لينا م. خان

الاحتكار... نقطة ضعف استراتيجية في الولايات المتحدة

23 آذار 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

مبنى لجنة التجارة الفيدرالية في الولايات المتحدة الأميركية

على غرار جهات حكومية كثيرة، تراقب لجنة التجارة الفدرالية عن كثب تداعيات إطلاق أدوات متطورة من الذكاء الاصطناعي الذي ينتج الفرص والمخاطر في آن. تتعامل هذه الجهود أصلاً مع الأضرار اليومية التي تُسببها تلك الأدوات، بدءاً من عمليات الاحتيال عبر استنساخ الأصوات وصولاً إلى المراقبة التجارية.

لكن بعيداً عن هذه التحديات الفورية، يبرز سؤال أكثر أهمية عن السلطة والحُكم. هل أصبح الوقت مناسباً لفتح الأسواق أمام المنافسة الحرّة والنزيهة وإطلاق كامل قدرات التقنيات الناشئة؟ أم أن شركات طاغية محدودة تتّجه إلى السيطرة على الأدوات الأساسية، فتحبسنا جميعاً في مستقبل من اختيارها؟

تبدو الإجابة على هذا السؤال الشائك محفوفة بالمخاطر. قد تزعزع الإنجازات التكنولوجية الأسواق، وتعزز النمو الاقتصادي، وتغيّر طبيعة الحروب والظروف الجيوسياسية. وقد تترافق أي نزعة إلى اختيار سياسة وطنية مبنية على ترسيخ الوضع الراهن أو تكثيف المنافسة مع عواقب هائلة خلال العقود المقبلة.

كما حصل في مراحل شائكة أخرى، بدأنا نسمع اليوم فكرة ناشئة عن ضرورة أن تحمي الولايات المتحدة احتكاراتها المحلية لضمان تفوّقها على الساحة العالمية. بدل التركيز على دعم منافسة حرّة ونزيهة، تدعو هذه الفكرة المبنية على مفهوم «الأبطال القوميين» إلى تدليل الشركات الطاغية لمتابعة الهيمنة على العالم.

لكن يجب أن نشكك بهذه الفكرة ونعترف بأن قوة الاحتكار في الولايات المتحدة اليوم تطرح تهديداً هائلاً على مصالح واشنطن الوطنية وقيادتها العالمية. تكشف التجارب والأحداث التاريخية أن الاحتكارات الغارقة في الإجراءات المفرطة والجمود البيروقراطي لا تستطيع إحراز التقدم التكنولوجي الثوري الذي تميل الشركات الناشئة إلى تحقيقه. هذه الإنجازات بالذات هي التي سمحت للولايات المتحدة بتسخير التقنيات المتطورة وجعل العالم يحسدها على اقتصادها. للحفاظ على التفوق العالمي، لا داعي لحماية احتكاراتنا من الابتكار، بل يجب أن نحمي الابتكارات من الاحتكار.

في العام 2021، دمّرت شرارة تائهة في مصنع متفجرات في لويزيانا المعمل الوحيد الذي يصنّع البارود في الولايات المتحدة. ما من بديل عن البارود، فهو يُستعمل في مئات التطبيقات العسكرية. حين انفجر ذلك المصنع إذاً، تلاشى مصدر إنتاج البارود الوحيد في أميركا الشمالية كلها بسبب غياب أي مصانع احتياطية أخرى. تحمل هذه التجربة درساً بسيطاً: يجب ألا نحصر كلّ قدراتنا في مكان واحد.

اليوم، يعتبر المسؤولون في قطاع الدفاع مشكلة الاحتكار في الولايات المتحدة نقطة ضعف استراتيجية. بدأ البنتاغون يحذر من نقاط الضعف في سلسلة الإمدادات المرتبطة بالأمن القومي منذ سنوات. ذكر مسؤول بارز في الفترة الأخيرة أن اتكالنا المتزايد على عدد صغير من المتعاقدين لتأمين الإمدادات الأساسية يُضعِف قدرتنا على تعزيز الإنتاج.

لكن لا تقتصر المشكلة على قاعدة الصناعة الدفاعية. كشفت جائحة «كورونا» نقاط ضعف في مختلف سلاسل الإمدادات الأميركية، فقد ظهر نقص في كافة المجالات، بدءاً من أشباه الموصلات وصولاً إلى معدات الوقاية الشخصية. وحتى الاضطرابات الاعتيادية، مثل تلوّث النبات أو الأعاصير، أثبتت أن صدمة واحدة في هذا النظام المُرَكّز قد تنتج تداعيات متلاحقة، فتعزز النقص في منتجات تتراوح بين حليب الأطفال وأكياس المصل.

لكن يُسبب الوضع الراهن مشكلات تتجاوز سلاسل الإمدادات. طوال سنوات، سعت الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى تقوية دفاعات الأمن السيبراني ضد أي هجمات كارثية. منذ بضعة أسابيع، تعطلت واحدة من أهم الشبكات الطبية في الولايات المتحدة (Change Healthcare) طوال أسابيع بسبب هجوم سيبراني، فعجز مقدّمو الخدمات الطبية والمستشفيات عن تلقي أتعابهم وانتشرت الفوضى في مختلف جوانب نظام الرعاية الصحية. تعجز الولايات المتحدة بكل بساطة عن النهوض من المشكلات بسهولة. جاءت ممارسات الاحتكار لتزيد ضعفنا وتكبح قدرتنا على مقاومة الصدمات.

لكن ماذا عن الذكاء الاصطناعي واقتصاد الابتكار؟ يختلف نقص البارود وحليب الأطفال عن نزعة الشركات التي تدير مراكز البيانات الكبرى ونماذج اللغات الأساسية إلى إطلاق عمليات تقنية، وصرف رساميل بعشرات مليارات الدولارات، ودفع التريليونات للقيمة السوقية، والاستعانة بأبرع المحترفين.

يؤدي الاتكال على «بطل قومي» واحد إلى زيادة نقاط الضعف في سلاسل الإمدادات وتصاعد الأعباء المفروضة على دافعي الضرائب، لكنه ينتج أيضاً نقاط ضعف جيوسياسية قد يستغلها الشركاء والخصوم حول العالم. عقدت شركة «بوينغ» مثلاً اجتماعاً لمجلس إدارتها في بكين وضغطت على الكونغرس لإنهاء مراجعته السنوية لحقوق التجارة مع الصين كي تتمكن من بيع طائرات إضافية. في المقابل، كانت الحكومة الصينية لتطلب طائرات «بوينغ» بحسب تفاصيل بعض السياسات الأميركية، كأن تمتنع الولايات المتحدة عن إرسال سفن حربية إلى مضيق تايوان أو ترفع الحظر عن تصدير بعض التقنيات.

في هذه الأيام، تُطرَح الفكرة المرتبطة ب «الأبطال القوميين» في سياق مرتبط بشركات التكنولوجيا الطاغية. غالباً ما نسمع أن تنظيم تلك الشركات أو رفع قضايا ضدها لمكافحة الاحتكار قد يُضعِف الابتكار الأميركي ويسلّم الساحة العالمية إلى الصين. تفترض هذه الأفكار وجود سباق تسلّح مشابه لحقبة الحرب الباردة اليوم، حيث تسعى الشركات في كل بلد إلى فرض هيمنتها.

على أرض الواقع، أصبح جزء من شركات التكنولوجيا نفسها راسخاً في الصين، وتسعى كل شركة منها إلى توسيع نطاق نشاطاتها في السوق الصيني. لا تشمل هذه الروابط أي جوانب شائكة، لكنها تؤثر على شكل الحوافز التجارية بكل وضوح. في السنوات الأخيرة، كشفت حوادث متنوعة مستوى اتكال الشركات الأميركية اقتصادياً على الصين، وتستطيع هذه الأخيرة أن تدفعها إلى التصرف بطرقٍ تتعارض مع مصالحنا الوطنية.

حتى لو لم تُعْطِ الشركات الأميركية الطاغية الأولوية للمصالح الأميركية الوطنية، يظن البعض أن تلك الشركات قادرة على حماية التفوق الأميركي شرط أن تحصل على حرية التصرف. لكن يُفترض أن يشكك الجميع بصوابية هذه الفكرة أيضاً.

يجب أن نفضّل المنافسة على مفهوم «الأبطال القوميين»، وتتعدد الخطوات التي بدأنا نتخذها لتطبيق هذا الخيار بشكلٍ عملي.

نشأت لجنة التجارة الفدرالية جزئياً لحماية الابتكارات النافعة في الأسواق المفتوحة عبر جعل المنافسة النزيهة تُحدد نتائج السوق (أي الخاسرين والفائزين) بدل جهات الرقابة الخاصة. تعني حماية الأسواق المفتوحة والتنافسية انتصار أفضل الأفكار. بعبارة أخرى، تستطيع الشركات أن تتفوق عبر التنافس على المهارات بدل استغلال الامتيازات الخاصة أو الرضوخ للمحتكرين الحاليين.

أخيراً، يجب ألا نفضّل الاحتكارات على التنافس لأن الاحتكار قد يزيد هشاشة الديموقراطية.

في آخر سنتين، تَكرّر موضوع مشترك في كلام آلاف الناس في أنحاء الولايات المتحدة، بدءاً من الممرضين، والمزارعين، والعمال في متاجر البقالة، وصولاً إلى مؤسسي شركات التكنولوجيا، وأصحاب سلاسل الفنادق، والكتّاب في هوليوود. تكلّم هؤلاء عن شعورهم بالخوف، والقلق، والعجز. تقاسم أشخاص من مختلف مجالات الحياة قصصاً مفادها أن الأسواق التي يحتكرها وسطاء أقوياء تُرسّخ التكتيكات القسرية. هم اعترفوا بأن قدرتهم على عيش حياة محترمة أو التطور في مهنتهم لا تتوقف عموماً على مهاراتهم أو اجتهادهم، بل تحكمها نزوات عشوائية تفرضها عليهم شخصيات نافذة وبعيدة.

ترتكز التجربة الأميركية عموماً على الفكرة القائلة إن الحرية الحقيقية تعني التحرر من الإكراه الاقتصادي والسلطة التعسفية وغير الخاضعة للمحاسبة كتلك التي تفرضها الهيمنة الاقتصادية. تم إقرار قوانين مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة كطريقة للاحتماء من تَرَكُّز السلطة غير المبرر في النطاق الاقتصادي، مثلما يفرض الدستور ضوابط وتوازنات للاحتماء من تَرَكُّز السلطة في عالم السياسة.

ستستفيد الولايات المتحدة من تجديد الالتزام بقوانين مكافحة الاحتكار القوية وسياسة المنافسة، لأن هذا التوجه يزيد أمننا ويجعل تقنياتنا أكثر ابتكاراً واقتصادنا أكثر ازدهاراً، لكنه نهج ضروري أيضاً لحماية الفرص الحقيقية للأميركيين والسماح للناس باختبار معنى الحرية الحقيقية بدل الإكراه في تجاربهم اليومية. حين يقتنع الناس بأن الحكومة لم تعد تقاتل من أجلهم، قد يصبح هذا الوضع نقطة ضعف استراتيجية لن تتردد الجهات الدخيلة في استغلالها.

لحسن الحظ، تَحقّق تقدّم بارز في السنوات القليلة الماضية في أوساط الحكومة، فأصبحت حياة الأميركيين اليومية محور قراراتنا السياسية. بدءاً من التجارة وصولاً إلى السياسة الصناعية والمنافسة، تعلّمت هذه الإدارة الأميركية دروساً مفيدة من التجارب السابقة وتبنّت معايير جديدة. يتعلق قاسم مشترك في مختلف المقاربات المعتمدة بالتزام مستجدّ بمراجعة الفرضيات القديمة وتحديث طريقة تفكيرنا على ضوء التجارب والأدلة الواقعية.

لا تقتصر جهود التصدي للتحديات المعاصرة على تفعيل قوانين مكافحة الاحتكار. لكن من خلال تعزيز المنافسة النزيهة وإقناع الشعب الأميركي باستعدادنا للقتال من أجل حقهم بعيش حياة حرّة ومحترمة خارج قبضة المحتكرين، قد نسهم في إعادة بناء ثقة الناس بالاقتصاد ونُجدد الثقة بالحكومة الأميركية وقيادتها محلياً وخارجياً.

MISS 3