ويليام إنبودين

المعركة على مستقبل السياسة الخارجية في الحزب الجمهوري مستمرة

12 تشرين الثاني 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

صورة للرئيس رونالد ريغان في مؤتمر العمل السياسي المحافظ في أوكسون هيل | أميركا، شباط 2019

فيما يحلل الجمهوريون نتائج الانتخابات النصفية، يبدو حزبهم متخبطاً في مجال الأمن القومي. هذه الانقسامات ليست جديدة. كل عقدَين تقريباً، يختبر الحزب الجمهوري جدلاً داخلياً حول السياسة الخارجية ودور الولايات المتحدة في العالم. واجه الحزب الديمقراطي انقساماته الخاصة طبعاً، وقد اتضحت أحدث مظاهرها عند نشر رسالة التجمع التقدمي في الكونغرس (ثم سحبها لاحقاً) لحث الرئيس جو بايدن على عقد محادثات مباشرة مع روسيا لإنهاء الحرب في أوكرانيا. يدور جزء من أهم النقاشات حول السياسة الخارجية في الأوساط الداخلية لكل حزب منهما بدل أن يحصل النقاش بين الحزبَين.



هذا الوضع قائم منذ قرن تقريباً. قبل الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الباردة وما بعدها، وفي الحقبة المعاصرة اليوم، يحارب الجمهوريون لتحديد الدور القيادي الذي يُفترض أن تضطلع به الولايات المتحدة في الشؤون العالمية. بصورة عامة، يبدو أن تلك المناوشات الداخلية تُعالَج برأي الجمهوريين عبر أحداث العالم أو العهود الرئاسية الناجحة التي يقودها الجمهوريون، أو خليط من العاملَين. فيما يتجه الجمهوريون إلى الاستفادة من انتصاراتهم في الكونغرس في العام 2022 ويتطلعون للعودة إلى البيت الأبيض في العام 2024، من الأفضل أن يراجعوا أولاً الإرث الذي تركه الرئيس اللامع رونالد ريغان.

في القرن الحالي، يتوسّع الشرخ الذي يشوب الحزب الجمهوري راهناً بسبب الحروب المضطربة في أفغانستان والعراق، والأزمة المالية في العام 2008، وفشل استراتيجية التواصل مع الصين، وإخفاقات سياسية أخرى. يطبّق الجمهوريون الآن مقاربة مبهمة ترتكز على تحالفات متبدّلة وانفعالات متضاربة بدل أن تقوم على معايير واضحة المعالم. يترسّخ هذا الوضع لأن الحزب الجمهوري لا يحكم البلد من البيت الأبيض ولا يستطيع الاتكال على الرئيس لتحديد أجندته في مجال السياسة الخارجية. من الواضح أن الخلافات القائمة تتماشى مع الجدل المستمر منذ قرنٍ من الزمن حول مكانة الولايات المتحــدة وهدفها في العالـم. يتخبط الجمهوريـون حتى الآن بين إثبات حسّ القيادة في الخارج أو التركيز على الشؤون الداخلية.

على صعيد آخر، لا تزال السياسة الانعزالية الجديدة متخبّطة داخل الحزب الجمهوري. عندما صوّت مجلس الشيوخ الأميركي على قرار لدعم انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو مثلاً في تموز 2022، وحده السيناتور الجمهوري جوشوا هولي من ميسوري صوّت ضد القرار رغم هجوم دونالد ترامب على الحلفاء عموماً والناتو خصوصاً. تثبت هذه التجربة عمق الالتزام الجمهوري بالحلف. كذلك، يتماشى جميع المرشحّين الجمهوريين للرئاسة (باستثناء ترامب) مع توجهات المعسكر الدولي المحافِظ. لكن ستتخذ السياسة الخارجية منحىً مختلفاً وغير متوقع طبعاً إذا أصبح ترامب مرشّح الحزب الجمهوري.

يبدو أن الصين ستكون الجهة التي تحافظ على سياسة التعاون الدولي داخل الحزب الجمهوري أكثر من أي شخصية سياسية أخرى. تُذكّرنا التهديدات التي يطرحها الحزب الشيوعي الصيني اليوم بأن أحداثاً مثل الحرب العالمية الثانية، وتوسّع التهديدات السوفياتية، واعتداء 11 أيلول، هي التي عالجت النقاشات السابقة حول السياسة الخارجية في الحزب الجمهوري. يكشف استطلاع رأي جديد أن 89% من الجمهوريين يحملون نظرة سلبية إلى الصين، وتعتبرها أغلبية كبيرة «عدوة» للولايات المتحدة. لا يطرح أي مرشّح جمهوري لعضوية الكونغرس برنامجاً متساهلاً مع الصين، وحتى هولي يدعو إلى تبنّي مقاربة صارمة تجاه بكين. ولا تنحصر هذه العدائية تجاه الصين داخل الحزب الجمهوري، بل إنها جزء من المسائل القليلة التي يُجمِع عليها الحزبان الديمقراطي والجمهوري، إذ تفضّل أغلبيات قوية في المعسكرَين تطبيق سياسة متشددة مع الصين وتقديم دعم متزايد إلى تايوان.

لا مفر من أن يؤدي تطبيق هذه القناعات بطريقة عملية إلى نشوء سياسة خارجية قوية. لن يكون التخلي عن الحلفاء الآسيويين، وتهميش حقوق الإنسان، وتخفيض ميزانيات الدفاع، خيارات ممكنة للتصدي للحزب الشيوعي الصيني. تطرح الصين أيضاً معضلة سياسية على الحركة المحافِظة الوطنية، لأن جزءاً من رموزها يدعم بكين بقدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لا يمكن أن يكون أحد صادقاً في معارضته للصين إذا كان يدعم الرئيس المجري فيكتور أوربان أو بوتين مثلاً.

لكن يشير التحدي الصيني في المقابل إلى عامل واعد آخر في سياسة التعاون الدولي التي يتبناها الجمهوريون: إرث ريغان. كان ريغان آخر رئيس أميركي يطلق منافسة ضد قوة عظمى شيوعية ومسلّحة نووياً في أوراسيا ويفوز بها، ويتجنب في الوقت نفسه الكوارث النووية، ويدعم توسيع الحرية والازدهار حول العالم، ويُعاد انتخابه بنتيجة ساحقة.

لم يدرس معظم الناخبين الجمهوريين سياسات ريغان، ووُلِد الجيل الأصغر سناً بعد رحيله من السلطة، لكن يعتبره جميع الجمهوريين تقريباً سياسياً ناجحاً. يقدّر الناخبون قيمة السياسات الناجحة أكثر من أي التزامات إيديولوجية بسياسة التعاون الدولي أو النزعات الانعزالية. تتعدد الاختلافات بين أحداث الثمانينات والظروف الراهنة طبعاً، ولا يمكن اعتبار الصين مشابهة للاتحاد السوفياتي. لكن يحمل سجل ريغان في مجال السياسة الخارجية حتى الآن أهمية كبرى بالنسبة إلى الحزب الجمهوري المعاصر، وحتى الحزب الديمقراطي.

يمكن اختصار سياسات ريغان الخاصة بالأمن القومي بعبارته الشهيرة «السلام عن طريق القوة»، لكنه كان مقتنعاً بأن «القوة» تتجاوز حدود القدرات العسكرية وتشمل قِيَم الولايات المتحدة، وأفكارها، وتحالفاتها، وجهودها الدبلوماسية، وتاريخها. برأي ريغان، حمل ذلك التاريخ دروساً شائكة عن السياسات الحمائية والانعزالية التائهة خلال الثلاثينات. هو واجه الانعزاليين في عصره عبر إلقاء خطاب أسطوري في «بوانت دو هوك»، فرنسا، في الذكرى الأربعين لغزو النورماندي، فقال: «نحن، في الولايات المتحدة، تعلّمنا دروساً مريرة من الحربَين العالميتَين. من الأفضل أن نكون مستعدين لحماية السلام بدل الاختباء على الجانب الآخر من البحار والتحرك بعد خسارة الحرية. لقد تعلّمنا أن الانعزالية لم تكن رداً مقبولاً على الحكومات الاستبدادية التي تحمل طموحات توسعية يوماً ولن تصبح كذلك مطلقاً».

أَمَر ريغان القوات الأميركية الميدانية ببدء القتال في مناسبة واحدة على مر عهده الممتد على ثماني سنوات، فأرسلها إلى جزيرة «غرينادا» الصغيرة في الكاريبي. لطالما كان حذراً في استعمال القوة، وحرص على اللجوء إلى القوات العسكرية لمنع الأعمال العدائية، ودعم القوات الخارجية كي تقاتل بنفسها (بما يتماشى مع «عقيدة ريغان»)، وزاد قوة المبادرات الدبلوماسية. كان الدمج بين القوة والدبلوماسية من أبرز معالم حنكته السياسية، فهو بنى وزارة دفاع متينة لتفعيل تواصله مع الكرملين وإطلاق مفاوضاته البارزة مع الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف. كان وزير الخارجية الأميركي، جورج شولتز، من أكبر مناصري الحشد الدفاعي الذي قام به ريغان، فقد أدرك أن الجيش القوي يزيد فاعلية الجهود الدبلوماسية.

كذلك، اعتبر ريغان الحرية ميزة غير متكافئة في السياسة الخارجية الأميركية، فدعم حقوق الإنسان، وحرية الأديان، والديمقراطية، في الأنظمة الشيوعية والديكتاتوريات العسكرية، وسعى إلى توسيع الحرية الاقتصادية عبر نظام تجاري مفتوح بين أصدقاء الولايات المتحدة، تزامناً مع الضغط على حلفاء مثل اليابان لفتح أسواقها المغلقة. في الوقت نفسـه، أثبت ريغان شجاعته السياسية، فتمسّك بالتجارة الحرة رغم قوة الدعم للسياسات الحمائية في الكونغرس، وتصدّى للمواقف الرافضة داخل حزبه حين اتفق مع غورباتشوف على التخلص من جميع الصواريخ النووية متوسطة المدى. كان ريغان يطبّق سياساته بطريقة لا مثيل لها، فحاول استمالة الناخبين الذين يخالفونه الرأي وشكّل مصدر إلهام لمن يؤيدونه.

اليوم، أصبحت الانعزالية الأميركية الجديدة سبباً لتوجيه انتقادات لاذعة للمقاربات الأميركية المبنية على التوسّع والغطرسة وأخطاء السياسة الخارجية. برأي الجمهوريين المُحبَطين من الإخفاقات الأميركية في أفغانستان والعراق، والمستائين من الخسائر الاقتصادية بسبب الممارسات التجارية الخارجية المدمّرة، والمنزعجين من استغلال الحلفاء لبلدهم طوال عقود، والخائفين من تصعيدٍ خطير مع حاكم مختل ومسلّح نووياً مثل بوتين، أصبحت الدعوة إلى ضبط النفس مبررة. قد تعطي النزعة إلى استعمال القوة العسكرية نتائج كارثية، إذ تبقى تجارب فيتنام والعراق جزءاً من المغامرات المكلفة التي تدعو إلى توخي الحذر. لكن يجب ألا تصبح التجارب الخاطئة التي ترافقت مع مشاركة القوات الأميركية الميدانية في حروب غير مبررة مرادفة للدعوة إلى إلغاء المساعدات لأصدقاء واشنطن في معاركهم الخاصة، أو سحب أي قوات أميركية متبقية في الخارج، أو إنهاء التحالفات الأميركية نهائياً. لمعالجة التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة، لا يمكن اعتبار سجل السياسة الانعزالية على مر القرن الماضي جديراً بالثقة. بدءاً من الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة وصولاً إلى الانسحاب من أفغانستان، يحمل خصوم الدور الأميركي القيادي في العالم والدبلوماسية المسلّحة سجلاً فاشلاً. من الأفضل إذاً أن يحرص الجمهوريون الذين يبحثون عن توجيهات فاعلة في مجال السياسة الخارجية اليوم على حماية إرث ريغان في حزبهم.


MISS 3