عيسى مخلوف

جسدنا ليس لنا وحدنا!

29 تشرين الأول 2022

02 : 01

صدرت في الغرب، في الآونة الأخيرة، كتب عدّة تتناول واقع الأرض وأهلها، ومنها كتاب بعنوان "عصر المرونة" (صدرت ترجمته الفرنسيّة مؤخّراً عن منشوراتLes Liens qui Libèrent) للباحث الأميركي في مجالات علم الاجتماع والإقتصاد جيريمي ريفكين.

​مُستَهَلُّ الكتاب يختصر الهاجس الأوّل لكتابته، كما يطرح أسئلة أساسيّة انطلاقاً من وضع الإنسان في سياقه التاريخي: "نحن أحدث أنواع الثدييات على وجه الأرض. عمرنا لا يتعدّى المئتي ألف سنة. القسم الأكبر من تاريخنا (أكثر من 95 في المئة منه) عشناه بصفتنا صيّادين وقطّافين على غرار من يشبهنا من الثدييات البشريّة والقرديّة. ننهل من الموارد الطبيعيّة ونتكيّف مع تغيُّرات الفصول، تاركين بصمات سطحيّة جدّاً على جسد الأرض. ما الذي تغيّر إذاً؟ كيف أصبحنا مخرّبين همجيّين ولصوصاً، ننتهك الطبيعة ونجعلها تجثو على ركبتيها؟ وها هي، هذه الطبيعة بالذات، تلملم جروحها وتعود بقوّة لتتخلّص منّا".

​فلاسفة عصر الأنوار راهنوا على التقدّم العلمي واعتبروه مدخلاً لخلاص الإنسان وتحريره من عبوديّات كثيرة. غير أنّ التقدّم الذي حقّق فتوحات هائلة في ميادين كثيرة، لم يضع حدّاً لجشع السلطة والحروب، بل، بخلاف ذلك، وفّر إمكانات كبيرة لصانعي الحروب ومكّنهم من تحقيق المزيد من الدمار والقتل بصورة لم يعرفها العالم من قبل. يكفي في هذا المجال أن نشير إلى الحربين العالميّتين، وما أسفرتا عنه من خسائر بشريّة ومادّيّة فادحة. من جهة ثانية، لجأت سلطة المال، مشفوعة بالسلطة السياسيّة، إلى وسائل متطوّرة لاستغلال الإنسان للإنسان، والإفادة من الموارد الطبيعيّة بشكل متوحِّش، واجتثاث الغابات، وتهديد النظام البيئي بأكمله. وهكذا فإنّ الإنسان الذي ظنّ نفسه سيّد الكون، يفعل في الأرض ما يشاء، هو اليوم مهدّد في وجوده، وبات يعرف أنه يقترب، هو والكائنات الحيّة الأخرى، من كارثة بيئيّة قاتلة. حيال هذا الواقع، لا بدّ من إعادة النظر في كلّ شيء: نظرتنا للعالم، موقع الإنسان في الكون، فهمنا الاقتصاد ودور الحكومات، تغيير أنماط الاستهلاك، طريقتنا في التعامل مع الموارد الطبيعيّة، وعلاقتنا بهذا الكوكب.

لقد ضاقت الأرض ذرعاً بابنها الانتحاريّ العجيب، وما عاد في استطاعتها أن تتحمّل جشعه وسلوكه العدائي، وتجسّدت ردود أفعالها الآن - نتيجة الاحتباس الحراري - في الفيضانات والأعاصير والجفاف والحرائق... مقابل ذلك، يتخيّل جيريمي ريفكين أنّ الوعي المتزايد حيال خطورة ما يحدث، سيدفع في اتجاه تغيير الصراع السلبي مع الطبيعة، والقائم على الربح والمردوديّة المادية فحسب (وإن أدّى ذلك إلى التفريط في الحياة نفسها)، واستبداله بنسق آخر سمّاه "رأس المال البيئي" الذي لا يتعامل مع البيئة بصفتها عبداً ينصاع لإرادته المُطلَقة. إنّ الطبيعة، بهذا المعنى، ليست مورداً وبضاعة للاستهلاك بل مصدر حياة. وبحسب الكاتب، علينا أن نتآخى مع عناصرها وكائناتها، لا أن نتعاطى معها من موقع ثنائيّة السيّد والعبد.

وأشار، في هذا السياق، إلى أنّ ثمّة جيلاً جديداً من علماء الفيزياء والكيمياء وعلماء الأحياء يدحضون الفكرة القديمة التي تقول إنّنا كائنات مستقلّة وبإمكاننا أن نعيش بمعزل عن بقيّة الكائنات الحيّة وعن عناصر الطبيعة نفسها. لقد اكتشف هؤلاء العلماء حقيقة مختلفة تماماً عمّا كان سائداً بخصوص الطبيعة البشريّة: جميع الكائنات الحيّة امتداد لمقوّمات الأرض. المعادن والماء والأوكسيجين من العناصر التي تَنفُذ إلينا باستمرار على شكل ذرّات وجُزيئات تستقرّ في خلايانا وفي اللحم والأعضاء على النحو المنصوص عليه في حمضنا النووي، وهي تُستَبدَل بانتظام، طوال حياتنا.

جسدنا إذاً ليس لنا وحدنا. تشاركنا فيه أشكال حياة أخرى: البكتيريا، الفيروسات، المتعضّيات الوحيدة الخليّة، والفطريّات. وهذا يعني أنّ أكثر من نصف خلايا الجسد، ومعظم حمضه النووي، لا يمتّان بِصِلة إلينا كبشر، بل ينتميان إلى الكائنات الأخرى التي تعيش في كلّ ركن من أركان التركيب الداخلي للأجسام الحيّة. إلى ذلك، وكما ذكرنا، لا تتوقّف النّظُم البيئيّة الأرضيّة عند حدود الجلد الذي يكسونا، فهي تدخل أجسادنا وتخرج منها بلا توقُّف، ما يجعل كلّاً منّا أشبه بغشاء قابل للاختراق. ولذلك نحن نؤلّف جزءاً لا يتجزّأ من هذه الأرض التي ننقضّ عليها. وإن لم يفهم الإنسان، وخصوصاً أهل القرار، هذه الحقائق العلميّة المحض، فلن يكون هناك تَصالُح فعلي مع الطبيعة التي ستُعاملنا يوماً كأنّنا لم نكن.


MISS 3