موجة علمانية جديدة في الإسلام

10 : 51

في معظم أنحاء العالم الإسلامي، يشعر عدد كبير من المسلمين بخيبة أمل بعد الأفعال المريعة التي ارتُكِبت باسم دينهم... طوال عقود، ناقش علماء الاجتماع المتخصصون بالإسلام احتمال أن تخوض ثاني أكبر ديانة في العالم تحولاً بارزاً، بما يشبه تجربة المسيحية، فتتخذ منحىً علمانياً غير مسبوق. هل سيخسر الإسلام أيضاً سيطرته على الحياة العامة ويتحول إلى صوت بسيط من بين أصوات متنوعة أخرى وغير طاغية في المجتمعات المسلمة؟



أعطى غربيون كثيرون جواباً سلبياً على هذا السؤال، معتبرين أن الإسلام جامد وصارم بطبيعته، لذا يصعب أن يتخذ منحىً علمانياً. وكان جواب عدد كبير من المسلمين سلبياً أيضاً، لكنهم افتخروا بذلك: إيماننا الحقيقي لن يسلك طريقـاً خاطئاً وينجــــــرّ وراء الغرب الملحد!

بدا وكأن انتشار الإسلام المتطرف (تفسير مُسيّس جداً للإسلام) منذ السبعينات يؤكد على الرؤية نفسها. بعبارة أخرى، يُعتبر "الإسلام مقاوِماً للعلمانية" كما يذكر شادي حامد، مفكر بارز في الدين والسياسة، في كتابه Islamic Exceptionalism (الاستثناء الإسلامي) في العام 2016.

لكن تاريخياً، لا شيء يبقى جامداً إلى الأبد. وتبرز اليوم مؤشرات على نشوء موجة علمـانية جديـدة في العالم الإسلامي.رصــد "الباروميتر العربــي" جزءاً من تلك المؤشرات: تكشف استطلاعات الرأي في هذه الشبكة البحثية (مقرها "برينستون" وجامعة "ميشيغان") عن ميلٍ متزايد إلى الابتعاد عن الإسلام المتطرف، أو حتى الإسلام ككل. اكتشـــف منظمو الاستطلاعات في الشبكة حديثاً أن "الثقة بالأحزاب الإسلامية" و"الثقة بالزعماء الدينيين" تراجعت في آخر خمس سنوات، في ستة بلدان عربية محورية، حتى أن عدد الحضور في المساجد انخفض.

هذه النزعة ليست واسعة طبعاً. شكّل العرب الذين يعتبرون أنفسهم "غير متدينين" 8% من المشاركين في استطلاع العام 2013، وقد ارتفعت هذه النسبة إلى 13% فقط في العام 2018. لذا يدعو بعض الخبراء في شؤون المنطقة، على غرار العالِم المصري البريطاني هشام هيلير، إلى توخي الحذر.لكن يظن آخرون، من أمثال كارل شرّو، معلّق مشهور لبناني الأصل يتناول شؤون الشرق الأوسط، أن ما يحصل مهم جداً. فقال عن الموجة العلمانية: "هذه النزعة حقيقية بدرجة معينة، ويمكن الشعور بها في أماكن كثيرة، بما في ذلك الخليج. إنها بداية ظاهرة تحتاج إلى وقت طويل".

لكن ما سبب هذا التطور؟ يجيب شرو: "يتعلق السبب الأساسي بالسياسات الإسلامية وجزء من المظاهر الاجتماعية والسياسية للصحوة الإسلامية، منها خيبة أمل الناس بالإخوان المسلمين في مصر، وصدمة "داعش"، والسأم من الأحزاب الطائفية في العراق ولبنان، والاستياء من النظام الإسلامي في السودان".

حين نغادر العالم العربي وننظر إلى قوتين مهمتين في الجوار (إيران وتركيا)، يمكن رصد النزعة نفسها، لكن على نطاق أوسع.

في إيران، تحكم الجمهورية الإسلامية منذ 40 سنة، لكنها فشلت في إعادة أسلمة المجتمع. يقول العالِم المتخصص بشؤون الشرق الأوسط، نادر هاشمي: "لقد تحقق هدف معاكس. يطمح معظم الإيرانيين اليوم إلى العيش في جمهورية ديموقراطية وليبرالية وعلمانية، بدل الدولة الدينية التي يديرها رجال الدين". حتى أن الكثيرين سئموا من رجال الدين وبدأوا يتحدّونهم في الشوارع.

في تركيا، بدأت تجربة مماثلة، ولو بسلاسة، في آخر عشرين سنة. بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، أصبح الإسلاميون المهمّشون سابقاً في تركيا يمثلون النخبة الحاكمة الجديدة. هذا ما سمح لهم بالمجاهرة بإيمانهم والتأكيد عليه، لكنّ توجّههم يخفي أيضاً تعطّشهم للسلطة. في هذا السياق، يقول عالِم الاجتماع المولود في تركيا، مجاهد بيليجي: "اليوم، يرتبط الإسلام المتطرف في تركيا بالفساد والظلم بنظر الرأي العام". حتى أن عدداً كبيراً من الأتراك بات يبغضه أكثر من أي وقت مضى.غالباً ما ترتبط خيبة الأمل باستعمال النزعة الإسلامية كأداة سياسية، لكنها قد تنقلب ضد الدين الإسلامي بحد ذاته. في تركيا، يتّضح هذا التوجه من خلال نزعة اجتماعية طاغية بين الشباب وقد أصبحت حديث البلد اليوم: "الربوبية"، أي الإيمان بإله، لا بديانة. يشعر الإسلاميون المؤيدون لأردوغان بالقلق من هذا "التهديد الكبير على الإسلام"، لكنهم يعتبرونه مؤامرة غربية أخرى بدل أن يعترفوا بأن الوضع من صنع أيديهم.إلى أي حـــد يمكن أن تتوسع هذه الموجة العلمانية؟ الله وحده يعلم! لكن تختلف هذه الموجة عن نوع العلمانية الذي فُرِض على العالم الإسلامي منذ قرن، تحت حكم قادة استبداديين ومؤيدين للغرب من أمثال أتاتورك التركي أو رضا شاه الإيراني. حصلت تلك الثورة من أعلى المراتب إلى أسفلها واعتُبرت مزيفة عموماً. لكننا نتكلم هذه المرة عن نزعة تصاعدية ومشتقة من المجتمع ومن أشخاصٍ سئموا من ارتكاب أعمال مشينة باسم الدين.

تُذكّرنـــا هذه الأحداث ببدايات عصر التنوير، حين عمد الأوروبيون، بعد رؤية أهوال الحروب الدينية وحملات الاضطهاد، إلى تطوير فكرة العلمانية السياسية، تزامناً مع إبداء المنطق وحرية التفكيـر والمساواة والتسامح. قد تتماشى تلك القيم النبيلة طبعاً مع الإسلام أيضاً، وهذا ما يناقشه "الإسلاميون المعاصرون" منذ أواخر القرن التاسع عشر. كذلك، تكشف تونس، وهي نقطة مضيئة نادرة في العالم العربي، أن هذا المسار المعتدل واعد جداً.

لكن إذا تمسك الإسلاميون والمحافظون بأساليبهم القديمة، قد يواجهون نسخة متطرفة من أحداث عصر التنوير، على شكل حملة شرسة ضد رجال الدين والدين عموماً، بما يشبه العوامل التي قلبت فرنسا ضد الكنيسة الكاثوليكية المتسلطة.

إذا كان الإسلاميون والمحافظون يهتمون بمستقبل الإسلام أكثر من كسب النفوذ باسمه، يتعين عليهم إذاً أن يبدأوا التفكير بوضع حدّ لتلك الأعمال المريعة التي يربطونها بدينهم، أي الحروب الأهلية، والحكم الاستبدادي، والتعاليم المليئة بالكراهية.

يحمل الإسلام في جوهره فضائل كثيرة قادرة على إلهام البشرية، على غرار التعاطف والتواضع والصدق والإحسان. لكن هُمّشت هذه القيم كلها لفترة أطول من اللزوم في سبيل الوصول إلى السلطة وإشباع نزعات التعصب.