إيان بريمير

العولمة لم تَمُت بعد

28 تشرين الأول 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

"اليونيسفير" في "فلاشينغ ميدوز كورونا بارك" | نيويورك
بعد سنتين ونصف على تفشي جائحة كورونا التي كشفت هشاشة سلاسل الإمدادات العالمية، وثمانية أشهر على بدء الحرب في أوكرانيا، وقطع الروابط الاقتصادية بين روسيا والغرب، واضطراب أسواق الأغذية والطاقة العالمية، أصبح العالم على مفترق طرق. يزعم البعض أن العولمة تتجه إلى الانحسار.

مثلما أنهت الحرب العالمية الأولى وجائحة الإنفلونزا في العام 1918 أول حقبة عظيمة من العولمة، يظن عدد متزايد من المحللين أن خليط «كوفيد - 19»، والحرب الروسية في أوكرانيا، والحركات الشعبوية المتوسّعة، والمنافسة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين، بدأ يكبح الحقبة العظيمة الثانية من العولمة. في هذا السياق، كتب الصحافي فريد زكريا في منتصف تشرين الأول: «تُعتبر هذه الحرب الباردة الجديدة نهاية لحقبة العولمة والتكامل التي طبعت النظام الدولي منذ العام 1989».

يوافقه الرأي كبار المستثمرين وصانعي السياسة. في شهر آذار الماضي، كتب لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة إدارة الأصول BlackRock، لأصحاب الأسهم بأن الحرب في أوكرانيا «وضعت حداً للعولمة التي اختبرناها في العقود الثلاثة الماضية». وخلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، في شهر أيار، حذرت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، من «تجزئة جغرافية اقتصادية» مرتقبة. برأيها، بدأت البلدان والشركات «تعيد تقييم سلاسل الإمدادات العالمية» وتلغي عقوداً من التكامل.

لكن سبق وأعلن الكثيرون موت العولمة في مناسبات متكررة: بعد الأزمة المالية العالمية في العام 2008، وبعد استفتاء «بريكست» في العام 2016 وانتخاب دونالد ترامب في وقتٍ لاحق من تلك السنة، وبعد تفشي جائحة «كوفيد-19» في العام 2020. لم يتحقق أيٌّ من تلك التوقعات حينها، لذا يُفترض أن يمتنع المحللون الآن عن توقع اندثار العولمة مجدداً. بدل انتهاء عصر التكامل الاقتصادي، يختبر العالم ركوداً جيوسياسياً جَعَل العولمة تتعثر.

من الواضح أن بعض أجزاء العالم بدأ ينفصل عن بعضه، لكن تقتصر هذه الظاهرة على مناطق معينة ويبقى نطاقها محدوداً. اضطرت الديمقراطيات الصناعية المتقدمة للانفصال عن روسيا بشكلٍ شبه كامل ودائم. أغلقت الشركات الغربية ومتعددة الجنسيات جميع شركاتها تقريباً في روسيا وقامت بتصفية ممتلكاتها. كذلك، تعرّض الأوليغارشيون الروس للعقوبات وتجمّدت أصولهم، وحُذِفت معظم البنوك الروسية من نظام المدفوعات العالمي «سويفت»، وصودرت احتياطيات البنك المركزي الروسي أيضاً. في الوقت نفسه، أوقفت الدول المتقدمة شراء الطاقة الروسية ومنعت وصول روسيا إلى الصناعات المتقدمة والعناصر الأساسية.

لا مفر من أن ينعكس فك الارتباط بهذا الشكل على مكانة روسيا الاقتصادية، والعسكرية، والجيوسياسية. مع ذلك، لم تصبح روسيا معزولة عن العالم أجمع.

تبقى حصة روسيا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي صغيرة، لكن تُعتبر مواردها الطبيعية أهم من إقصائها بالكامل من الاقتصاد العالمي. سبق وكثّفت الصين والهند شراء النفط الروسي، من 1.7 مليون برميل يومياً في حزيران 2021 إلى 2.8 مليون برميل تقريباً في حزيران 2022، وبأسعار مخفّضة. كذلك، تتابع الدول النامية الاتكال على الحبوب والأسمدة الروسية، ولا تزال مجموعة من الجيوش النظامية وغير النظامية تستعمل الأسلحة الروسية والمرتزقة الروس. بعبارة أخرى، ستتابع معظم مناطق العالم التعامل مع روسيا.

في غضون ذلك، أصبحت الولايات المتحدة والصين عالقتَين في منافسة جيوسياسية محتدمة دفعتهما إلى فك ارتباطهما في مجالات لها أهمية كبرى على مستوى الأمن القومي. تشمل تلك المجالات عدداً متزايداً من القطاعات «الاستراتيجية» التي أصبحت الآن خارج العمليات التجارية والاستثمارات الأجنبية، بدءاً من تقنيات الاستخدام المزدوج مثل أشباه الموصلات، وصولاً إلى مصادر الطاقة المتجددة، ومواقع التواصل الاجتماعي، وصناعة المعلومات.

لكن لا يمكن أن يتجاوز فك الارتباط الجزئي هذه العتبة لأن الاقتصادَين الأميركي والصيني مترابطان لدرجة أن يكون الطلاق الكامل بينهما مدمّراً للبلدَين والعالم أجمع. يريد قطاع الأعمال في الولايات المتحدة والصين توسيع الصفقات المشتركة بدل تقليصها. كذلك، لا ترغب معظم البلدان الأخرى (بما في ذلك أقرب حلفاء واشنطن في آسيا وأوروبا، رغم قلقهم من الصعود الصيني) في حصول دمار اقتصادي عالمي مؤكد، لذا عمدت إلى تكثيف استثماراتها وتعاملها مع الاقتصادَين الأميركي والصيني معاً.

رغم توسّع الاضطرابات، والحروب التجارية، والمشاكل الوبائية، تابعت التجارة الثنائية بين الولايات المتحدة والصين نموها. بلغت قيمة تجارة السلع في الاتجاهَين 657 مليار دولار في العام 2021، بعدما كانت 557 ملياراً في العام 2019، ومن المتوقع أن يتجاوز هذا الرقم القيمة القياسية المسجّلة في العام 2018 (659 مليار دولار) خلال هذه السنة. لا تزال الولايات المتحدة أكبر شريكة تجارية وسوق تصدير للصين، وتبقى الصين أكبر شريكة تجارية، وأهم موردة للبضائع المستوردة، وثالث أكبر سوق تصدير للولايات المتحدة.

في غضون ذلك، حافظت الاستثمارات على قوتها. تشعر الشركات الغربية بالقلق من المجازفات التي ترافق الاستثمار في الصين اليوم أكثر من أي وقت مضى، لكن تَقِلّ المؤشرات التي تثبت انسحابها. بلغت الاستثمارات الخارجية المباشرة في الصين مستوىً قياسياً في السنة الماضية، ويكشف استطلاع جديد أجرته غرفة التجارة الأميركية في الصين أن 83% من المصنّعين الأميركيين الناشطين هناك لا ينوون المغادرة. في المقابل، يفكّر 3% منهم فقط بنقل مواقع الإنتاج إلى الولايات المتحدة، ويخطط 60% لزيادة استثماراتهم في الصين. كذلك، تتابع واردات الولايات المتحدة من السلع المصنّعة الوسيطة والنهائية نموها بوتيرة أسرع من الإنتاج الصناعي الأميركي، ما يثبت عدم تغيير مواقع الإنتاج حتى الآن.

تريد بكين من جهتها أن تتكل على نفسها تكنولوجياً واقتصادياً، لكن لا يزال النمو الاقتصادي الصيني يتكل على الروابط التجارية مع الغرب. تشتري الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان حوالى 40% من صادرات الصين، وبالكاد تغيّرت هذه النسبة خلال العقد الماضي. كذلك، لا تملك الصين القدرة اللازمة على إنتاج أشباه موصلات متطورة محلياً، وتضمن قيود التصدير وضوابط الاستثمار الأميركية أن تبقى الصين عاجزة عن إنتاجها على مر العقد المقبل على الأقل. ونظراً إلى أهمية أشباه الموصلات لتصنيع سلع استهلاكية مثل الهواتف، والحواسيب، والسيارات، وحتى معظم أنظمة التسلّح المتقدمة، لا تستطيع الصين أن تتحمّل كلفة فك ارتباطها عن الولايات المتحدة وحلفائها.

لكن لا يشير هذا الوضع إلى زيادة التقارب بين الولايات المتحدة والصين. لا تزال أهم علاقة جيوسياسية في العالم تفتقر إلى الثقة المتبادلة، وتميل السياسات المحلية في البلدَين نحو العدائية مع مرور الوقت.

لقد أصبحت السيطرة على العلاقات الأميركية الصينية أكثر خطورة وصعوبة نظراً إلى عدائية الحزبَين الجمهوري والديمقراطي تجاه الصين، وسياسة «الذئب المحارب» الصينية، ومقاربات التعامل مع أزمة كورونا، والغزو الروسي لأوكرانيا، وتصاعد التوتر بسبب تايوان. مع ذلك، لا توشك هذه العلاقة على الانهيار لأن الروابط التي تجمع البلدَين لم تخسر قيمتها بل زادت أهميتها.

قد لا يكون فك الارتباط الجزئي بين روسيا والغرب أو بين الصين والولايات المتحدة مرادفاً لزوال العولمة، لكنه يشير إلى تحوّل في طبيعة العولمة. بدأ النظام الاقتصادي العالمي يصبح متعدد الأقطاب وأكثر انقساماً في ظل غياب قيادة دولية واضحة، ما يعني أن المعطيات الجيوسياسية ستتسلل إلى الحسابات الاقتصادية مع مرور الوقت. عادت المخاوف على الأمن الاقتصادي إلى الواجهة بعدما كشفت أزمة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا حجم الترابط بين الدول ونقاط ضعفها. قد تكثّف البلدان والشركات محاولاتها لزيادة قوة تحمّلها للصدمات الخارجية ولعزل نفسها عن الضغوط الجيواقتصادية عبر خليط من مقاربة «دعم الحلفاء»، ونقل الأعمال إلى بلدان مجاورة، وتنويع مصادر الإمدادات، والتخزين. حتى أن النشاطات الاقتصادية العابرة للحدود قد تتحول إلى نطاقات للنفوذ الجيوسياسي حين تُعمّق الدول تكاملها مع أصدقائها وتُخفف اتكالها على الأعـــــداء. تختلف هذه القوى عن مظاهر العولمة العدائية التي سادت في العقود الأخيرة، لكنها لا تتجه نحو الاكتفاء الذاتي. تبقى منافع التخصص هائلة وتكاليف كبح العولمة أكبر من أن يتحمّلها أحد. كذلك، تُعتبر سلاسل القيمة العالمية التي تنتج معظم السلع المعاصرة معقدة وشائعة لدرجة أن تصبح إعادة ابتكارها على المستوى الوطني مهمة شبه مستحيلة. من المتوقع أن تنسحب شركات غربية إضافية من الصين، لكنها لن تعيد الإنتاج إلى بلدها الأم على الأرجح بل ستنقله إلى دول صديقة ذات أجور منخفضة، مثل المكسيك وفيتنام. سبق وأثبت نقص حليب الأطفال في الولايات المتحدة، في وقتٍ سابق من هذه السنة، أن قوة التحمّل لا تنجم عن الاكتفاء الذاتي، بل تشتق بشكلٍ أساسي من التنويع الاقتصادي والقدرات الاحتياطية.

قد تؤدي هذه التحولات في أنماط التكامل العالمي إلى خسائر على مستوى الفاعلية. في النهاية، تزيد العوامل السياسية والجيوسياسية تكاليف العمليات التجارية وتمنع تخصيص الموارد بالشكل المناسب. لكن يبقى هذا التحوّل ثمناً بسيطاً مقابل صمود العولمة ومنافعها. من خلال إيجاد التوازن المناسب بين الفاعلية والأمن، يمكن إنشاء نظام اقتصادي أكثر أماناً واستدامة.