البروفسور أنطونيوس أبو كسم

إتفاق "الطائف" من منظار القانون الدولي

28 تشرين الأول 2022

02 : 00

إنّ مشروع الحوار بين الأفرقاء اللبنانيين الذي كان ينظّم من قبل الخارجية السويسرية بالتعاون والتنسيق مع منظمة Humanitarian Dialogue، بهدف النظر في تحديث العقد الاجتماعي اللبناني عبر تطوير بعض جوانب النظام من دون إعادة النظر به بمجمله، من ضمنه اتفاق «الطائف» الذي يشكّل المحور الأوّل من الحوار المزعوم، قد أثار بلبلة سياسية ودبلوماسية مبرّرة. فهاجس المثالثة، وهاجس الديمقراطية العددية، وهاجس تحجيم الأقليات، وهاجس المؤامرة ضدّ إحدى (أو بعض) الطوائف، كلّها مشروعة وتهدّد ما تبقّى من عقد اجتماعي، قوامه العيش المشترك.

بالرغم من أنّ اتفاق «الطائف»، لم يكن إلا تسوية سياسية دولية وإقليمية لوقف الحرب في لبنان، تحت عنوان إصلاحات سياسية وتنموية وأمنيّة ضمن إطار التعديلات الدستورية، إلا أنّه وعلى المستوى الدستوري، أتى بتعديلات جوهرية جيّدة ولكن ناقصة وغير مكتملة.

تمّ استغلال «الطائف» كغطاء قانوني للمحاصصة الطائفية ما بين أركان الحكم الذين نصّبتهم الحرب زعماء خالدين. أما على مستوى «الطائف» كوثيقة وفاق وطنيّة، فثبت أنها وثيقة سياسية غير قابلة للتطبيق، ولا تحاكي الحالة المجتمعية السياسية، حيث فشل الاتفاق بأن يكون عقداً اجتماعياً نموذجياً. ففي الممارسة، بدأ تطبيقه كاتفاق الغالب ضدّ المغلوب، خصوصاً وأنّه لم يحظَ بإجماع لبناني واسع. الأهمّ أن «الطائف» قد أنتج نظاماً، تبيّن أنّ قوّة ارتكازه ليست داخل النظام.

بالرغم من كافة الثغرات التي تعتريه، لقد حظي اتفاق «الطائف» بغطاء دولي وعلى مستوى مجلس الأمن. وبالتالي، هل من السّهل تعديله وصولاً إلى التوافق على مسلّمات قد تتعارض مع القواعد التي أرساها مجلس الأمن بشأن الحالة في لبنان؟

لقد حظي اتفاق «الطائف» بغطاء مجلس الأمن منذ إقراره، حيث رحّب هذا الأخير بالتصديق عليه، بواسطة بيانٍ رئاسي عقب جلسته الـ2891 التي انعقدت في 7 تشرين الثاني 1989. كما وأكّد مجلس الأمن في مناسباتٍ عدّة وعبر بيانات رئاسية (أبرزها المؤرخة في 22/11/1989 و27/12/1989) تأييد أعضائه للاتفاق وللعملية الدستورية التي بدأت في الطائف لتحقيق استعادة وحدة لبنان واستقلاله وسيادته على كامل إقليمه بالطرق السلميّة.

أمّا المفترق الأساسي، والذي أدّى إلى اعتماد لغة «الطائف»، فقد تمّ بواسطة قرار مجلس الأمن 1559. لقد تمّ اعتماد القرار 1559 من قبل مجلس الأمن في 2 أيلول 2004 بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، إبّان الانتخابات الرئاسية اللبنانية للعام 2004.

مقارنة بين 1559 و»الطائف»إنّ مقارنة القرار 1559 (2004) باتفاق «الطائف» على أسس مبدأ وحدة أراضي لبنان وسيادته واستقلاله السياسي داخل حدوده المعترف بها دوليًا ومبدأ بسط سيادة الدولة اللبنانيّة على كامل الأراضي اللبنانيّة، تبُرز جليّاً، أنّ نصّ القرار 1559 كرّر بشكلٍ لافت البنود الواردة في وثيقة الوفاق الوطني (ثانياً وثالثاً) الذي صادق عليه مجلس النواب اللبناني في 5 تشرين الثاني 1989.

إنّ التحليل القانوني للنصَّين يُظهر التزامات قانونية متطابقة، تنطبق على كلّ من الحكومة اللبنانية وعلى الحكومة السورية وبالتالي على العلاقة السورية اللبنانية. مع الاختلاف الوحيد، هو أنّ قرار مجلس الأمن يفرض التزامات دولية على كافّة الأطراف المعنية فيما اتفاق الطائف هو نصّ يخصّ القانون الداخلي اللبناني وله قيمة دستورية، وبما أنّ الدولة السورية لم تصادق عليه، فلا يمكن اعتباره اتفاقاً ثنائياً ما بين لبنان وسوريا.

على الضفّة الأخرى، وعلى مستوى القانون الدولي، إنّ القرار 1559(2004) هو قرارٌ ملزم بموجب المادة 25 من الميثاق والتي بموجبها، تتعهّد جميع الدول الأعضاء بتنفيذ قرارات مجلس الأمن، وبالتالي، فهو ينشئ التزامات على عاتق الدول المعنيّة بتطبيق مندرجاته، ومنها الدولة السورية، التي، ونتيجةً لتطبيقها القرار 1559، قرّرت انسحاب قواتها السورية من لبنان بعد ستّة أشهر من تاريخ صدوره.

وبالتالي، فإن القرارات التي تلت اعتماد القرار 1559، قد ساهمت في خلق سياقٍ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتطبيقها. فقد ولَّد القرار 1559 نطاقاً متعدد الأبعاد: بُعدٌ سوري لبناني، وبعد لبناني - فلسطيني، وبُعد لبناني - إيراني. والمؤكد، أنّ القرار 1559 وقرارات مجلس الأمن اللاحقة 1595 (2005) و1636 (2005) و1644 (2005) و1680 (2006) و1701 (2006) وغيرها، هي قرارات ذات خلفية أمنية تهدف لحماية السيادة اللبنانية بغضّ النظر عن أسباب أخرى دفعت المجتمع الدولي للتدخل في القضايا اللبنانية، من باب أنّ لمجلس الأمن الحقّ في اتخاذ جميع التدابير التي تُعتبَر مناسبة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين.

إنّ القرار 1559 قد عزّز ما ورد في اتفاق «الطائف» بشأن سيادة لبنان وحلّ جميع الميليشيات اللبنانية والأجنبية. على الصعيد القانوني الدولي، لقد حوَّل القرار 1559 اتفاق «الطائف» من اتفاقية وطنية داخلية مبرمة برعاية إقليمية، إلى اتفاقية وطنية - إقليمية ذات طابع دولي، وذلك لوجود أحكام مشتركة ومتطابقة ما بين أحكامه وما بين الـ1559. من الواضح أنّ هذا القرار، بطريقة ما، يشكّل عنصراً محفّزاً لتنفيذ أحكام اتفاق الطائف المتعلّقة بالجوانب الأمنية وتعزيز سيادة لبنان.

تجدر الإشارة الى أنّه وعلى مستوى الأمم المتحدة، إنّ مجلس الأمن سبق له أن درس مسألة «السيادة اللبنانية» منذ العام 1978 واتخذ 76 قراراً بشأنها - حتى تشرين الأول 2004-، جميعها تدعو بشكل خاص إلى وقف العنف وحماية المدنيين واحترام السيادة، وإلى انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية وبسط سلطة السلطات اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية.

إجرائياً، لقد كرّر قرار مجلس الأمن رقم 1680 (2006)، المتخذ في 17 أيار 2006، تأكيد دعوته للتنفيذ التام لجميع متطلبات القرار 1559. بل أكثر من ذلك، فإنّه وتحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، دعا مجلس الأمن في القرار 1701(2006) بموجب الفقرة التنفيذية - الإجرائية الثامنة منه، إلى «التنفيذ الكامل للأحكام ذات الصلة من اتفاق الطائف (والقرارين 1559(2004) و 1680(2006)) التي تطالب بنزع سلاح كل الجماعات المسلحة في لبنان، حتى لا تكون هناك أي أسلحة أو سلطة في لبنان عدا ما يخص الدولة اللبنانية». وأمّا في حيثيات القرار 1701، لقد أكّد مجلس الأمن أهميّة بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانية وفقاً للأحكام ذات الصلة من اتفاق «الطائف».

وبالتالي، إنّ تنفيذ اتفاق الطائف أصبح يشكّل التزاماً قانونياً دولياً يقع على عاتق الدولة اللبنانيّة، خصوصاً في ما يتعلّق بموضوع بسط سيادة الدولة على كافة الأراضي اللبنانية. وإنّ هذه المنزلة القانونية ذات الطابع الدولي لاتفاق، قد كرّسها مجلس الأمن عبر عدّة قرارات، آخرها القرار 2650 (2022) المعتمد في 31 آب 2022 بخصوص تمديد ولاية قوات الطوارئ الدولية.

التعديل من زاوية القانون الدولي

وعليه، إنّه ليس متاحاً من زاوية القانون الدولي، تعديل «الطائف» في ما خصّ أركان بسط سيادة الدولة اللبنانية على أراضيها بشكلٍ يتعارض مع منطوق القرار 1559. فتنفيذ الاتفاق أصبح ملازماً لتنفيذ القرار 1559، وهذا ما يظهر من اللغة الدبلوماسية المعتمدة من قبل المجتمع الدولي في هذا الشأن. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أتى البيان المشترك الأميركي - الفرنسي - السعودي بشأن لبنان على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة والمؤرخ في 22 أيلول 2022 على ذكر أنّه «أكّد الوزراء على ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بتنفيذ أحكام قرارات مجلس الأمن 1559 و1701 و1680 و2650(...) والالتزام باتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنيّة والسلم الأهلي».

على كلّ حال، إنّ أبرز طاولات الحوار التي جمعت القيادات السياسية اللبنانية، كان جوهرها كيفية مقاربة تطبيق قرارات الشرعية الدولية، بدءاً من بنود حوار البرلمان في العام 2006 مروراً بإعلان بعبدا وبحوارات بعبدا.

إنّ الإشكالية اليوم، هي إشكالية دستورية عميقة، حيث أنّ ممثلي جزء يسير من 41% من اللبنانيين الذين شاركوا في الانتخابات النيابية هم الذين يحاولون تقرير مستقبل البلد، في حين أنّ 59% لم يعطوا ثقتهم لهؤلاء المسؤولين، علماً أنّ هناك أكثرية قويّة صامتة - غير الذين يلجأون إلى الإضراب - لم تشارك بالانتخابات لا انتخاباً ولا ترشحاً قد قامت بما كان يقتضي بالسلطة التنفيذية أن تقوم به إبّان الأزمات المتتالية، فقدّمت التضحيات بالرغم من الإمكانيات الماديّة شبه المعدومة.

إنّ «الطائف» يفترض تطبيقاً بحسن نيّة، وليس صحياً ولا يجوز أن تكون المرجعيات الطائفية هي ضمانة لتطبيقه. بشكلٍ عام وأمام الأزمات السياسية المتلاحقة، لا يزال الاتفاق يشكّل ضمانةً للميثاقية، حيث أنّ الديمقراطية اللبنانية هي ديمقراطية طوائفية تناصفيّة اصطلاحية مركّبة. فالهوية الثقافية للبنان قائمة على العيش المشترك والطوائفية كغنىً ثقافي لمجتمع تعدّديّ وسط منطقة تحكمها أنظمة عنصرية ومذهبيّة. فلا يجوز المسّ بروح «الطائف» المعبّر عنه في مقدّمة الدستور، ولا يجوز تعديل أيّ من الثوابت المكرّسة في مقدّمته أو المسّ بالأعراف الدستورية القائمة على الميثاق الوطني. فأيّة محاولة متسرّعة لفرض عقد اجتماعيّ جديد ستؤدّي إلى تهديد هوية لبنان التعددية وستؤدي إلى طائفية مقنّعة تحت ستار العلمنة القائمة على «الديمقراطية العددية» التي نبذها العلاّمة الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين في وصاياه.

إنّ ما يقتضي بحثه في الدستور في الوقت الراهن هو المواد المتعلّقة بآلية عمل المؤسسات لتأمين استمراريتها من دون أي تعطيل لضمان حقوق المواطنين وكرامتهم حتى يشعروا أنّهم ينتمون لدولة قانون.

(*) محامٍ دوليّ وأستاذ جامعي


MISS 3