البروفسور أنطونيوس أبو كسم

المهجّرون السوريون في لبنان وفَرضُ عقدٍ إجتماعيٍ مناقضٍ للطائف

28 تشرين الثاني 2022

02 : 00

مرّ أكثر من أحد عشر عاماً على التواجد الطارئ والمضطرد للمهجرين السوريين، حتّى تعدّى عددهم المليونين ونصف المليون، في بلدٍ مواطنوه الأصليّون المقيمون حالياً لا يتجاوز عددهم الثلاثة ملايين بأحسن الأحوال. يشكّل هذا التواجد أزمة ميثاقية دستورية مجتمعية سياسيّة ديموغرافيّة عميقة، بعيداً عن كلّ أشكال العنصريّة والتمييز. وقد بدأت الأزمة تتفاقم جرّاء التوصيف القانوني الخاطئ لهؤلاء المهجرين أكان من قِبَل الدولة اللبنانية، أو من قِبَل المجتمع الدولي.

إنّ اعتبار المجتمع الدولي الرعايا السوريين في لبنان الذين هُجِّروا أو تَهجروا أو الذين هاجروا لأسباب اقتصادية، بمثابة «لاجئين» هو أمرٌ خاطئٌ ومخالف للقانون الدولي. أولاً، لأنّ الجمهورية اللبنانية ليست طرفاً في اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين، ثانياً، لأنّ توصيف حالة المهاجرين السوريين لا تنطبق على توصيف اللاجئ. وبالتالي، إنّ هذه الاتفاقية وبروتوكولها للعام 1967 غير مُلزمَين للدولة اللبنانية ولا يجب أن يُرتّبا أيّ آثارٍ قانونية عليها.

أمّا اعتبار الدولة اللبنانية الرعايا السوريين على الأراضي اللبنانية «نازحين»، فهو توصيفٌ قانونيٌّ خاطئٌ بحسب القانون الدولي. فالنازحون هم الأشخاص المشرّدون داخلياً والذين لم يجتازوا حدوداً دوليّة ولكنهم فرّوا من ديارهم لسبب من الأسباب. إضافةً إلى أنّ التوصيف القانوني للرعايا السوريين في لبنان يختلف من فئةٍ إلى أخرى. فبالنسبة للذين هُجِّروا قسراً جراء الحرب، ينطبق عليهم توصيف المهجرين، والذين غادروا سوريا لأسباب اقتصادية بغية العمل وتحقيق أرباحٍ مادية، فينطبق عليهم تعريف المهاجرين الاقتصاديين.

إشكاليّة الاعتراف الضّمني باتفاقية الأمم المتحدة للاجئين

المشكلة الأساس والأهمّ، هي تعاطي الدولة اللبنانية مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وكأنّ لبنان دولةٌ طرفٌ في اتفاقية جنيف للعام 1951. إنّ استمرار التعاون مع المفوضيّة، سيعطي المهجرين السوريين حقوقاً مكتسبة. وفعلياً، إنّ الدولة اللبنانية رضخت ضمنياً لتطبيق هذه الاتفاقية، حيث بدأت الدولة تعتمد مصطلحات الاتفاقية والمفوضية كمصطلحَي «الإدماج» و»العودة الطوعية والآمنة» خلال مخاطبة المفوّضية والمجتمع الدولي، ناهيك عن التنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانية وخطط الاستجابة LCRP التي تنفذها الوزارة.

علماً، أنّ مذكرة التفاهم المبرمة ما بين لبنان ومفوضية اللاجئين في العام 2003 والتي أقرّها مجلس الوزراء والمنشورة في الجريدة الرسمية، تنصّ صراحة على أنّ لبنان لا يشكّل بلد ملجأ لأيّ طالب لجوء، ولا يستطيع إعطاء حقّ الملجأ إلّا بشكل مؤقت، على أن تتعهّد المفوضية بنقل طالبي الملجأ إلى بلد آخر خلال سنة كأقصى حدّ.

وبالتالي، حريّ بالدولة اللبنانيّة وبمفوضية اللاجئين التقيّد بتطبيق هذه الاتفاقية الثنائية التي لا تزال نافذة وواجبة التطبيق. وعليه، يقع على المفوّضية موجب نقل كافّة طالبي حقّ الملجأ إلى دولٍ أخرى وليس دعمهم بغية اندماجهم في المجتمع اللبناني وتوطينهم خلافاً للدستور اللبناني.

عقدٌ إجتماعيٌ سياسيٌ جديدٌ مخالفٌ للدستور

إنّ رضوخ الدولة اللبنانيّة لمفوضيّة اللاجئين وتطبيق الاتفاقية بشكل ضمني، قد يؤدّي في النهاية إلى تنفيذ موجب منح الجنسية للمهجّرين السوريين وتسهيل تجنّسهم، ويجعل الحصول على الجنسية اللبنانيّة حقّاً مكتسباً لكلّ مهجّر، تطبيقاً لأحكام المادة 34 من اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين.

على المستوى القانوني، إنّ توطين الرعايا السوريين وغيرهم يشكّل خرقاً للدستور اللبناني وتدخّلاً بالشؤون الداخلية اللبنانية. إنّ هذا الأمر يتعارض مع الفقرة «ط» من مقدّمة الدستور اللبناني التي تؤكّد على رفض التوطين. إضافةً إلى أنّ هذا الأمر يعرّض لبنان لخلل ديموغرافي يناقض ميثاق العيش المشترك ويشكّل خرقاً للفقرة «ي» من مقدّمة الدستور، التي تؤكّد أن لبنان هو وطن نهائي لجميع أبنائه (فقرة أ).

خطورة الأمر، أنّ هذا الخلل الديمغرافي يؤدّي إلى تغيير هويّة المجتمع السياسي، وبالتالي يفرض على لبنان عقداً اجتماعياً جديداً مناقضاً لاتفاق «الطائف»، وقد يؤدّي إلى استبداله جذرياً. فلا يمكن تطبيق «الطائف» على عقد اجتماعي جديد مناقض لمبادئه الرئيسة وركائزه المنصوص عنها في مقدّمة الدستور اللبناني.

إنّ سعي المجتمع الدولي لتوطين المهجرين السوريين، هو ليس إلّا سعياً لتغيير هويّة لبنان والعقد الاجتماعي اللبناني، وسعياً لتغيير اتفاق الطائف بطريقة ملتبسة وضمنيّة.

إنّ الضغط لتوطين الأشقّاء السوريين في لبنان، ليس إلّا مشروع فتنة سنية - شيعيّة قد تدمّر صورة لبنان، ولا تؤدي إلّا لهجرة باقي اللبنانيين والمسيحيين خصوصاً، وأنّ مخطّط «إطعام الفقراء اللبنانيين» مقابل تجنيس الأشقاء السوريين والفلسطينيين هو توطين بالقوّة، ونزع سلاح «حزب الله» بواسطة المجنّسين أمرٌ لا يستوي، وكأنّ سلاح المقاومة لا يمكن نزعه إلا بحرب أهليّة قد تدمّر لبنان عبر جعله ساحة نزاعٍ مرة أخرى، وكأنّ التعددية تجعل منه أرضاً خصبة لحرب الآخرين على أرضه.

يبدو واضحاً بعد اجتماعات بروكسل، أنّ للمجتمع الدولي الأوروبي تحديداً مصلحة بتوطين الرعايا السوريين في لبنان للحدّ من هجرتهم إلى الدول الأوروبية. أمّا المجتمع الدولي تحت تأثير الولايات المتحدة الأميركية، فيرى أنّ تجنيس الرعايا السوريين بغالبيتهم السنيّة قد يقلب المقاييس الديموغرافية في لبنان، ما يؤدي إلى لجم نفوذ الطائفة الشيعية وبالتالي تقليص دور «حزب الله». فالتبدّل الديموغرافي قد يؤدي حتماً إلى صراعٍ مذهبي يستفاد منه كأداة لضرب «حزب الله» وحلفائه.

أمّا النظام السوري، فهو بموقع المفاوض القوي للبحث بثمن عودة المهاجرين إلى الأراضي السورية. إنّ الامتداد السوري في العمق اللبناني قد يشكّل حماية للنظام في سوريا وورقة رابحة في أيّ مشروع تقسيم جيوسياسي في المنطقة. للتذكير، إنّ «الطائف» كان يهدف إلى انسحاب الجيش السوري وليس لضمّ محافظة سورية جديدة. فهل توطين السوريين في لبنان، قد يؤدّي بهم في المستقبل إلى المطالبة باستقلال ذاتي على النَّسَق الروسي- الأوكراني؟

سياسة دبلوماسية متخبّطة ومتناقضة

هناك معوّقات سياسية ومعوّقات اقتصادية ومعوّقات اجتماعية لعودة المهجرين السوريين. بخصوص المعوّقات السياسيّة، إنّ المجتمع الدولي يضغط باتجاه أن تكون عودة المهجرين السوريين إلى ديارهم طوعيّة، ويشجع على بقائهم في لبنان ويسعى لإدماجهم في المجتمع اللبناني. بالمقابل، إنّ النظام السوري غير مشجع لعودتهم لعدّة أسباب ديموغرافية وسياسية واقتصادية واستراتيجية. وممّا يشجّع على عدم تسريع العودة، الانقسام في الموقف الرسمي اللبناني.

أمّا المشكلة الكبرى، فهي في الازدواجية بالعلاقة ما بين الدولتين اللبنانية والسورية، علماً أنّه ليس هناك من قطيعة دبلوماسيّة ما بين الدولتين وهناك تمثيل دبلوماسي بينهما منذ العام 2008. إنّ عودة المهجرين يجب أن تناقش مع الحكومة السورية كمرجعِ رئيسٍ وأوّلي، إلّا أنّ عدم استقبال الحكومة السورية للوفد اللبناني الشهر الماضي أبلغ دليلٍ على مستقبل الملفات المشتركة، وسيدفع لبنان ثمن مواقفه ضدّ روسيا في الأمم المتحدة، ويبقى غاز الشمال والمهجرون السوريون ورقتين قد تقرّران مصير الطائف والعقد الاجتماعي السياسي الجديد.

(*) محامٍ دولي وأستاذ جامعي