جان كلود سعادة

إقتصاد "المِغرَفة" بَدلاً من المعرفة

25 تشرين الثاني 2022

02 : 00

في عالم موازٍ لا توجد فيه هذه المنظومة المُمسكة بالبلد كانت لتكون الأمور أفضل وحياة الناس في مكان آخر أسوةً ببلاد كثيرة، قريبة وبعيدة، عرفت كيف تقرأ حركة التطوّرالتكنولوجي وإتجاهات الأسواق واستفادت منها لتبني لها مكانة على الساحة العالميّة فحققت مستقبلاً أفضل لشعوبها. أما نحن، في «جمهورية راية العِزّ» فلدينا المنظومة الشهيرة والعبور من حفرتها إلى عالم أفضل غير متوفّر حالياً.

التوجّه نحو إعتماد التكنولوجيا كقطاع قائم بذاته ويشكّل رافعة ودعم لجميع القطاعات الإقتصاديّة الأخرى ليس أمراً مُستجدّاً، لا بل يُشكّل الحل المثالي للدول التي تُعاني من صغر المساحة ونُدرة الثروات الطبيعية، لكن في المقابل لديها ثروة فكرية وعلميّة وفائض في العنصر البشري الذي يتمتع بدرجة عالية من التعليم والتدريب. لكن إنشغالات الحكومات اللبنانية ووزارات الإقتصاد والتخطيط كانت في مكان آخر غير إختيار نوع الإقتصاد الذي علينا اعتماده وكيفيّة تأمين شروط النجاح له.

فماذا فعل لبنان الرسمي في مجال تطوير إقتصاد المعرفة والتكنولوجيا عدا إضاعة الفرص التي إستفادت منها دول أُخرى؟

مصرف لبنان

في السنوات التي سبقت الانهيار (2014 و 2015 و 2016) قام مصرف لبنان بالتدخل بما لا يعنيه تحت ستار «تنشيط إقتصاد المعرفة»، فأطلق حزمة من الحوافز المالية بقيمة 400 مليون دولار للبنوك في إطار التعميم رقم 331 الصادر في 22 آب 2013 بهدف «تعزيز الاستثمار في الشركات الناشئة». فقدّم مصرف لبنان في إطار هذا التعميم إلى المصارف والمؤسسات المالية فرصة للاستفادة من تسهيلات يقدمها لهم من دون فائدة لفترة تمتد الى سبع سنوات (قابلة للتمديد) شرط المساهمة، على مسؤوليتهم الكاملة، في رأس مال الشركات المبتدئة والحاضنات (incubators) ومسرّعات الأعمال (accelerators)، بهدف دعم إقتصاد المعرفة في لبنان وتطويره واللحاق بالثورة الرقمية في العالم. وفي حين كان مصرف لبنان يضمن 75% من الإستثمارات، تقضي الصفقة بأن تستثمر البنوك والمؤسَّسات المالية ضمن حدود 3% من أموالها الخاصّة في رسملة شركاتٍ ناشئة محلّية، بشكلٍ مباشر أو من خلال صناديق تمويل. مرّة أخرى تم إستعمال ودائع اللبنانيين من دون علمهم في مشاريع لا تمُتّ إلى دور المصرف المركزي بصلة ولو أنها خلقت بعض النقاش المفيد في حينها ورفعت مستوى الإهتمام بهذا القطاع. في المقابل كانت الإستفادة الأكيدة من نصيب بعض المصرفيين والمقربين وطبعاً كانت هناك حصّة «للمستشارة التنفيذية الممتازة» وشركتها والشركات العاملة معها، في تنفيذ هذه البرامج وتنظيم المعارض والمؤتمرات مع ما يتأتى عن ذلك من منافع مختلفة.

خطة «ماكنزي»


تبع ذلك في 2017 توكيل شركة «ماكنزي» أو فرعها المحلّي بالقيام بدراسة وتوصيات بهدف وضع «رؤية لبنان الإقتصادية» والتي عمليّاً لم يتم الإستفادة منها بشيء يذكر، قبل بدء رحلة السقوط إلى جهنم تحت تأثير ثقل خسائر مصرف لبنان ومغامرات المصارف وعجز الدولة الغارقة في الفساد. وقد وضعت خطة «ماكنزي» قطاع التكنولوجيا وإقتصاد المعرفة بين القطاعات التي يجب التركيز عليها، رغم أنها اعتبرت «لبنان متأخراً عن كافة دول الشرق الأوسط الأخرى في مجال الرقمنة».

واعتبرت خطة «ماكنزي» أن أبرزالتحديات في وجه تطوّر هذا القطاع هي «التوافر المحدود للمواهب في المجال الرقمي والإفتقار إلى المتطلبات التنظيمية الرئيسية». فمن ناحية توافر المواهب المطلوبة لنمو القطاع الرقمي، رأت الدراسة أنه بالرغم من وجود قاعدة مواهب قوية في لبنان، تعتبر الشركات الناشئة المحلية أن الوصول إلى هذه المواهب من بين أبرز الصعوبات التي تواجهها. كما يعتبر أصحاب المشاريع الإقليميون أن لبنان هو المصدر الأول للمواهب في مجال الإبتكار والتسويق، لكنه متأخر عن غيره من حيث المهارات الفنية الأساسيّة.

هذا وقد رأت الدراسة أن هذا القطاع يعاني من تدني مستوى الأنظمة مثل القوانين المرعية لتأسيس الشركات والتداول بأسهمها. وذكرت أن هناك عقبات أمام إيجاد الأفكار الجديدة لبناء الشركات الناشئة وذلك لضعف الإنفاق على البحث والتطوير وانخفاض عدد براءات الاختراع وصعوبة ممارسة الأعمال في لبنان، كما شددت على أهميّة تسهيل الوصول الى الأسواق العالميّة. ومن العقبات الأخرى التي تُضعف قدرة لبنان التنافسيّة في مجال التكنولوجيا وإقتصاد المعرفة: القوانين القديمة، عدم وجود تشريعات مناسبة، وجود حكومة غير فعالة في صياغة التشريعات وإقرارها، وإرتفاع التكلفة المرتبطة بإجراءات ممارسة الأعمال التجارية في ظل تعدد الجهات المعنية وإنتشار الفساد الحكومي.

وخلصت الدراسة إلى الإشارة إلى ضرورة تحسين بيئة الأعمال من خلال تخفيض تكلفة ممارسة الأعمال ومكافحة الفساد في القطاع العام، وبالتالي رفع مستويات قدرة لبنان التنافسية.

هنالك إمكانية وحاجة لتحويل لبنان إلى بلد رائد إقليمياً وعالميّاً في مجال التكنولوجيا عموماً وتطبيقاتها في كافّة المجالات من التكنولوجيات المالية والإبداعية إلى التعليمية والصحية والزراعية والنقل والطاقة النظيفة والمُتجددة، واعتماد التكنولوجيا بشكل واسع في القطاعات الإقتصادية كافةً، إضافةً إلى إعتماد الخدمات الحكومية الرقمية وما يرافق ذلك من تسهيل للمعاملات ومكافحة للفساد الإداري. فلبنان لديه مجموعة من القدرات التفاضليّة التي يمكن تطويرها والبناء عليها للوصول إلى مكانة مُتقدّمة في مجال التكنولوجيا وإقتصاد المعرفة ليس أقلها القدرات العلمية والأكاديميّة والمواهب اللبنانية المقيمة والمنتشرة.

كما أن توفير الظروف لجعل لبنان مركزاً إقليمياً وعالميّاً موثوقاً في مجال التكنولوجيا سيجذب الشركات المتعددة الجنسيات مع ما يرافقها من فرص عمل وإستثمار وتطوير منتجات وشركات ذات قيمة مرتفعة، عدا تأثير ذلك على بناء الثقة والسمعة الإيجابية للبلد وقطاعاته كافة. لا ننسى ضرورة العمل لتخطّي العوائق أمام تطوير هذا القطاع مثل تطوير خدمات الكهرباء والإتصالات وضرورة تحديث التشريعات المرافقة لممارسة الأعمال.

إن إقتصاد المعرفة يمكنه أن يكون الرافعة الإقتصادية الضرورية في هذه المرحلة لسد عجز الميزان التجاري، عبر تصدير خدمات البرمجة والتكنولوجيا وتطوير الشركات الناشئة التي يمكن أن يتم في مرحلة لاحقة الإستحواذ عليها من قبل مستثمرين أو شركات التكنولوجيا العالمية المعروفة، بأسعار تفوق بأضعاف أيّة أرقام يتم تداولها عن قروض صندوق النقد أو جهات أخرى، وهذا يؤمن دخول كميّات كبيرة من الدولارات إلى البلد ويؤدي إلى هجرة عكسيّة للمواهب تُساهم في إعادة الثقة إلى البلد.

المرض اللبناني

كالعادة، الموهبة اللبنانية في تدمير الذات والتلهي بالمشاكل السخيفة جعلتنا نتأخر عن التطور التكنولوجي الذي وصلت إليه بعض الدول العربية أو الدول المجاورة في مجال إقتصاد المعرفة والتكنولوجيا. فعوض البحث عن الفرص المتاحة للتقدّم والتركيز على تطوير قطاعات مثل إقتصاد المعرفة كان تركيز الكارتيل الحاكم على «إقتصاد المِغرفَة»، فغرفوا من المال العام من دون حسيب أو رقيب ثم عمدوا إلى سرقة مدخرات اللبنانيين وتبديدها فكان النزول إلى جهنم هو النتيجة الحتمية لإبداعات هذا الكارتيل. فبينما تجتهد حكومات العالم في تطوير إقتصاداتها وتنويع مصادر دخلها بهدف تحسين حياة شعوبها؛ تمكنت الدولة اللبنانية من أن تدخل التاريخ كأوّل دولة تسرق شعبها وهي تحاول الآن إستكمال عملية السرقة عبر تشريعها بقوانين.

@JeanClaudeSaade

(*)خبير متقاعد في التواصل الاستراتيجي


MISS 3