أن تشارك في هذا النوع من التدخّل أكبر بكثير. تتطلب أي تكملة فاعلة للاتفاق السابق تعاوناً بين الولايات المتحدة والصين، لكن تحتدم الخلافات بين هذين البلدين اليوم. كذلك، تفرض هذه الاتفاقيات على الاحتياطي الفدرالي أن يُخفّض أسعار الفائدة. ونظراً إلى الأهمية التي يعطيها الاحتياطي الفدرالي ووزارة الخزانة الأميركية لكبح التضخم، لا تبدو الولايات المتحدة مستعدة لدعم هذا النوع من التخفيضات.



أحد اجتماعات صندوق النقد الدولي



على صعيد آخر، لا يمكن معالجة هذه المشكلة عن طريق صندوق النقد الدولي، فهو يُحضّر برامج إضافية للدول التي تواجه ضائقة مالية ولا يزال يتمتع بقوة مؤثرة، لكنه يقرض المال لبلدانٍ تواجه مشاكل بنيوية وديوناً فائقة، ويمنحها فترات طويلة للتسديد كي لا يضطر لتمويل أي تدخّل في سوق صرف العملات. كذلك، تفرض عليه قواعده ألا يقرض المال إلا إذا كان متأكداً من تسديد المبالغ لاحقاً. لكن عند صرف الدولارات التي يُقرضها على تدخّل عقيم في سوق صرف العملات، من المستبعد أن يتم سدادها.

كي تتمكن الدول من دعم عملاتها مقابل الدولار، تقضي الطريقة الفاعلة الوحيدة برفع أسعار الفائدة لتعزيز التدفقات نحو أسواق الأصول فيها. لن تكون هذه الخطوة محبذة في الظروف الراهنة، نظراً إلى ارتفاع أسعار الفائدة أصلاً وضعف النمو الاقتصادي. سارع عدد من البنوك المركزية في الأسواق الناشئة إلى تغيير مساره، فبدأت تلك المصارف ترفع أسعار الفائدة قبل الاحتياطي الفدرالي على أمل أن تصل المشكلة إلى نهايتها قريباً. لكن لم يعد هذا الهدف ممكناً للأسف، إذ يبدو أن هذه المقاربة لن تعطي المنافع المنشودة.

على المدى الطويل، يقضي الحل بإقدام البنوك المركزية على تنويع احتياطياتها، واستعداد الدول لتنويع صفقاتها بعملات مختلفة عن الدولار، والتوجه إلى استعمال عملات منطقة اليورو والصين واقتصادات أصغر حجماً. بفضل هذه المقاربة، تصبح الدول أقل عرضة لتداعيات القرارات التي يتخذها بنك مركزي واحد. لقد تأخّر الجميع في فهم الموقف الذي أعلنه جون كونالي منذ أكثر من نصف قرن.