شربل داغر

زياد الرحباني المفرد

28 تشرين الثاني 2022

02 : 01

الحلقة التي خصصتها قناة «ام تي في» (mtv) لزياد الرحباني في برنامجها: «صارو مية»، كشفتْ بعض ما لم يكن معروفاً في إنتاجه، لي على الأقل. هذا ما بان لي في أعماله الخاصة بالتراتيل الدينية المسيحية...

كما اتاحت الحلقة، لمن يهواه الأمر، مثلي ايضاً، أن يلقي نظرة ممتدة إلى العلاقات المعقدة والخصبة بينه وبين عائلته الرحبانية، وبين شخصه وفنه.

تعرفت إلى زياد لأول مرة في ربيع العام 1975، أثناء إعداد وتقديم برنامج اذاعي مع جان شمعون: كان يكفي أن يجلس ويشرع في العزف على البيانو في أحد استديوات الإذاعة اللبنانية، لكي اراه مخطوفاً، بعيدا عني في عالم غامض، فيما تألف أصابعه النقر فوق نوافذ ذلك العالم بإلفة مدهشة.

كنتُ قد شاهدتُ عمله المسرحي الممتع، «نزل السرور»، قبل شهور، في حفل الافتتاح، وكتبتُ فيه (جريدة «السفير») أولى مقالاتي الصحافية المطولة.

زياد كائن مفرد، إذ خرج من عائلته وعليها، على الرغم من الانشدادات والانقطاعات بينه وبينها.

مفردٌ في ما صنعَه، حتى إن البعض أطلق عليه القاباً صعبة التصور، مثل: قارئ الغيب، والعبقري، وغيرها الكثير. هو لم يكن هذا أو ذاك، بل كان قريباً من أحوال الناس، وواقعي النظرة إليهم، لا سيما في التفكك والنزاع الأهليين في الاجتماع اللبناني.

فقد تطلع إلى أن يكون فرداً في بنية عائلية مجتمعية تقليدية، راسخة التكوين، وصعبة التفكك.

كما عمل من أجل أن يكون مفرداً في فنه، وهو ما لم تتوافر له شروط امكانه كلها. هذا ما استوقفني في أغنياته، حيث بدا لي، مثل غيري، أن صوت الراحل جوزيف صقر كان الأنسب له. كما بدا لي ان صوت لطيفة التونسية يتناغم مع ما لحنه. وفق ذات التفسير، وجدت أن أغنياته لفيروز قد تُجدد سجلها الغنائي، لكنها لا تناسب اداءها، الجامد والطهراني.

بل يمكن القول إن زياد كان اقرب إلى ملحن ومغن في الوقت عينه، من دون أن يكون صوته مناسبا وموافقا. هو (بمعنى من المعاني) مثل المؤلف الباحث عن شخصياته... هذا ما يتأكد اكثر، إذ ننتبه إلى اغنياته، لا إلى مغنيها بالضرورة.

وهو ما يمكن قوله بقوة أكبر في كلمات اغنياته، حيث لا يكفي القول إنها عامية، وإنها غريبة، أو ذات تركيب شعري. فقد وجدتُ، كما كتبتُ قبل سنوات بعيدة، أن لغته الغنائية تقوم على «تركيب»، لا على استعمال دارج للعامية. اعرف منه انه كان ينتقل، قبل اكثر من اربعة عقود الى مقاهٍ، الى مجالس، بصحبة آلة التسجيل الصغيرة، لتسجيل جمل وتراكيب و»نتف» حوارية بعينها. إلا انه لا يوردها مثلما سمعَها، بل يستعملها ويوظفها بقدر واسع من الحذاقة والتفنن. كان يتأبى، على سبيل المثال، لغة الرقة المائعة، او «الحوربة»، او النبر الزجلي، وبلادة المعاني، كما نجدها في كثير من الغناء اللبناني بالعامية. هذا ما يوحي بأنها لغة بسيطة، فيما هي «مشغولة»، حتى إننا نستصعب حفظها إلا في ما ندر.

لزياد الرحباني مكانة فريدة ومفردة، أبعد من لبنان. كما نجح في استيلاد جمهور له أشد ارتباطاً بالغناء، باغنياته حصراً، من جمهوره السياسي. 


MISS 3