كونستانتين سونين

روسيا تتجه إلى الخراب الاقتصادي

18 تشرين الثاني 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في شهر شباط الماضي، بدا الاقتصاد الروسي محكوماً بالانهيار. هددت العقوبات الدولية بخنق الاقتصاد، ما يعني تراجع قيمة الروبل وتعثّر الأسواق المالية الروسية. في الوقت نفسه، بدا الروس العاديون في طريقهم إلى الحرمان. لكن مرّت أكثر من ثمانية أشهر على بدء الحرب ولم يتحقق هذا السيناريو بعد. بل تشير مجموعة من البيانات إلى نشوء وضع معاكس وحفاظ الاقتصاد الروسي على تماسكه. زادت قوة الروبل مقابل الدولار، وقد يقتصر الانكماش على أقل من 3% في العام 2022 رغم تراجع الناتج المحلي الإجمالي الروسي.

وراء الانكماش المعتدل للناتج المحلي الإجمالي وأرقام التضخم، تبدو الأضرار الحقيقية حادة: من المتوقع أن يواجه الاقتصاد الروسي فترة طويلة من الركود. كانت الدولة تتدخل أصلاً في القطاع الخاص قبل الحرب، وأصبحت تلك النزعة أكثر وضوحاً الآن، وهي تجازف بكبح الابتكار وفعالية السوق. لضمان استمرارية الاقتصاد الروسي، تقضي الطريقة الوحيدة بإقرار إصلاحات كبرى (لكنها تبقى مستبعدة حتى الآن)، أو إحداث اضطراب مؤسسي مشابه لما حصل عند سقوط الاتحاد السوفياتي.

مع بدء الحرب، في شهر شباط وبداية آذار، سارع الروس إلى شراء الدولار واليورو لحماية أنفسهم من أي انهيار محتمل لعملة الروبل. وخلال الأشهر الثمانية اللاحقة، راحوا يشترون المزيد في ظل تصاعد الخسائر الروسية في أوكرانيا. في الحالات العادية، كان هذا الوضع ليؤدي إلى انهيار قيمة الروبل لأن العملة المحلية تصبح محكومة بالانهيار حين يشتري الناس العملات الأجنبية. لكن بسبب العقوبات المفروضة على البلد، أوقفت الشركات التي كانت تستورد السلع قبل الحرب شراء العملة لتمويل تلك الواردات. نتيجةً لذلك، تراجعت الواردات بنسبة 40% في الربيع، فزادت قوة الروبل مقابل الدولار في المرحلة اللاحقة. لا يعني ذلك أن العقوبات لم تنجح، بل إن أثرها على الواردات كان قوياً بدرجة غير متوقعة على المدى القصير. لم يكن هذا التراجع في الواردات متوقعاً. لو توقّع البنك المركزي الروسي ذلك التراجع الهائل، ما كان ليفرض قيوداً صارمة على الودائع بالدولار في شهر آذار لمنع انهيار قيمة الروبل.

أعطت العقوبات الاقتصادية آثاراً فورية أخرى أيضاً، فقد أصبح إنتاج السيارات والطائرات شبه مستحيل بعد منع روسيا من تلقي الإلكترونيات الدقيقة، والرقائق، وأشباه الموصلات. بين آذار وآب، تراجعت صناعة السيارات الروسية بنسبة هائلة وصلت إلى 90%، وكان الهبوط في إنتاج الطائرات مشابهاً. ينطبق الوضع نفسه على إنتاج الأسلحة التي تبقى من أولويات الحكومة. كذلك، أخطأ كل من توقّع أن تُعوّض الطرقات التجارية الجديدة عبر الصين، وتركيا، ودول أخرى غير خاضعة لنظام العقوبات، عن خسارة الواردات الغربية.

بالإضافة إلى تداعيات العقوبات المرتبطة بالتكنولوجيا الغربية، بدأت روسيا مرحلة جديدة حيث يرسّخ الشركاء السياسيون قبضتهم على القطاع الخاص. أصبحت هذه الخطة قيد التطوير منذ وقت طويل. بعدما تأثرت روسيا بالأزمة المالية العالمية في العام 2008 أكثر من أي بلد آخر في مجموعة العشرين، عمد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تأميم الشركات الكبرى. حتى أنه وضعها تحت سيطرة الحكومة مباشرةً في بعض الحالات، أو جعلها تحت إشراف البنوك الحكومية في حالات أخرى. تماشياً مع متطلبات الحكومة، كان متوقعاً أن تحافظ تلك الشركات على فائض من العمال في جداول الرواتب. وحتى الشركات التي بقيت جزءاً من القطاع الخاص مُنِعت من طرد الموظفين. هذه التدابير منحت الشعب الروسي شكلاً من الأمان الاقتصادي، لفترة مؤقّتة على الأقل، ويُعتبر هذا الاستقرار جزءاً أساسياً من الأسباب التي تجعل بوتين يحافظ على دعم ناخبيه. لكن لا مفر من أن تصل الشركات إلى حالة من الجمود إذا كانت تعجز عن إعادة هيكلة نفسها وتحديث عملها وطرد الموظفين لزيادة أرباحها. ليس مفاجئاً أن يبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي في روسيا 0.8% سنوياً، بين العامين 2009 و2021، وهو أقل من المستوى المسجّل قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي، خلال السبعينات والثمانينات.

كانت الشركات الروسية تتعامل أصلاً مع قوانين تحرمها من الاستثمار قبل الحرب، وواجهت قطاعات متقدمة مثل الطاقة، والنقل، والاتصالات (أي المجالات التي كانت لتصبح أكبر مستفيد من التقنيات والاستثمارات الأجنبية) أكثر القيود صرامة. اضطرت الشركات الناشطة في هذه القطاعات للحفاظ على روابط وثيقة مع المسؤولين الحكوميين والبيروقراطييــــن لضمان صمودها. في المقابل، حرصت هذه الشخصيات التي تتولى حماية الحكومة على إلغاء المنافسة التي تواجهها تلك الشركات، فمنعت الاستثمارات الخارجية، ومرّرت قوانين تفرض أعباءً هائلة على الجهات الأجنبية التي تقوم بأعمال تجارية في روسيا، وفتحت تحقيقات ضد الشركات التي تنشط من دون حماية الحكومة. نتيجةً لذلك، أصبح المسؤولون الحكوميون والجنرالات العسكريون والبيروقراطيون في أعلى المراتب (كان جزء كبير منهم من أصدقاء بوتين) ومن أصحاب الملايين. في المقابل، لم يتحسن مستوى معيشة الروس العاديين خلال العقد الماضي.

لكن منذ بداية الحرب، أحكمـــت الحكومة قبضتها على القطاع الخاص بدرجة إضافية. بدءاً من شهر آذار، أقرّ الكرملين مجموعة من القوانين والتنظيمات التي تمنح الحكومة الحق بإغلاق الشركات، والتحكم بقرارات الإنتاج، وتحديد أسعار السلع المُصنّعة. وبعد إعلان التعبئة لحشد المجندين العسكريين في شهر أيلول، حصل بوتين على ورقة ضغط أخرى لإخضاع الشركات الروسية، لأن رؤساء الشركات مضطرون للتفاوض مع المسؤولين الحكوميين للحفاظ على موظفيهم والتأكد من إعفائهم من التجنيد الإجباري.

عملياً، لطالما كان الاقتصاد الروسي في قبضة الحكومة. لكن بدأت التدابير التي اتخذها بوتين في الفترة الأخيرة تزيد سيطرة الحكومة بدرجة غير مسبوقة. في هذا السياق، يقول الخبيران الاقتصاديان أندريه شليفر وروبرت فيشني إن الأمر الوحيد الذي يُعتبر أسوأ من الفساد بحد ذاته هو الفساد اللامركزي. يكون الوضع سيئاً بما يكفي حين تطلب الحكومة المركزية الفاسدة الرشاوى، لكن من الأسوأ أن تتنافس مناصب حكومية مختلفة على تلك الرشاوى. كان ارتفاع معدلات النمو في أول عقد من عهد بوتين ينجم جزئياً عن سعيه إلى تركيز السلطة في الكرملين، لذا بدّد الجهات التنافسية القوية، مثل الأوليغارشيين الناشطين خارج أوساط الحكومة. لكن بدأ الإصرار على تشكيل جيوش خاصة وكتائب من المتطوعين في المناطق لخوض الحرب ضد أوكرانيا ينشئ مراكز سلطة جديدة، ما يعني أن الفساد اللامركزي سيعود للظهور في روسيا.

هذا الوضع قد ينتج ظروفاً مشابهة لفترة التسعينات، حين اتكل أصحاب الشركات الروسية على الأمن الخاص، وروابطهم مع المافيا، والمسؤولين الفاسدين، لمتابعة السيطرة على شركات خضعت للخصخصة حديثاً. استعملت العصابات الإجرامية محاربين كانوا قد شاركوا في الحرب الروسية في أفغانستان، فوفروا «الحماية» لمن يمنحهم أكبر المبالغ أو سرقوا الشركات المربحة بكل بساطة. من المتوقع أن تضطلع جماعات المرتزقة التي شكّلها بوتين للقتال في أوكرانيا بدور مشابه في المستقبل.

تستطيع روسيا أن تحقق النصر في أوكرانيا حتى الآن. لم يتضح بعد معنى الفوز في هذه الظروف، فقد يُعتبر احتلال بعض المدن الأوكرانية المدمّرة بشكلٍ دائم شكلاً من الانتصار. أو ربما تخسر روسيا الحرب، لكن قد تعني هذه النتيجة أن يخسر بوتين سلطته على الأرجح. قد تستلم حكومة إصلاحية جديدة السلطة، وتسحب القوات العسكرية، وتفكر بتطبيق الإصلاحات، وتتفاوض على رفع العقوبات التجارية.

لكن بغض النظر عن النتيجة النهائية، ستخرج روسيا من الحرب تزامناً مع إصرار حكومتها على فرض سلطتها على القطاع الخاص بطريقة غير مسبوقة في أي مكان آخر من العالم، باستثناء كوبا وكوريا الشمالية. ستصبح الحكومة الروسية موجودة في كل مكان، لكنها لن تكون قوية بما يكفي لحماية الشركات من المافيات المؤلفة من جنود مسرّحين يحملون الأسلحة التي حصلوا عليها في زمن الحرب. في البداية، قد يستهدف هؤلاء الشركات التي تجني أكبر الأرباح، على المستوى الوطني والمحلي في آن.

لتحريك نمو الاقتصاد الروسي، لن تكون الإصلاحات المؤسسية الكبرى كافية، بل تبرز الحاجة أيضاً إلى التحرر الذي اكتسبته روسيا في العام 1991. أدى انهيار الدولة السوفياتية إلى تجريد المؤسسات الناشطة في تلك الحقبة من أهميتها. ثم بدأت في المرحلة اللاحقة عملية شاقة وطويلة لبناء مؤسسات جديدة، وزيادة قدرات الدولة، والحد من الفساد، إلى أن وصل بوتين إلى السلطة وفكّك مؤسسات السوق في نهاية المطاف وبنى نظامه الخاص المبني على المحسوبيات. يبدو الدرس المستخلص من هذه التجربة كلها قاتماً: حتى لو خسر بوتين سلطته وأطلق خَلَفه إصلاحات بارزة، ستحتاج روسيا إلى عشر سنوات على الأقل قبل أن تعود إلى مستويات الإنتاج السابقة في القطاع الخاص ونوعية الحياة التي شهدها البلد قبل سنة واحدة فقط. هذه هي عواقب أي حرب كارثية ومضلِّلة.