أندريه كوليسيكوف

بوتين يكرّر تجربة ستالين

21 تشرين الثاني 2022

02 : 00

صورة للزعيم السوفياتي ستالين خلال مسيرة عيد العمال في موسكو | روسيا، أيار 2022

كلما زادت وحشية نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونزعته القمعية، يصبح حُكم جوزيف ستالين أكثر نجاحاً بنظر الروس العاديين. خلال السنوات الخمس التي سبقت العام 2021، زادت أعداد الروس المقتنعين بأن «ستالين كان قائداً عظيماً» من 28% إلى 56%، وفق استطلاعات أجراها «مركز ليفادا» المستقل. وفي الفترة نفسها، تراجعت أعداد من يخالفون هذا الرأي من 23% إلى 14%. منذ العام 2015، يحظى ستالين بإشادة علنية في الأعياد الوطنية، وتُمنَع النقاشات التي تتطرق إلى نظامه القمعي. لا يزال الدكتاتور السوفياتي يحظى باهتمام كبير لدرجة أن نشعر أحياناً بأنه ينافس بوتين. لكنه مجرّد أداة مساعِدة من الماضي الغابر على الأرجح، فهو يؤكد لحاكم روسيا المعاصر أنه يسير على الطريق الصحيح.



لم يصبح حُكم ستالين الحديدي مجرّد نموذج يستطيع الكرملين الاقتداء به اليوم، بل يبدو بوتين الآن مشابهاً لستالين في سنواته الأخيرة، حين واجه الزعيم السوفياتي أعلى درجات الارتياب وأصبح الأكثر وحشية. في نهاية الحرب العالمية الثانية، كان ستالين موجوداً في السلطة منذ أكثر من عشرين سنة. واعتباراً من تلك المرحلة وصولاً إلى وفاته في العام 1953، نقل ستالين نظامه إلى نسخة استبدادية جديدة ومتطرفة، فلم يعد يتحمّل اختلاف الآراء، وكان يشتبه بأقرب شركائه طوال الوقت، واكتسب وحشية مخزية ومتفاخرة، وحمل أفكاراً وهمية وهوسية. على غرار ستالين في المرحلة الأخيرة من حياته، أمضى بوتين أكثر من عشرين سنة في السلطة أيضاً، وأثبت أنه يحمل جزءاً كبيراً من تلك الصفات في عهده الرئاسي الراهن الذي بدأ في العام 2018. خلال هذه الفترة كلها، عدّل بوتين الدستور الروسي لإعادة ضبط عهوده الرئاسية، وأطلق حرباً لها عواقب كارثية على العالم أجمع.

في العام 2022، تحوّلت روسيا إلى أوتوقراطية شخصية شاملة. من خلال تبنّي إيديولوجيا إمبريالية وقومية، وإطلاق حملة قمع وحشية ضد المجتمع المدني وأي شكل من المعارضة، وإعلان تأهب البلد كله، استرجع بوتين معظم العناصر الكلاسيكية التي طبعت حُكم ستالين التوتاليتاري، بدءاً من ظاهرة «عبادة الزعيم» وصولاً إلى مفهوم الموت البطولي.

كان استعمال القوة لحل المشاكل تكتيكاً آخر وَرِثه بوتين من ستالين، مع أن هذا النهج بدا بالياً في القرن الواحد والعشرين. خلال حرب الشتاء في العام 1939 مثلاً، قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، فشل ستالين في انتزاع التنازلات التي يريدها من فنلندا، فأطلق غزواً ضد البلد. وكما فعل بوتين في أوكرانيا، أراد ستالين أن يستولي على أجزاء من الأراضي التي يعتبرها مهمة استراتيجياً لإنشاء منطقة عازلة في حال تعرّض بلده للهجوم. وعلى غرار تحركات بوتين «الدفاعية» في أوكرانيا، كان ستالين يبحث عن عذرٍ للتحرك ويتخذ خطوات استفزازية على الحدود كي تتمكن قواته العسكرية من شن الحرب بطريقة «شرعية».

في الحالتَين، تكلم الحاكم الدكتاتوري عن حشد قوات العدو، مع أن هذا الأمر لم يحصل. كذلك، استخف كلاهما بتصميم الشعب الذي يتعرض بلده للغزو على المقاومة: مثلما توقّع ستالين من العمال الفنلنديين أن يستقبلوا نظراءهم بباقات الورد، افترض بوتين أن الأوكرانيين سيستقبلون الجنود الروس باعتبارهم محرري البلد. لكن أدرك الزعيمان أنهما مخطئان للغاية. حتى أن استعمال الانفصاليين الموالين لروسيا من جانب بوتين كان جزءاً من تكتيكات ستالين. وعندما عقد بوتين اتفاقاً مع حكومتَي «دونيتسك» و»لوهانسك» الصُوَريتين، كان يسير على خطى ستالين الذي أنشأ قيادة فنلندية بديلة يسيطر عليها الكرملين ثم أبرم اتفاقاً مع النظام الخاضع له.

لجأ بوتين أيضاً إلى الخطاب الذي استعمله ستالين حول انتصار روسيا في الحرب العالمية الثانية للحفاظ على شرعيته. حاول ستالين سريعاً أن يحوّل المأساة التي قُتِل فيها حوالى 20 مليون روسي إلى قصة بطولة وانتصارات. في الوقت نفسه، قمع الدكتاتور في أسرع وقت أي جنرالات يتمتعون بشعبية كافية لدرجة أن يطرحوا تهديداً عليه. تعرّض عدد كبير منهم للاعتقال والقتل، وتم استبعاد غيورغي جوكوف، القائد العسكري المركزي ومهندس الانتصار السوفياتي. كان ستالين يشعر بالقلق من زيادة شعبية القادة العسكريين وبذل قصارى جهده لجعل تفاصيل الحرب في طي النسيان. في المقابل، اكتسب بوتين شرعيته بناءً على الفكرة القائلة إنه وريث «الحرب الوطنية العظيمة»: إنها العبارة المستعملة رسمياً في روسيا للدلالة على الحرب العالمية الثانية، وهي تحمل إشارة إلى الحرب الوطنية ضد نابليون في العام 1812.

في غضون ذلك، خطف بوتين مسيرة «الفوج الخالد» السنوية التي يشارك فيها عدد هائل من الروس وهم يحملون صور أقاربهم الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، فحوّلها إلى استعراض رسمي حاشد يقوده بنفسه. حتى أنه حوّل طقوس النصر السوفياتية إلى طقس حربي. بعد إعادة صياغة التاريخ بهذه الطريقة، أعلن بوتين أن عملية غزو أوكرانيا هي حرب ضد «النازية» والغرب وامتداد للحرب الوطنية العظيمة التي بقيت غير مكتملة. يعكس هذا الموقف تزييفاً فاضحاً للتاريخ وتلاعباً بالوعي الجماعي في بلدٍ كامل.

على غرار ما فعله ستالين في أولى سنوات الحرب الباردة، قطع بوتين علاقاته مع الغرب اليوم وبدأ يعتبر جميع المظاهر الأجنبية غير متماشية مع فكر روسيا وقيمها. هكذا تحوّل الفريق الذي اعتبره ستالين «معسكراً عالمياً بلا جذور» وطَرَد أعضاءه واضطهدهم إلى «عملاء الخارج» المنفيين من بلدهم في روسيا المعاصرة بقيادة بوتين.

في عهد ستالين، كانت العلاقات مع الأجانب توصل الناس إلى السجن. وفي تشرين الأول 2022، بدأت روسيا في عهد بوتين تطبّق قانوناً جديداً يرتبط «بالتعاون السري مع دولة أجنبية». أنهى بوتين مساعيه الرامية إلى تغيير صورة ستالين في كانون الأول 2021، قبيل الحرب في أوكرانيا مباشرةً، حين سمح للنيابة العامة وأعضاء آخرين من نظام العدالة المزعوم بتدمير المنظمة البحثية Memorial التي كانت تهدف إلى حماية الذكريات المرتبطة بحقبة ستالين القمعية. كانت هذه المنظمة واحدة من مجموعات مستقلة قليلة حافظت على تاريخ روسيا الحقيقي بدل تبنّي نسخة ستالين.

من خلال استعمال هذه التكتيكات، فتح بوتين المجال أمام شن الحرب، رمزياً وعملياً، واستعد لضخ عناصر من التوتاليتارية في نظامه السياسي. بدأت هذه العملية منذ سنوات، فهو لقّن الروس نسخته الخاصة من التاريخ، وأثّر على أفكارهم عبر المقالات والخطابات المستهدفة، وسرعان ما تضخّمت مساعيه عبر الحملة الدعائية التاريخية الداعمة لستالين، كتلك التي شاركت فيها الجمعية التاريخية الروسية والجمعية التاريخية العسكرية المواليتان للكرملين. في بداية العام 2022، وجد بوتين تقارير جاهزة تحظى بشعبية بين الناس لمتابعة تزييف التاريخ وإطلاق حربه، واستفاد في الوقت نفسه من نشر مشاعر الارتياب التي كان يحملها ستالين، ما يعني أن يُشَيْطِن الناس جيرانهم ويتبادل الطلاب والمعلّمون الهجوم.

في ظل غياب الديمقراطية، فشل بوتين في ابتكار آلية لنقل السلطة، بما أنه لا ينوي التخلي عن صلاحياته، على غرار ستالين. نتيجةً لذلك، أصبح تاريخ روسيا عالقاً في حلقة مفرغة. لكن لم تتّضح بعد مدى قدرة روسيا على تكرار أحداث آذار 1953، حين كان ستالين يُحتضر وراح أقرب شركائه يتنافسون على تفكيك إرثه. كما حصل في الاتحاد السوفياتي خلال عهد ستالين، يبدو أن روسيا لا تملك بديلاً عن بوتين اليوم. بعبارة أخرى، ما من مسار بديل عن كل ما يقوله أو يفعله، ولا نفع من معارضته على الأرجح. يجب أن تتحرك النُخَب الروسية انطلاقاً من هذا المنطق. على غرار النُخَب الحاكمة في عهد ستالين، سيضطر المسؤولون الحاليون لانتظار نهاية الطاغية بكل بساطة، على أمل أن يختفي يوماً قبل أن يتسنى له أن يطردهم أو يسجنهم. لهذا السبب، يهتم ناخبو بوتين بوضعه الصحي. في عهد ستالين، لم تنكشف معلومات كثيرة عن صحة الدكتاتور، لكن كان شركاؤه وأعضاء الحزب الشيوعي المقربون منه في سنواته الأخيرة يعرفون أنه ليس بخير. اتّضح هذا الواقع أمام الرأي العام خلال المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي، في تشرين الأول 1952، حيث بدا ستالين مسنّاً وضعيفاً. هو اختبر رفاق السلاح حين تكلم عن استبداله بزعيم أصغر سناً، لكنه أوصل عدداً من المهنيين الشباب نسبياً إلى الهيئات الحاكمة في الوقت نفسه، وأثارت هذه الخطوة قلق الحرس القديم طبعاً.

قد يتخذ بوتين مساراً مشابهاً، حتى أنه يسير في هذا الاتجاه جزئياً منذ الآن، لا سيما على المستوى الإقليمي حيث عيّن شباناً من أشرس الموالين له كحكّام للأقاليم. بدأ بوتين يقترب من العمر الذي مات فيه ستالين، لكنه يبدو في وضعٍ صحي أفضل وسيحصل على وقتٍ أطول لفعل ما يريده. لكن يستطيع بوتين أن يستخلص درساً بالغ الأهمية من تجربة الماضي: كانت مشاعر الكره والخوف تجاه ستالين في سنواته الأخيرة قوية لدرجة أن يمتنع شركاؤه عن مساعدته حين أُصيب بالجلطة الدماغية الأخيرة، خلال الساعات التي كانت تسمح بإنقاذه. حتى أنه مات وحده بعد نزاعه الأخير. يبدو بوتين اليوم أقوى من أي وقت مضى، لكن لا أحد يعرف من سينقذه إذا خسر تلك القوة يوماً.