وسيم مكتبي وسامي زغيب وسامي عطالله

أعجوبة: إفلات المشروع الطارئ لشبكة الأمان الإجتماعي من قبضة الطبقة السياسية

لا تعود شوائب نظام الحماية الاجتماعية المعمول به في لبنان إلى عقبات مالية أو فنية أبداً. بل لعقبات سياسية بحتة. فعلى مدى عقود، حاولت الطبقة الحاكمة عمداً تقويض الدور الاجتماعي للدولة لاستغلال أي نقاط ضعف يعاني منها المواطنون. ولعلّ المثال الأوضح على ذلك هو المساعي الحثيثة التي بذلتها للسيطرة على برنامج شبكة الأمان الاجتماعي في حالات الطوارئ (ESSN)، الذي يهدف إلى توفير إغاثة سريعة إلى العدد المتزايد من الأسر المحتاجة خلال الأزمة. في الواقع، بذل السياسيون جهوداً للدفع نحو صرف المساعدات بالليرة اللبنانية، ما كان ليضع الأسر المستفيدة منها تحت رحمة حركة التضخم التي تشهدها العملة الوطنية ويتيح للسياسيين إيداع الأموال بالعملة الأجنبية في مصرف لبنان. كما أنهم سعوا إلى تخفيض الميزانية المخصصة للإشراف على المشروع وتقييد القدرة على إنشاء نظام تنفيذ شبكة الأمان الاجتماعي، ما كان ليؤدي إلى الحدّ من فعالية المشروع بشكل ملحوظ. كما حاولوا التأثير على تصميم قاعدة البيانات المستخدمة لتحديد المستفيدين، بهدف التحكّم باختيار المستفيدين من المساعدات وفقاً لتقديرهم الخاص.

نجح البنك الدولي في إفشال هذه المحاولات، ولكنّ السياسيين اللبنانيين تمكّنوا من المماطلة بالمشروع وتأجيل تنفيذه لعامين متتاليين. إلا أنّ هذا التأخير، الذي عزي بشكل غير دقيق إلى أخطاء إدارية، أجبر الأسر الفقيرة على التوفير في نفقاتها الغذائية والصحية، في حين ارتفعت نسبة اللبنانيين الذين يعيشون في حالة فقر من 55% في أيار 2020 إلى 74% في أيلول 2021. وعوض الانصراف إلى معالجة هذا الواقع، اعتبرت الطبقة الحاكمة برنامج شبكة الأمان الاجتماعي في حالات الطوارئ بديلاً عن الإعانات الحكومية، مستثنيةً المستفيدين منه من البطاقة التموينية – أي من برنامج التعويض الذي لم يتمّ إطلاقه بعد بسبب النقص المزعوم في الموارد المالية. وبذلك، تكون الطبقة الحاكمة قد قوّضت كلاً من هدف هذا البرنامج المتمثّل في تخفيف وطأة الفقر على الناس، والغاية التعويضية للبطاقة التموينية.




سامي عطالله


ما هو برنامج شبكة الأمان الإجتماعي في حالات الطوارئ؟

هو برنامج مموّل بقرض من البنك الدولي بقيمة 246 مليون دولار أميركي ويتضمن تقديم تحويلات نقدية إلى الأسر الأكثر فقراً، ومساهمات تعليمية، وخدمات اجتماعية وتوفير العناصر اللازمة لبناء نظم الاستجابة. كما أنه امتدادٌ للبرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً، البرنامج الأساسي الذي يستهدف الفقر في لبنان والذي قدّم، منذ العام 2011، مساعدات نقدية، وقسائم غذائية، وخدمات اجتماعية إلى الأسر اللبنانية التي تعيش في الفقر المدقع. صُمّم برنامج شبكة الأمان الاجتماعي بحيث يصار إلى تقديم مساعدات نقدية إلى 147,000 أسرة من الأسر الأكثر فقراً، ويوفر الحماية للرأس المال البشري المرتبط بـ 87,000 طفل معرّض لخطر التسرب المدرسي، وتعزيز القدرة الاستيعابية لمراكز التنمية الاجتماعية في البلاد، وبناء سجل اجتماعي وطني – أي قاعدة بيانات شاملة تحدد الأفراد المؤهلين للحصول على الإعانة الاجتماعية.

كيف تمّ تأخير البرنامج؟

قدّم البنك الدولي مقترح المشروع إلى الحكومة في بداية العام 2020، ولكنّ التحويلات النقدية بموجب هذا المشروع لم تنطلق إلا في آذار 2022. وقد ساهمت عوامل عدّة في هذا التأخير، منها إجراءات الإغلاق التي فرضها تفشّي جائحة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت، واستقالة حكومة حسان دياب. إلّا أنّ تدخّل الطبقة الحاكمة الواسع في تصميم المشروع كان العامل الأبرز الذي ساهم في المماطلة بإطلاقه. في الواقع، خضع مقترح المشروع للمراجعة من قبل حكومتين ولجنتين نيابيتين، وجرى التصويت عليه مرتين في الجمعية العمومية منذ إنشائه في كانون الثاني 2020 وحتى إقراره في كانون الأول 2021.

في هذه الأثناء، أجرت الطبقة السياسية ثلاث محاولات لإعادة تصميم وتوجيه المشروع بحيث تبعده عن تحقيق الأهداف المنشودة منه.


وسيم مكتبي


1 - تمرير أموال المساعدات النقدية عبر أيادٍ أمينة

نظراً إلى شحّ العملة الأجنبية في القطاع المالي في لبنان عام 2020، رأت الطبقة الحاكمة في المشروع فرصةً سانحة لمعالجة هذا الشحّ. لذلك، دفعت الحكومة نحو صرف المساعدات النقدية الممنوحة بموجب المشروع بالليرة اللبنانية – بحجة مواءمة المشروع مع «البرامج الإنسانية القائمة في البلاد» وإيداع العملة الصعبة في مصرف لبنان. فلو وافق البنك الدولي على هذا الطلب، لأضعفت الطبقة الحاكمة قيمة المساعدات المقدمة وأحكمت سيطرتها على التحويلات الواردة بالعملة الصعبة.

كما كان ليتسبب التغيير المقترح في كيفية صرف المساعدات التي ستتلقاها الأسر بتخفيض قيمتها الفعلية إلى حد كبير، وبالتالي بتقويض وصول الأسر المستفيدة إلى التقديمات القصوى للمشروع وتحقيق غاياته الأساسية. إنّ صرف المساعدات بالليرة اللبنانية، وإن بسعر صرف تفضيلي، كان ليعرّض الأسر المستفيدة إلى صدمات التضخّم.

من ناحية أخرى، فإنّ إيداع التحويلات الواردة بـ»الفريش» دولار في مصرف لبنان كان ليسمح لحاكمه وللسياسيين الذين يتولى حمايتهم بالتحكّم بكيفية صرف هذه المبالغ وفق تقديرهم الخاص. وإن كنّا سنأخذ العبر من السنوات الثلاث الأخيرة، لاستنتجنا أنهم كانوا لينفقوها إما على دعم تراجعي لشهر إضافي، أو على تدخل في سوق العملات لتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية على نحو مصطنع. في الحقيقية، تعتبر هاتان العمليتان مسؤولتين إلى حد كبير عن استنفاد حوالى 20 مليار دولار من احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية منذ آب 2019.

2 - تقويض المساءلة وتنفيذ المشروع

يولي الدستور إلى المجلس التنفيذي للبلاد مسؤولية التفاوض مع الهيئات الخارجية لصياغة مسودات الاتفاقيات الدولية. وتحال الحالات التي تتطلب فيها الاتفاقيات الدولية تمويلاً، كما في حالة مشروع شبكة الأمان الاجتماعي، إلى مجلس النواب للمصادقة عليها. ولكن، عندما وصل مشروع قانون الاتفاقية المتعلقة بالمشروع المذكور إلى الهيئة العامة في آذار 2021 للتصويت عليه، حاد المجلس عمّا كان يفترض أن يكون عملية روتينية للمصادقة عليه . فخلال الجلسة، مرّرت الأحزاب السياسية الحاكمة نسخةً عن قانون الاتفاقية تضمّنت تعديلات بنيوية على تصميم المشروع لم يوافق عليها البنك الدولي مسبقاً. وقد ركّزت هذه التعديلات على إعادة تخصيص الموارد المالية للبرنامج بحجة تقديم تحويلات نقدية إلى 14,257 أسرة إضافية. ولو لم يعترض البنك الدولي على هذه التعديلات، لكانت أوجدت فائضاً في ميزانية المشروع بقيمة 21,386 مليون دولار على الورق، من خلال:

أ. الحدّ من دور المشرف المستقلّ TPMA.

ب. تخفيض المبلغ المخصص لنظام تنفيذ شبكة الأمان.

ج. تخفيض المبلغ المخصص للوظائف التشغيلية والإشرافية.

ولو اعتمدت التعديلات المقترحة لكان تأثر تنفيذ المشروع سلباً.

أولاً، تضييق نطاق عمل المشرف المستقل المسؤول عن التأكد من تقديم المساعدات على النحو الملائم بحيث تقيّد قدرته على النظر في شكاوى الأسر بشأن التأخير الممكن في تسلّم التحويلات النقدية أو عدمه.

ثانياً، يشكّل نظام تنفيذ شبكة الأمان الاجتماعي أحد أهم عناصر المشروع، إذ يهدف إلى بناء سجل اجتماعي وطني يمكن استخدامه لإجراء عمليات تقييم سريعة لأهلية الأسر للاستفادة من مختلف برامج الإعانة الاجتماعية. لذلك، تتعارض محاولة تعديل هذا المكوّن مع الأهداف الجوهرية للمشروع وتعكس رفض الطبقة السياسية لاعتماد قاعدة موحدة للبيانات تحدّ من سطوتها السياسية على المستفيدين.

ثالثاً، قد يشكّل تخفيض خطوط الميزانيات المرصودة للمهام الإدارية والإشرافية بطريقة عشوائية خطراً على مستوى الإدارة النقدية، ما سيهدد فعالية البرنامج ككلّ .

3 - الإختيار الإستنسابي للمستفيدين

كون لبنان يفتقر إلى قاعدة بيانات موحّدة للإعانة الاجتماعية، كانت الطبقة الحاكمة تمسك بقائمة المستفيدين من أي برنامج يقع في دائرة نفوذها. أي أن هذه الطبقة حاولت، من خلال موقعها السياسي المثالي، التأثير في مرحلة تصميم قاعدة بيانات الأسر المؤهلة للاستفادة من البرنامج، على آلية اختيار المستفيدين بحيث تتم وفقًا لتقديرها الخاص.

يمكن القول إن الخلاف الواقع بين فريق البنك الدولي وبين السياسيين اللبنانيين حول تصميم قاعدة بيانات الأُسر كان الأبرز والأطول مدة. وسعت الحكومة إلى استخدام قائمة الأُسر التي يديرها الجيش اللبناني، والتي اعتُمدت بشكل جزئي في إطار البرنامج الوطني للتكافل الاجتماعي (NSSP) – وهو برنامج مؤقت للمساعدات النقدية أُطلق خلال عمليات الإغلاق التي فُرضت في البلاد في ظل تفشي جائحة كورونا. إلا أنّ هذه القائمة شابها الكثير من الشوائب والمغالطات، إذ كانت تضمّ أسماء مكررة وطلبات مقدمة بأسماء أشخاص متوفين وموظفين في الخدمة المدنية، ما يشير إلى وجود ممارسات زبائنية. ومن ناحية أخرى، اقترح البنك الدولي البدء باعتماد قاعدة بيانات البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً (NPTP)، التي كانت تضمّ 43,000 أسرة مؤهلة، ومن ثمّ معالجة طلبات الأسر الأخرى المسجلة عبر منصة IMPACT - منصّة الحوكمة الإلكترونية الخاصة بلبنان والتي يديرها التفتيش المركزي. بذلك، كان يمكن للدولة اللبنانية إطلاق المشروع، وبالموازاة، تقييم طلبات الأسر الأخرى وإرساء الأسس اللازمة لمنصة IMPACT لاستضافة السجل الاجتماعي الوطني. بعد ضغوط شديدة مارسها البنك الدولي، وافقت الحكومة اللبنانية على إعداد قاعدة بيانات جديدة بالاعتماد على منصة IMPACT في أيلول 2021، بعد أن رفع مصرف لبنان الدعم عن سعر الصرف وسط مماطلة السياسيين في إطلاق البطاقة التمويلية بحجة محدودية الحيّز المالي . كما أشار مجلس النواب في قانون البطاقة التمويلية الذي أّقر في تموز 2021 إلى أنّ الأسر ستقدّم طلباتها للحصول على المساعدة عبر «منصّة» سيتمّ تحديدها في وقتٍ لاحق، ما أتاح استخدام موقع IMPACT في إطار برنامج المشروع الطارئ لشبكة الأمان الاجتماعي. وعليه، أطلق موقع IMPACT منصّة «دعم» بحيث تتمكّن الأُسر من تقديم طلباتها لبرنامجيّ شبكة الأمان الاجتماعي والبطاقة التمويلية على حدٍ سواء.



سامي زغيب


ما هو وضع المشروع حالياً؟

بعد مضيّ عامين على وضعه، نجح المشروع أخيراً في الوصول إلى الأسر الأكثر فقراً. تقيّم الطلبات آلياً عبر موقع IMPACT وتجرى فرق برنامج الأغذية العالمي زيارات ميدانية إلى الأسر المؤهلة في الفرز الأولي للتحقق من أهليتها، علماً أنها تنال المستوى الأمثل من الدعم بما أنّ المساعدات توزّع بالدولار. وبنهاية كانون الثاني 2022، بلغ العدد الإجمالي للأسر التي تقدّمت بطلبات للاستفادة من مشروع شبكة الأمان حوالي 583,000 أسرة، وأطلق برنامج الأغذية العالمي زياراته الميدانية. وفي منتصف آذار 2022، بدأت التحويلات النقدية ترد، على أن تغطّي جميع الأسر المؤهلة لبقية العام 2022 وأن يتم سداد التحويلات المستحقة لجميع الأسر المؤهلة بمفعول رجعي اعتباراً من شهر كانون الثاني 2022. بحلول منتصف شهر تشرين الثاني، أجريت أكثر من 160,000 زيارة ميدانية للأسر، وتلقّت 75,625 أسرة منها المساعدات .

تفادي المخاطر: أهمية تطوير نظام جديد للحماية الاجتماعية

في غياب أي إصلاح لحوكمة أنظمة الحماية الاجتماعية ومجال تغطيتها وأطر تمويلها، سيكون أي برنامج للإعانة الاجتماعية يتمّ إطلاقه بمعزل عنها عرضة لتدخلات الطبقة الحاكمة. فهذه التدخلات تضع الولاء السياسي كشرط أساسي ومسبق لتقديم المنافع الاجتماعية، ما يسهم في تشويه العقد الاجتماعي في لبنان أكثر فأكثر. ومن الممكن إصلاح هذا الوضع وتفادي مخاطر الاقتصاد السياسي في آنٍ واحد. أما الحلّ، فيكمن في الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية التي لم تحرز الحكومة اللبنانية فيها أي تقدم يذكر منذ أن تعهّدت بصورة مبهمة بإقرارها في ايار2022 . ومن بين المزايا التي تقدّمها هذه الاستراتيجية تطوير أنظمة متكاملة للحماية الاجتماعية توفر أرضية للحماية الاجتماعية تدعم الدخل الأساسي للمواطنين في كافة مراحل دورة الحياة وشبكات للأمان الاجتماعي تغطي كلّ من يعيش تحت خط الفقر. ومن هذا المنطلق، يجب أن توضع الإصلاحات المذكورة في هذه الاستراتيجية على رأس سلّم أولويات الأجندة السياسية وأن يعتبر إنجازها شرطاً أساسياً لتحرير الدعم الأجنبي.


(*) من فريق مبادرة سياسات الغد