د. نبيل خليفه

تركيا الممرّ: من كمال أتاتورك إلى رجب طيّب أردوغان

24 تشرين الثاني 2022

02 : 00

تشكّل الجمهورية التركية نقطة محورية في الصراعات الداخلية والاقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط. فهي دولة ذات أهمية جيو- استراتيجية لوقوعها على تقاطع الدول والشعوب بين العوالم العربية والسلافية والأوروبية من جانب، وعلى مفترق الممرات البحرية بين البحر الأسود والبحر المتوسط من جانب آخر، وهذا الواقع يعطيها صفة القدرة على التأثير في أمن دول المنطقة سلباً أم ايجاباً. كما يرسم ملامح التعاطي الدولي معها انطلاقاً من قواعد النظام الدولي. في حين تسعى تركيا للاستفادة من مستلزمات هذا النظام ومدى انسجامه مع مصالح الدولة التركية، أو في السعي لارساء نظام عالمي جديد يكون أكثر افادة لها واكثر تعبيراً، عن طبيعة التحوّلات التي أصابت دول النظام وأسهمت في تعديل وربما تبديل مقتضياته ومنها تحوّل تركيا إلى قوّة اقليمية، أي أن يمتد نفوذها إلى خارج حدودها وهو ما سعت وتسعى إليه تركيا منذ مدة، وهو ما يشكّل محور السياسة التي يقودها ويعمل لها الرئيس اردوغان.

1. من الضروري التذكير بدور مصطفى كمال. وقد أضيفت إلى اسمه اتاتورك أي: أب الأتراك- في كل مقاربة لوضعية تركيا في القرن العشرين. فهذا القائد في حركة تركيا الفتاة، قاتل ضد الايطاليين والبلغار والعرب واليونان والأرمن، وحصل من الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) على اعتراف بحدود تركيا طبقاً لمعاهدة لوزان 1923. بعدها أسقط لقب «سلطان» وألغى الخلافة وأصبح رئيساً للجمهورية التركية التي شاء أن يعمّدها دولة علمانية.

2. من الطبيعي وفي واقع الجمهورية التركية الحالي أن يسعى قادة الجمهورية إلى التشبّه بباني تركيا المعاصرة أي بمصطفى كمال، ومن هؤلاء بالتـأكيد الرئيس الحالي رجب طيب اردوغان. لقد قامت استراتيجية كمال اتاتورك على عمادين أساسيين وثابتين: العقيدة القومية التي تنبع من الإيمان بالقومية التركية والايمان بالدولة العلمانية مع ما في ذلك من مقاربة دينية تضعه في مواجهة مباشرة مع رجال الدين. يضاف إلى ذلك أنّ للمجتمع التركي (الأمّة التركية) والتي تعد في حدود 85 مليوناً (2022) تتألف من 80% من الأتراك و20% من الأكراد أي ما يعادل 17 مليون كردي وهي أقلية ديمغرافية مهمة وخطرة من ناحيتين، الأولى: لنزعتها التاريخية في ايجاد وطن يضمّ الأكراد في كلّ من تركيا والعراق وسوريا ويكاد عددهم يتجاوز الثلاثين مليوناً. ولعلهم الأقلية الوحيدة التي لم يشعر الانتداب الدولي لفرنسا وبريطانيا بضرورة منحها كياناً سياسياً مستقلاً. ويعود ذلك في الغالب إلى كون الأكراد يتواجدون على أراضي ثلاث دول في المنطقة هي: تركيا والعراق وسوريا وهم بالتالي شعب الزاوية المثلثة: أي زاوية خريطة تركيا وخريطة العراق وخريطة سوريا.

أقلّية محاربة

الثانية: إنّها أقلية محاربة بطبيعتها وقد أكسبتها إقامتها في الجبال نزعة التمرّد والحرب فنشأت فيها حركات سياسية وعسكرية من مثل: حزب العمال الكردستاني و«قسد» ووحدات حماية الشعب الكردية.

3. كان التفجير الذي ضرب شارع الاستقلال في اسطنبول نقطة فاصلة في مسار الأوضاع الداخلية التركية. وكان اتهام السلطات التركية لحزب العمال الكردستاني وقسد بالوقوف وراء هذا التفجير بمثابة اعلان واضح على أنّه قد حان الوقت للانتقام للاستقلال (كما قال الناطق باسم الرئاسة ابراهيم قالين، وفي حين تعهد وزير الدفاع التركي فلوحي أقار) بأنّ المعتدين سيدفعون الثمن: وأنّ المكان الذي جاءت منه المرأة المتهمة بحمل القنبلة معروف، لقد جاءت من عفرين إلى اسطنبول وتلقت التعليمات من مسؤول في حزب العمال الكردستاني موجود في عين العرب وأنّ مصدر القنبلة ادلب. هذه هي الرواية التي يطلقها المسؤولون الأتراك حول حادثة شارع الاستقلال وهو ما يسمح لهم بالرد على الاعتداء على الأمن الوطني التركي بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وهو النص الذي يمنح الدولة المعتدى عليها «حق الدفاع المشروع عن أمنها وأراضيها»، كما يمنحها سياسياً القدرة على التصرف في نطاق غض الطرف من جانب أميركا وروسيا.

4. إن مراجعة متأنية لمسار السياسة التي انتهجها وينتهجها الرئيس اردوغان تؤكد ما يلي:

أ) إنّ الرئيس اردوغان ليس من صنف القادة العقائديين القوميين الذين تحتاجهم تركيا في ظروفها الحالية. انّه أقرب لأن يكون رجلاً سياسياً يقدم المصالح على العقائد. ويتعاطى مع الجميع وفق قاعدة المصلحة.

ب) إنّ مراجعة لعلاقاته مع اسرائيل وروسيا وما فيها من تقديمات وتراجعات تؤكد هذا المنحى في المسار السياسي.

ج) إنّ موقفه من المسألة اللييبة يظهر نزعة لخلق قاعدة نفوذ لتركيا في العالم العربي وانطلاقاً من الحدود البحرية بين تركيا وليبيا عبر المتوسط وفقاً لقانون الأمم المتحدة للبحار للعام 1982، وهو القانون الذي بكل أسف، لم توافق عليه تركيا حتى الآن. شأنها شأن اسرائيل وسوريا وايران وهذه الدول الأربع تود أن تستفيد من توسعها البحري على حساب لبنان!

د) لقد اطلقت تركيا عملية عسكرية باسم «المخلب السيف» ضد حزب العمال الكردستاني وقسد في شمال العراق وسوريا ردّاً على تفجير شارع الاستقلال في اسطنبول. وشمل القصف مواقع عدة في ريف حلب وعين العرب والمالكية والحسكة والرقة وأدى إلى مقتل عسكريين ومدنيين.

على مفترق ذي بعدين واضحين

5. يأتي تفجير اسطنبول في مرحلة دقيقة من حياة تركيا السياسية وعلى مفترق ذي بعدين واضحين:

الأول: هو موعد الانتخابات في تركيا. والمعروف أنّ تركيا عادةً ما تشهد أعمال عنف يكون لها تأثير في نتائج الانتخابات، والثابت أنّ الرئيس اردوغان يود الحصول على العدد الكافي من أعضاء مجلس النواب كي يستمر في الحكم. وحادثة اسطنبول تضاعف من أجواء الاحتقان داخل المجتمع التركي وتزيد من النقمة على المعارضة من جانب ومن التأييد والدعم لحزب العدالة والتنمية من جانب آخر.

الثاني: هو الاعلان في الفترة الأخيرة عن محاولة لرسم علاقات جديدة بين أنقرة والنظام السوري مع احتمال لقاء الرئيس اردوغان بالرئيس بشار الأسد. فتكون هذه العملية الارهابية محاولة لمنع مثل هذا الاحتمال نظراً للنتائج السلبية التي ستعقب عملية اسطنبول ولا سيما قيام القوات التركية بشن هجوم عسكري على شمال سوريا. من هنا تسارع حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى نفي علاقتهما بموضوع المتفجرة وبالمرأة التي حملتها إلى اسطنبول وبالجهات التي تقف وراء الحادث!

**

تمرّ تركيا بمرحلة دقيقة وصعبة إذ تواجه العديد من الصعوبات والخيارات في سياستها الداخلية والخارجية على حدّ سواء. فعشية الانتخابات النيابية في تركيا يجد الرئيس اردوغان وحزب العدالة والتنمية ان تركيا مدعوة في الوقت عينه إلى سياسة الانفتاح والتفاهم من جانب وإلى سياسة الانغلاق والمواجهة من جانب آخر. والخيارات التي يتخذها الرئيس اردوغان هي اقرب إلى الخيارات المرحلية وليست نتيجة سياسة مبنية على استراتيجية علمية ذات رؤية مستقبلية وهذا ما يجعلها خيارات مرحلية وخادعة.

(*) باحث في الفكر الجيوسياسي