توفيق شمبور

إجراءات متأخرة ومنقوصة وخاطئة وحتى غير قانونية وغير دستورية

لم يكتفوا بتسبّبهم بالأزمة بل فاقموا أضرارها بعد اندلاعها

28 تشرين الثاني 2022

02 : 00

بري وسلامة... والأزمة بينهما

الازمة المالية اللبنانية ما كانت لتتفاقم وتبلغ المدى المأسوي الذي بلغته لو تمت معالجة الامور كما يجب عند اندلاع شرارتها الاولى، باجراءات تحول دون استفحال مآسيها ما يرتب عند تحديد المسؤوليات التفريق بين الارتكابات التي أدت الى الازمة وتلك التي فاقمتها!

حكومة طالبان اعتمدت الكابيتال كونترول في اليوم العاشر من استلامها السلطة، وروسيا واوكرانيا اعتمدتاه خلال الاسبوع الاول من غزو الاولى للثانية، وقبل ذلك بعدة سنوات فعلت ذات الامر اليونان عند توقف المصرف المركزي الاوروبي عن مدها بالمزيد من المساعدات والتسهيلات. وقبل اكثر من عقد فعلت ذات الشيء السلطات في ايسلندا عند انفجار ازمتها عام 2008، واضافت الى تحديد السقوفات العليا للسحوبات والتحويل للخارج اجراءات اخرى مثل رفع السرية المصرفية كلياً لتسهيل التحقيقين النيابي والقضائي في اسباب الازمة لتحديد المسؤوليات والمرتكبين والمقصرين وملاحقتهم، وتم تعيين مديرين موقتين لكل مصرف متعسر: الاول للاشراف على تسيير امور المودعين بدون اي استنسابية، والثاني للتواصل مع دائني المصرف وكبار مودعيه للسعي الى اتفاقات حبية معهم لاجتياز مرحلة الازمة.

إجراءات التحوط من تفاقم الازمات ليست بالامر الجديد فقد اعتمدتها العديد من الدول منذ فجر القرن الماضي، اكثرها تكاملاً لائحة الرئيس الفرنسي Paul Reynaud التي وضعها في بداية الاربعينات الماضية في الاسابيع الاولى من الازمة النقدية والمصرفية التي عصفت ببلاده، وتضمنت الى جانب تقييد السحوبات وتحويلات العملات والذهب الى الخارج قيوداً اخرى تتعلق بتحديد سعر الصرف وضبط عمليات الاستيراد والتصدير وغيرها... وقد بدأ كلمته الشهيرة عند اعلانه لائحة قيوده بالقول «ان التشريعات التي خدمت بلادنا ايام البحبوحة لا تصلح ابداً لادارة ازمتنا، فهذه تتطلب تشريعات تقييدية مغايرة، وحسن الالتزام والتقيد بها سيقصران المدة للعودة الى الظروف الطبيعية....».

حاكم مصرف لبنان: لا هيركات ولا "كابيتال كونترول"

الاجراءات والقرارات التي اعتمدت وصدرت للتعاطي مع الازمة والحد من تفاقمها جاءت متأخرة ومنقوصة وخاطئة وحتى غير قانونية وغير دستورية ـ وهي بهذا التوصيف ترتب مسؤوليات قانونية متنوعة على المعنيين بها.

اول رد فعل على انطلاقة 17 تشرين الأول اتى من المصارف فقد اقفلت الاخيرة ابوابها لعشرة ايام قامت خلالها باجراء تحويلات مالية كثيفة للخارج لصالح العديد من النافذين والمحظيين سياسياً وادارياً ودينياً ومصرفياً وغيره...

واول تحرك من المسؤولين كان بعد حوالى الثلاثة اسابيع مساء 10 تشرين الثاني 2019 باجتماع عُقد في قصر بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون وحضور حاكم مصرف لبنان، ووزيري المال والاقتصاد علي حسن خليل ومنصور بطيش، ورئيس جمعية المصارف والمستشار سليم جريصاتي. لم يخرج المجتمعون منه باي قرار صريح بخصوص الكابيتال كونترول.

في اليوم التالي للاجتماع عقد الحاكم مؤتمراً صحافياً في قاعة المحاضرات في الطابق السابع من مبنى مصرف لبنان اكد فيه حرفياً وبحزم الامور التالية:

• «لا هيركات haircut اي لا اقتطاع من الودائع ابداً».

• «لا كابيتال كونترول capital control فهذا الأمر غير وارد لأن لا صلاحية لمصرف لبنان بالقيام بذلك وهو لا يريده أصلاً».

• «ان مصرف لبنان عرض على المصارف الاستدانة منه بفائدة 20% لتأمين حاجاتها من السيولة بالدولار، من دون إمكانية تحويل هذه الأموال إلى الخارج باستثناء الضروريات فقط «.

• «ان القدرة النقدية لمصرف لبنان هي بحدود 30 مليار دولار».

في 17-11-2019 اي بعد اسبوع واحد من مؤتمر الحاكم اصدرت جمعية مصارف لبنان بياناً متمايزاً ذكرت فيه ان مجلس إدارتها عقد اجتماعاً اقر فيه، بعد التشاور مع مصرف لبنان، عدداً من التدابير المصرفية الموقتة التي تتطلبها الأوضاع الإستثنائية التي تمر بها البلاد حرصاً على مصالح العملاء اهمها حصر التحويلات الى الخارج بالنفقات الشخصيّة الملحّة وتحديد المبالغ النقدية الممكن سحبها أسبوعياً لأصحاب الحسابات الجارية بالدولار.

سلامة لوزير المالية: مطلوب إجراءات إستثنائية

بعد حوالى الثلاثة اسابيع بالتحديد بتاريخ 9 كانون الثاني 2020 وجّه حاكم مصرف لبنان إلى وزير المالية كتاباً عنونه: «طلب اتخاذ اجراءات استثنائية» ذكر فيه «ان الظروف الاستثنائية حملت المصارف على اتخاذ عدد من التدابير المؤقتة منها فرض قيود على التحاويل المصرفية الى الخارج وعلى سحب الاوراق النقدية، لكن التطبيق اقترن بمقاربة غير متساوية بين العملاء، كما ان النصوص القانونية المرعية الاجراء لا تولي مصرف لبنان صلاحية تنظيم او تعديل هذا النوع من الاجراءات الاستثنائية، لذا نطلب من دولتكم السعي لاتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة من قبل السلطة ذات الصلاحية لتكليف مصرف لبنان بالصلاحيات الاستثنائية اللازمة لاصدار الانظمة المتعلقة بمعالجة الاوضاع المشار اليها».

برّي كان ضد الـ"كابيتال كونترول" ويترحّم على الهيركات

الجواب اتى من جانب اوساط الرئيس نبيه بري الذي هو مرجعية وزير المال على حد زعم الوزير غازي وزني فقد ذكرت هذه الاوساط:

• انّ ما يُشاع ويُذاع حول ضرورة قوننة «الكابيتال كونترول» هو امر يهدف الى الحاق الضرر بالمودعين ولا سيما اصحاب الودائع بالدولار.

• إنّ المادة 174 من قانون النقد والتسليف تخوّل الحاكم الزام المصارف بتنظيم المعاملات مع المودعين، موقف اكد عليه وزير الثقافة والزراعة المحسوب على حركة امل، السيد عباس مرتضى في اجتماع لحكومة الرئيس حسان دياب اذ قال «وفق المادة 174 من قانون النقد والتسليف فإنّ هذا الامر هو من صلاحيات الحاكم، لماذا نتحمّله نحن كحكومة ونشرّع مخالفات للمصارف؟».

• انّ رئيس المجلس سبق واكّد خلال احد الاجتماعات الرئاسية في بعبدا انّ «الكابيتال كونترول» لا يمكن ان يُقونن، فهو مخالف للدستور، والنص على ذلك واضح في مقدمته التي تنص في الفقرة (و)، على انّ «النظام الاقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة». والامر نفسه يتعلّق بما يُسمّى «الهيركات» فهذا الامر «ما بيمشي» حتى بتعديل دستوري، والنص حوله وارد في مقدمة الدستور الفقرة (ز).

التوجهات السابقة اكدها الرئيس بري شخصياً اذ دعا في 14 نيسان 2020 بعد اكثر من شهر من اعلان لبنان في 7 آذار 2020 عن توقفه عن دفع استحقاق Eurobonds الى قراءة الفاتحة والترحم على «الهيركات» كما تم الترحم على «الكابيتال كونترول» مؤكداً ومردداً مرة اخرى «عدم المس بأموال المودعين التي هي قدس الاقداس».

الاجواء السياسية هذه دفعت الحاكم الى الاستدارة 180 درجة والبدء باصدار سلسلة تعاميم في منتهى الخطورة تناقض كلياً وبشكل واضح (1) القانون و(2) ما سبق ان جزم به قبل ستة اشهر في 11 تشرين الثاني 2019 في مؤتمره الصحافي من ان لا «هيركات» ابداً وان لا «كابيتال كونترول» فهذا الأمر غير وارد لأن لا صلاحية لمصرف لبنان بالقيام بذلك !!!وهو لا يريده أصلاً !!!.

التعميم الأول

هو التعميم الاساسي رقم 150 تاريخ 9 نيسان 2020 الذي قضى باعفاء المصارف من اي توظيف الزامي لدى مصرف لبنان عن الودائع بالعملات الاجنبية التي تتلقاها بعد 9 نيسان 2020، شرط منح اصحابها حرية استعمالها بكافة الخدمات المصرفية بما في ذلك التحويل الى الخارج على ان تحفظ هذه الاموال لدى المصرف او لدى مصرف مراسل في حساب حر غير مقيد بأي التزامات.

التعميم المذكور منتقد للأسباب التالية:

• انه يقيم عملياً «منطقة مصرفية حرة» لدى المصارف خاصة باصحاب الودائع الجديدة بالعملات الاجنبية ما بعد 9 نيسان 2020. وهذا الامر غير ممكن بقرار اداري بل يتطلب قانوناً خاصاً على غرار ما حصل بالقانون المحال الى مجلس النواب بالمرسوم 8083 تاريخ 29 ايار 1974 والذي انشأ «منطقة مصرفية حرة» خاصة بودائع غير المقيمين بالعملات الاجنبية، واعفيت بمقتضاه المصارف من تكوين الاحتياطي الالزامي على هذه الودائع.

• انه يقضي كلياً على فكرة اعادة تكوين الودائع بالعملات الاجنبية التي اشار الحاكم اليها في مقابلة تلفزيونية في شهر آب 2021 لتطمين المودعين على ودائعهم، بعد ان كان يعلن قبل هذه المقابلة ان الودائع بخير وهي موجودة لدى المصارف؟!

• انه يعتبر ضربة حاسمة للقطاع المصرفي سنداً لكتابات Diamond و Dybvig، حيث ذكر فيها الاخيران ان استمرار استقبال المصارف للودائع الجديدة هو الاداة التي تعالج من خلالها الهشاشة في سيولتها المتأتية من عدم تطابق آجال الودائع والقروض. وقد اتى التعميم 150 ليقضي على هذه الامكانية بقطع السبيل امام استعمال الودائع الجديدة بالعملات الاجنبية ولو بجزء منها لتوفير السيولة للحسابات القائمة قبل 9 نيسان 2020.

التعميم الثاني

هو التعميم الاساسي رقم 151 تاريخ 21 نيسان 2020 وعنوانه «اجراءات استثنائية حول السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الاجنبية».

التعميم المذكور منتقد ايضاً للاسباب التالية:

• مخالفته لنص قانوني اعلى مرتبة منه في القوة القانونية وهو نص المادة 307 من قانون التجارة الذي يلزم المصرف باعادة الوديعة لصاحبها بقيمة تعادلها عند الاستحقاق.

• تناقضه الصريح مع ما سبق للحاكم ان ادلى به في 11 تشرين الثاني 2019 من ان لا «هيركات» ابداً وان لا صلاحية لمصرف لبنان بفرض الـ «كابيتال كونترول».

• تناقضه الواضح مع شروحات الاسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف التي تذكر ان المودع يسترد ماله من المصرف تماما كما «لو انه يسترده من صندوقه الخاص» فالتعميم يقيد سحوبات المودعين ويفرض عليهم «هيركات» تبلغ قيمتها حالياً نسبة 80% من قيمة المبلغ المسحوب ليتم استخدام المتحصلات من عمليات «الهيركات» في اطفاء خسائر المصارف وخسائر مصرف لبنان على السواء. ما يعتبر بتفسير معين «اثراء غير مشروع» enrichissement illicite يعاقب عليه القانون الجزائي وبتفسير آخر «اثراء بلا سبب» enrichissement sans cause بامكان المتضررين منه مطالبة مسببيه بالتعويض المادي عن الضرر وهو على كل حال تجاوز فاضح لحد السلطة.

التعميم الثالث

هو التعميم الاساسي 154 تاريخ 27 آب 2020 وذكر في عنوانه انه «لاعادة تفعيل عمل المصارف العاملة في لبنان». وقد تضمن مطالبة الاخيرة بالتالي:

(أ‌) بالامتثال بشكل متدرج بنسب السيولة والملاءة على ان يتم التقيد بالقوانين خلال الفصل الاول من العام 2021 ومن يخالف او يتقاعس عن ذلك يحال على الهيئة المصرفية العليا عملاً بالمادة 208 لاتخاذ العقوبات الادارية.

(ب‌) باعادة تفعيل نشاطاتها وخدماتها بما لا يقل عما كانت عليه قبل تشرين الاول 2019.

(ج) بـ «حث» عملائها الذين قاموا بتحويل يفوق الـ 500 الف دولار ابتداء من 1تموز 2017 ان يودعوا في حساب خاص مجمد مقابل فوائد لمدة خمس سنوات مبلغاً يوازي 15% من القيمة المحولة وتزويد كل منهم بافادة خطية تؤكد استعادته وديعته مهما كانت الظروف عند حلول الاجل المتفق عليه.

اما رؤساء واعضاء مجالس الادارة وكبار مساهمي المصارف والادارات العليا التنفيذية لديها وعملاء المصارف من الاشخاص المعرضين سياسياً مباشرة او غير مباشرة اي الـ PEPs فيقتضي حثهم على اعادة نسبة 30% بدلاً من 15%.

التعليق على التعميم المذكور هو كالتالي:

• ان مطالبته المصارف باعادة تكوين متدرج لمراكز سيولتها غير ممكن عمليا الا من غير مواردها التقليدية اي من غير الودائع الجديدة بالعملات الاجنبية بسبب المزايا التي يوفرها التعميم 150 لهذه الودائع في المنطقة المصرفية الحرة، وقد اعطيت المصارف مهلة لتنفيذ موجب السيولة آخرها نهاية الفصل الاول من العام السابق 2021. وقد انقضت هذه المهلة دون تحقق المطلوب، بدليل عدم حصول انفراجات ملحوظة بالاستجابة لطلبات المودعين بالتصرف بودائعهم. كما مرت سنتان على مطالبة المصارف باعادة تفعيل نشاطاتها وخدماتها بما لا يقل عما كانت عليه قبل تشرين الاول 2019 ولم يتحقق المطلوب. لا بل العكس اتسعت دائرة المخالفات المصرفية ولم تتحرك الهيئة المصرفية العليا الا مؤخرا فعينت مديرين مؤقتين لمصرفين ذكر انهما لم يلتزما بتعاميم مصرف لبنان.

• ان مطالبته المصارف بـ»حث» اشخاص محددين من الذين قاموا بتحويل اموالهم الى الخارج باعادة نسبة منها الى المنطقة المصرفية الحرة هو امر مثير وملتبس.

فتوصيف التحويلات للخارج هو واحد من امرين: اما انها تصرف قانوني، وبالتالي لا ضرورة ولا نفع للـ «الحث» لاعادة التحويلات او جزء منها الى لبنان فهي تمت حسب شروحات المؤيدين لها وفقا للدستور الذي يحمي حسب الرئيس بري الحرية الفردية والملكية. واما انها تصرف غير مباح لانها من قبيل «التعسف باستعمال الحق» abus de droit المسبب لاضرار جسيمة لا بل كارثية للمجتمع، وهو كذلك بالحقيقة حسب شروحات البروفسور Bernanke عن مسببات تحول ازمة عام 1929 الى كساد خلف المآسي لعشر سنوات.

ومصرف لبنان برجوعه في التعميم 154 الى العام 2017 يعني انه كان يعلم ان بذور الازمة تعود بالحقيقة الى هذا التاريخ. ومع ذلك فان موقفه كان عند اندلاعها في شهر تشرين الاول 2019 ملتبساً، اذ ترك المصارف تجري خلال الستة اشهر التالية التحويلات للمحظيين باحجام فاقت باقل تقدير اربع مرات ما يطلبه لبنان حالياً من مساعدة من صندوق النقد الدولي. وحجته كانت تلك التي يرددها مؤيدو هذه التحويلات من انها تتم وفقا للدستور والقانون اللذين يحميان الحرية الاقتصادية وانه لا ضرورة لاي «كابيتال كونترول» ليعود، اي مصرف لبنان، ويغير موقفه هذا 360 درجة ويبدأ سندا للمادة 174 نقد وتسليف باصدار التعاميم والتعليمات التي تقيد سحوبات وعمليات غير المحظيين الذين لم يتمكنوا من تحويل اموالهم وهم الغالبية العظمى من المودعين كما بربط اجرائها بعمليات «هيركات» في منتهى القساوة.

التعميم الرابع

هو التعميم الاساسي رقم 158 تاريخ 8 حزيران 2021 المتعلق بـ «التسديد التدريجي للودائع بالعملات الاجنبية للحسابات المفتوحة قبل 31 تشرين الاول 2019 « وفحواه الزام المصارف بدفع مبلغ شهري للمودع يبلغ 800 دولار نصفه بالدولار نقداً ونصفه بالليرات اللبنانية بسعر صرف 12000 ل ل للدولار اي بـ «هيركات» تفوق قيمته حاليا نسبة الـ 66% من قيمة المبلغ المدفوع.

التعليق على التعميم المذكور هو ذات ما سبق عرضه بالنسبة للتعميم 151 ويزاد عليه تظهيره بشكل اكثر جلاء ووضوحاً الانحراف والتجاوز في تفسير المادة 174 التي استند اليها التعميمان. فهذه المادة تشير الى شروحات الاسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف لها بانها تضع قواعد عامة لعمل المصارف تماماً كما هو الامر في قواعد السير على الطرقات ولا ترمي ابداً حسب النص الحرفي لهذه الشروحات الى التدخل بتفصيلات العمليات وادارتها وهذا ما فعله التعميمان 151 و 158 لكن الاخير بشكل فاضح جداً في صفحات بلغ عددها الـ 11 ما يمكن تكييفه بالتأكيد بالتجاوز الفاقع لحدود السلطة abus du pouvoir ( يمكن الاطلاع على المزيد من التفاصيل بخصوص انحرافات التعميمين 151 و158 في ما ورد في مقال لنا نشر في «نداء الوطن» تحت عنوان «الليلرة» و»الهيركات» لتذويب الودائع واطفاء الخسائر» في21 اذار 2022).


الحكومة والمجلس النيابي

التأرجح والتخبط والتجاذب والاستدارة بالمواقف 180 درجة لدى القيمين على القطاع المصرفي، كان ايضاً السمة الطاغية على الاداءين الحكومي والتشريعي وقد تظهرت بشكل واضح في موضوع الـ «كابيتال كونترول». فحكومة الرئيس حسان دياب التي يفترض انها اتت باخصائيين استجابة لانتفاضة تشرين الاول 2019 وبدعم اساسي من «حزب الله» شهدت اول تعارض وتصادم بين مؤيدي مشروع وزير المال غازي وزني ومؤيدي مشروع وزير الاقتصاد والتجارة راؤول نعمه الذي أعدّه بالتنسيق مع وزيرة العدل ورئيس الحكومة وجمعية المصارف، وقد تفجر الخلاف في جلسة مجلس الوزراء تاريخ 24 آذار 2020 عندما اعلن الاول سحب مشروعه بتوجيه من الرئيس بري الذي بادر الى اسقاط صفة العجلة عن مشروع القانون في 28 أيار 2020 بحجّة أن صندوق النقد الدولي قدّم لوزير المال ملاحظات عدة عليه.

لاحقاً اطاحت الكتل النيابية في جلستها في منتصف نيسان بمشروع القانون الذي اقرته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في جلسة 1 نيسان 2022، بحجة أنه يجب أن يكون من ضمن خطة مالية عامة تعدها الحكومة وتتضمن قوانين للتعافي المالي وإعادة هيكلة المصارف وتوحيد سعر الصرف وهو امرغيرعلمي. والحقيقة ان الربط كان بحسابات انتخابية اذ حصل ترويج سياسي من العديد من المرشحين لمساوئ المشروع بأنه سيحرم المودعين من أموالهم.

مؤخراً دبت رغبة في استعادة النقاش بمشروع قانون «الكابيتال كونترول». اذ اخذ نائب رئيس المجلس السيد الياس بو صعب المبادرة ووجه بتاريخ 26 آب كتاباً إلى النواب نيابة عن الرئيس بري، صاحب الدعوة الى الترحم على الـ «كابيتال كونترول»، اودعهم فيه تعديلات مقترحة من خبراء واكاديميين على مشروع القانون الذي كانت أرسلته حكومة الرئيس ميقاتي قبل الانتخابات النيابية في نيسان 2022.

مشاريع قوانين الـ"»كابيتال كونترول"»

القواسم المشتركة في جميع مشاريع قوانين الـ»كابيتال كونترول» هي تثبيت وترداد ما سبق لمصرف لبنان ان قرره في تعاميمه واهمها (1) تحديد سقف شهري للسحوبات النقدية من الحسابات بالدولار من دون البت لتاريخه بصورة قاطعة بمقدار ما سيدفع بالدولار وما سيدفع بالليرة وعلى اي سعر صرف و(2) التفريق بين الحسابات الجديدة والحسابات القديمة القائمة قبل 31 تشرين الاول 2019 بحيث تسري تقييدات الـ»كابيتال كونترول» على الاخيرة فقط وهو امر يقطع الطريق كما سبقت الاشارة امام اعادة تكوين الودائع حسب كتابات Diamond و Dybvig.

اضافة الى ذلك يجافي التفريق بين حسابات قديمة وجديدة مع اعتماد الـ»كابيتال كونترول» المنطق السليم الذي يتساءل عن جدوى الاخير مع تهريب وانسياب الجزء الاكبر من رؤوس الاموال الى الخارج. لقد وعى قادة متنورون كالبروفسور Hjalmar Schacht حاكم الـ ReichsBank الالماني ورئيس الوزراء الفرنسي Paul Reynaud هذا الامر منذ تسلمهما السلطة فاطلقا في اول قراراتهما عمليات استعادة رؤوس اموال مواطنيهما من الخارج rapatriement des capitaux بالتزامن مع اقرار قانون الـ»كابيتال كونترول» تحت طائلة عقوبات قاسية على المتخلفين تترواح بين فرض الغرامات الباهظة ومصادرة الحسابات في بعض الحالات. فكان لهذا الامر افضل الانعكاسات الايجابية على سعر الصرف واعادة اطلاق الدورة المصرفية والاقتصادية سريعاً في بلديهما.

والمثير ان غالبية اعضاء المجلس النيابي قد استبقت تفاقم الامور وقامت عشية انتفاضة ت1 2019 بتحويل اموالها الى الخارج وهي ستكون صاحبة الكلمة الفصل عند التصويت على الـ»كابيتال كونترول» بحيث تضمن ان يأتي حافظاً لامتيازاتها. وهذا الامر سيكون من ضمن الحجج التي يمكن الاستناد اليها عند الطعن به امام المجلس الدستوري على اساس وجود تضارب في المصالح ما يعتبر انتهاكاً للادبيات Déontologie التي ترتقي الى مستوى المبادئ الدستورية التي يجب مراعاتها عند التشريع. وقوانين عدد من المجالس النيابية تلحظ راهناً هذا الامر بشكل صريح كالــ fiche de synthese رقم 16 الصادرة عن الجمعية الوطنية الفرنسية والمادة 8 من «القانون الخاص بتضارب المصالح في ما خص النواب الكنديين» وغيرهما.....

صحيح ان القوانين اللبنانية الخاصة بحماية كاشفي الفساد والذمة المالية والمصالح ومعاقبة الاثراء غير المشروع تدرج «الشخص الذي يشغل منصباً تشريعياً» ضمن دائرة احكامها، الا ان اثبات فساد النائب بتصويته لصالح قانون «كابيتال كونترول» يحمي مصالحه وتحويلاته للخارج يقع على عاتق المدعي وتعتريه صعوبات خصوصاً ان القانون اللبناني لا يلزم النائب بنشر تفاصيل ذمته ومصالحه المالية علناً على شبكة الانترنت كما هو الامر في العديد من الدول الاوروبية بل يبقيها سرية لدى المرجع الحافظ لها.

والمادة الاكثر جدلاً في مشاريع قانون الـ «كابيتال كونترول» هي المادة رقم 12 التي تقضي بتطبيق القيود التي تنص عليها على جميع الإجراءات والدعاوى المقدّمة بتاريخ سابق أو التي ستقدّم في وجه المصارف مهما كانت طبيعتها أو مكان تقديمها أو نوعها أو درجاتها، وهذا التوجه في منتهى الخطورة. فهو (1) يعني اعلان براءة ذمة صريحة للمصارف عن جميع الانحرافات التي مارستها بحق المودعين فتطوى بذلك صفحة ارتكاباتها المالية التي حصلت عن طريق تقويض مرجعيّة القضاء و(2) يقدم للمجتمع الدولي خصوصاً لصندوق النقد الدولي صورة سيئة لكن واقعية عن كيف يمارس التشريع في لبنان لحماية مصالح قوى سياسية - مصرفية نافذة. ففي التعديلات الاخيرة لقانون السرية المصرفية تشددت هذه القوى بعدم انفاذ التعديلات بأثر رجعي لعدم كشف الاسرار عن انحرافات مرحلة اندلاع الازمة وما سبقها، وفي مشاريع قانون الـ»كابيتال كونترول» تجهد هذه القوى على اعمال القانون لكن بالعكس بأثر رجعي ولذات السبب وهو طي صفحة ارتكاباتها.


(*) استاذ محاضر في قوانين النقد والمصارف المركزية