عيسى مخلوف

شهرزاد أو الهجرة إلى الغرب

19 تشرين الثاني 2022

02 : 00

في القرن الثامن عشر، وصلت حكايات شهرزاد إلى باريس بفضل الترجمة التي أنجزها المستشرق الفرنسي أنطوان غالان لـِ"ألف ليلة وليلة"، ومن باريس انتقلت إلى الغرب حيث صدرت في لغات وترجمات عدّة، وتركت أثراً كبيراً على المشهد الإبداعي في حقوله المختلفة، لا سيّما الأدب والفنّ. إنّ السحر الذي في هذه الحكايات أعطى أجنحة للمخيّلة، وكشف عن قدرتها على تضميـد الجروح النفسيّة، ومواجهةِ الشعور بالسأَم، وخَلْقِ عالم مُوازٍ لعالمنا من خلال ما تمثّله من جاذبيّة ودهشة.

لم تعد "ألف ليلة وليلة" في الغرب مجرّد حكايات مسلّية، بل أصبحت، ومنذ القرن التاسع عشر، رؤية فنّيّة جماليّة وطريقة في التفكير، وفي تناوُل العلاقة بين الواقع والخيال، كما أصبحت مادّة للبحث والدراسة لدى البحّاثة والأكاديميين، ومادّ للتأمّل والاستلهام بالنسبة إلى المبدعين. أما العلاقة بالمبدعين فتجسّدت منذ اللحظة الأولى لترجمتها وفتحت أفقاً جديداً لم يكن معهوداً في أوروبا من قبل. هذا الأفق لم يخفت بريقه يوماً ولا يزال مفتوحاً حتى الآن، وقد تجلّى مؤخّراً في معرض في "قصر طوكيو" للفنون الحديثة في باريس، عنوانه "شهرزاد ليلاً"، ويروي فيه ستة فنّانين معاصرين من جنسيّات عدّة، وعلى غرار شهرزاد، حكاية زمنهم، لكن بأساليب مختلفة، عبر أعمال وتجهيزات سمعيّة بصريّة تهدف إلى "التحرّر من أنظمة القهر والاستغلال التي تستولي على سلوكنا اليومي وتفكيرنا".




صفحتان من المخطوط الذي اعتمد عليه أنطوان غالان ويعود إلى القرن الرابع عشر (المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة)



في موازاة ذلك، وفي عداد الكتب التي تصدر سنوياً في أوروبا، صدرت حديثاً الترجمة الفرنسيّة لكتاب بعنوان "الكتاب الأسود لألف ليلة وليلة/ ملاحظات حول تقاليد الشرق وعاداته" للمستشرق والكاتب والألسني الإنكليزي ريتشارد فرنسيس بورتون الذي عُرف أيضاً من خلال ترجمته لـِ"ألف ليلة وليلة" إلى اللغة الإنكليزيّة في القرن التاسع عشر. والآن، سيُضاف كتابه المترجَم إلى مئات الكتب التي تحتويها "المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة" وتدور في فلك "ألف ليلة وليلة"، كما تحتوي على كنز نادر من مخطوطات "الليالي"، ومن بينها المخطوط الذي اعتمد عليه أنطوان غالان لإنجاز ترجمته، ويرقى إلى القرن الرابع عشر. تقتضي الإشارة إلى أنّ المكتبة الفرنسيّة سبق أن خصّصت معرضاً شاملاً لـِ"ألف ليلة وليلة"، وهي تتضمّن كمية هائلة من الكتب المصوّرة التي تروي للأطفال حكايات شهرزاد. إضافة إلى ذلك، هناك محترف خاصّ بهؤلاء الأطفال يعرّفهم بـِ"ألف ليلة وليلة"، وانطلاقاً منها بملامح كثيرة من عوالم الشرق، ويشجّعهم على الاستيحاء من حكاياتها الآسرة (التي جعلت شهرزاد تنتصر على الموت)، وكتابة نصوص جديدة ورسوم تستوحي منها. وقد وفّرت المكتبة للأطفال كلّ ما يلزمهم من إمكانات للتأليف والرسم، بما في ذلك الأجهزة الرقميّة. نذكُر، هنا، أنّ عدداً من الكتّاب الكبار، ومن بينهم الأميركي إدغار ألن بو والفرنسي تيوفيل غوتييه والأرجنتيني خورخي لويس بورخِس، أضافوا إلى "الليالي" ليلةً ثانية أو ثالثة بعد الألف، وذلك للتأكيد على أنّ هذا الكتاب هو أحد الكتب المفتوحة التي لا تنتهي.

ما زالت "ألف ليلة وليلة"، منذ صدور الجزء الأوّل من ترجمة المستشرق أنطوان غالان في العام 1704، حتى يومنا هذا علامة ثقافيّة فارقة في الغرب. ولقد تأثّر بها، كما رأينا، الكثير من الأدباء والفنّانين، وجمعت حولها بحّاثة ومتخصّصين بارزين من أمثال الكاتب والباحث جمال الدين بن شيخ والمستعرب أندريه ميكل. وقد أنجز الإثنان ترجمة جديدة لحكايات الليالي صدرت عن منشورات "غاليمار" أواخر القرن العشرين، كما قدّما دراسات علميّة مهمّة حول هذه الحكايات، أُضيفت إلى دراسات أخرى تشكّل مرجعيّات أساسيّة في هذا المجال.

هكذا تكرَّس في الغرب حضور "ألف ليلة وليلة" بصفتها أحد وجوه الأدب العالمي الرفيع، ووجدت مَن يتفاعل مع مَكامِن الإبداع فيها ومع خلفيّاتها الإجتماعيّة والأنتروبولوجيّة. وما كان ذلك ليحصل لولا التقدّم العلمي والمعرفي، ولولا العلوم الإنسانيّة والقراءة النقديّة، بينما أخذت حكاياتُ الليالي هذه تَضمُر وتُنازع في الفضاء الثقافي الذي وُلدَت وترعرعت فيه. أخبرني جمال الدين بن شيخ، الذي كان يُدرِّس في جامعة "السوربون" ويُشرف على أطروحات جامعيّة فيها، بأنّ طَلَبة وافدين من العالم العربي كانوا حين يطلبون منه أن يقترح عليهم عناوين بحوث علميّة، ويقترح "ألف ليلة وليلة"، يظنّون أنه يُمازحهم أو يَستهزئ بهم...


MISS 3