أوباما أخطأ في استرضاء إيران!

11 : 06

أصبحت العودة إلى استراتيجية الاحتواء، بدعمٍ من نظام ردع واضح وجدير بالثقة، عاجلة أكثر من أي وقت مضى! بعدما تحولت إيران من حليفة إلى عدوة في العام 1978، طبّقت الولايات المتحدة سياسة احتواء واقعية للتعامل معها، بما يشبه المقاربة الأميركية مع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة. لكن بدءاً من عهد أوباما، تراوحت السياسة الأميركية بين الاسترضاء والمواجهة، وأدت في نهاية المطاف إلى وضع متقلّب على نحو خطير. لم تتخذ الاستراتيجية التي نشأت في عهد جورج بوش الإبن طابعاً رسمياً، لكنها كانت ترتكز على ثلاثة أسس: أولاً، فرض عقوبات مكلفة على التقدم النووي الإيراني؛ ثانياً، تقوية حلفاء الأميركيين في محيط إيران، وتحديداً عبر التحالف الأميركي القيّم مع العراق، لمنع أي تهديد إيراني على الأمن العراقي وعلى المكانة الأميركية في الشرق الأوسط؛ ثالثاً، تشجيع الحركة المنادية بالديموقراطية في إيران على فرض نفسها والمطالبة بمكانتها المُحِقّة في حكم البلد.

حين وصل أوباما إلى الرئاسة، بدت استراتيجية الاحتواء المدعومة من نظام ردع قوي فاعلة بدرجة كافية. ولم تنجح الثورة الإسلامية بقيادة آية الله الخميني (كان يُفترض أن تكون ثورة عالمية) في الانتشار خارج إيران، باستثناء لبنان عن طريق حزب الله. في تلك الفترة، تعاون عناصر من الميليشيات الشيعية في العراق مع الإيرانيين، واستُعملت كميات هائلة من العبوات الناسفة وغيرها من الأسلحة الإيرانية في الحرب الأهلية العراقية، لكن تابعت معظم التكتلات السياسية الكبرى في العراق، بما في ذلك الأحزاب الشيعية، التعبير علناً عن معارضتها للتدخل الإيراني في بلدها. عشية الانتخابات الأميركية في العام 2008، هاجمت حكومة نوري المالكي الشيعية في معظمها الميليشيات التي تحظى بدعم إيران وتسللت إلى مدينة البصرة الجنوبية.

بعد بضع سنوات، قامت إدارة أوباما برهان كبير. اعتبر أوباما أن تخفيف العدائية في علاقات بلده مع إيران استراتيجية واعدة، فقرر عقد صفقة مع الملالي. حرر الاتفاق النووي في العام 2015 النظام الإيراني من عقوبات الأمم المتحدة التي كادت تدمّر الاقتصاد المحلي، مقابل فرض حدود موقتة على منشآت أساسية تابعة للبرنامج النووي الإيراني والتزامات مبهمة بالامتناع عن تطوير أسلحة نووية.

كشف أوباما في مؤتمر له في البيت الأبيض عن تفاصيل الصفقة، وسُئِل حينها إذا كانت ستسمح للولايات المتحدة بالتصدي للتحركات الإيرانية التي تزعزع استقرار المنطقة بفاعلية إضافية، إلى جانب معالجة المسألة النووية. بعبارة أخرى، هل يقوي الاتفاق سياسة الاحتواء تجاه إيران أم يضعفها؟ تطرّق أوباما في جوابه إلى نقاط متعددة، فقال: "سيكون من الأسهل علينا أن نتحقق من نشاطات إيران المريبة ونصدّ المجالات الأخرى التي تنشط فيها بما يتعارض مع مصالحنا أو مصالح حلفائنا إذا كانوا لا يملكون قنبلة نووية".تتعدد المشاكل في هذا الجواب. قبل بضع سنوات فقط، سحب أوباما القوات الأميركية من العراق، فقدم بذلك حلفاءه العراقيين إلى إيران على طبق من فضة. تملك إيران الآن جسراً برياً يمتد على طول العراق وسوريا ولبنان وصولاً إلى الحدود الإسرائيلية، ومن المنطقي أن تحاول الاستفادة منه. لا شك في أن التعامل مع إيران كان ليصبح أكثر سهولة لو كانت تفتقر إلى قنبلة نووية، لكن لم يحل الاتفاق النووي هذه المشكلة لأنه أعطى إيران جميع العناصر الأساسية للحفاظ على قدرات إنتاج البلوتونيوم واليورانيوم وتصنيع رؤوس حربية نووية تستطيع تنشيطها خلال أشهر. على صعيد آخر، اعتبر الكثيرون في طهران أن ذلك الاتفاق هو بمثابة استسلام من الجانب الأميركي. لهذه الأسباب كلها، من الطبيعي أن نتوقع تحركات أكثر جرأة من إيران، رغم نوايا أوباما الحسنة، ما يعني زيادة صعوبــــة التعامـل مع "نشاطاتها المريبة" الأخرى.

لكن في العراق تحوّل الدعم الإيراني للميليشيات الشيعية إلى نفوذ يطاول الحكومة العراقية بحد ذاتها. وفي سوريا، رضخ أوباما لمطلب روسيا وإيران بالمشاركة في الحرب الأهلية هناك، وهذا ما جعل انتصار الأسد في نهاية المطاف نتيجة متوقعة. في لبنان، يكاد حزب الله ينهي استيلاءه التام على الدولة. وأدى توسّع "داعش" إلى عودة الولايات المتحدة إلى العراق بعد استراحة قصيرة، لكن بموجب إعفاء يسمح لإيران بمتابعة إخضاع العراق. نتيجةً لذلك، أصبحت الولايات المتحدة أشبه بقوة جوية عميلة لإيران في معركتها ضد "داعش"، ما ساهم في ترسيخ الهيمنة الإيرانية على المنطقة.



لم يكن أوباما يحمل هذه النية طبعاً، لكن سرعان ما تحوّلت استراتيجيته إلى شكل من الاسترضاء. حين وصل الرئيس ترامب إلى الرئاسة، ظن الجمهوريون أنها فرصة مناسبة لإلغاء ذلك الاتفاق المكروه. لذا فرضوا ضغوطاً هائلة على الرئيس كي ينسحب منه، وهذا ما فعله في نهاية المطاف. أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن استئناف العقوبات المتلاشية والتزم بمطالب متطرفة تفوق تلك التي طالبت بها إدارة بوش.

لكن إذا كان الاتفاق الإيراني خاطئاً، هل يمكن تصحيح الخطأ عبر الانسحاب منه بكل بساطة؟ كانت التكاليف التي تكبدتها الولايات المتحدة باهظة، فقد تخلت عن نظام العقوبات الدولية مقابل فرض ضوابط على برنامج إيران النووي الذي تنتهي صلاحيته خلال بضع سنوات، وبالتالي تأجلت المعضلة المتعلقة بطريقة التعامل مع ذلك البرنامج بكل بساطة. يؤدي الانسحاب من الاتفاق حصراً إلى تقريب الموعد الذي تضطر فيه الولايات المتحدة لمواجهة تلك المعضلة مجدداً، لكنها لن تستفيد هذه المرة من جبهة دبلوماسية موحدة. في المقابل، حصدت إيران حداً أدنى من المنافع على الأقل عبر رضوخها لنظام محدود من الرقابة (لا مواقع عسكرية، لا عمليات تفتيش في أي مكان وزمان، صلاحيات "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" محصورة بمنشآت محددة).بالتالي، لم يكن الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني يعني عملياً أن الولايات المتحدة بدأت تعود إلى استراتيجية الاحتواء المدعومة من نظام ردع فاعل. بل إن ذلك الانسحاب أوحى بتطبيق سياسة المواجهة. لكن هل التزمت الإدارة فعلاً بكسب هذا الرهان؟ لا تتردد سياسة ترامب الخارجية، التي وصفها الصحافي ماكس بوت في "واشنطن بوست" بالسياسة "الانعزالية العدائية"، في نشر القوات الأميركية في الخارج، لكنها تقاوم الالتزامات الخارجية وتستعمل معايير مزدوجة أحياناً مع الحلفـاء الذين تحتاج إليهم لضمان نجـاح أي استراتيجية مواجهة.تُعتبر طريقة تعامل الإدارة الأميركية مع العقوبات خير مثال على ذلك. أدت العقوبات إلى تخفيض عائدات النفط الإيراني بدرجة كبيرة وترافقت مع آثار كارثية أيضاً. لتخفيف أثرها على أسعار النفط العالمية، عمد حلفاء الأميركيين في الخليج، على رأسهم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، إلى استبدال الإمدادات الإيرانية المفقودة. كانت إيران محقة حين اعتبرت هذه الأحداث كلها جزءاً من حرب اقتصادية ضدها، فردّت في البداية عبر شن هجوم على شحنات نفطية سعودية وإماراتية، ثم هاجمت منشأة كبرى لإنتاج النفط في المملكة العربية السعودية، واستهدفت أخيراً طائرة أميركية بلا طيار. لكن بالكاد ردّت الولايات المتحدة على هذه الاستفزازات كلها، وهذا ما دفع الكثيرين في السعودية والإمارات إلى التفكير بإمكانية اتخاذ موقف أكثر حيادية تجاه إيران حفاظاً على أمن بلدَيهم.

لم تردّ الولايات المتحدة بقوة إلا حين نظمت إيران علناً سلسلة من الاعتداءات على السفارة الأميركية في بغداد ومنشآت أخرى في العراق، وأسفرت عملياتها عن مقتل شخص أميركي. من المستبعد أن تعمد الحكومة الإيرانية إلى قتل أميركي آخر وتعترف بقتله علناً في أي وقت قريب. لكن هل سيكون ترسيخ هذا الخط الأحمر كافياً لدعم نظام العقوبات متعددة الجنسيات أم أنه سيضمن مستوى الاحتواء اللازم لـتجديد الاستقرار في المنطقة؟

تتوقف أي فرصة لاحتواء إيران على تقوية نظام التحالفات الإقليمية الذي تستفيد منه الولايات المتحدة، والأهم من ذلك هو تجديد التحالف الأميركي مع العراق. قد لا يدرك الأميركيون أهمية هذه الخطوة، لكنّ إيران تفهمها جيداً. لهذا السبب، صعّدت طهران الوضع في الأسابيع الأخيرة وانتقلت من شن اعتداءات على حلفاء الولايات المتحدة الخليجيين إلى استهداف المنشآت الأميركية في العراق مباشرةً. ولهذا السبب أيضاً، اختارت أن تهاجم منشآت فيها عناصر أميركيون في العراق رداً على مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني. إذا كانت إيران تستطيع طرد الأميركيين من العراق وإجبار حلفائهم الآخرين في الخليج على اتخاذ موقف أكثر حيادية، فيمكنها أن تهيمن على معظم مناطق الشرق الأوسط أيضاً، بغض النظر عن حجم القوات الأميركية في المنطقة. في هذه الحالة، ستكون خسارة سليماني مربحة لها أكثر مما يظن الكثيرون.

ربما أصبحت إيران اليوم أكثر تردداً في قتل الأميركيين. لكن إذا كانت لا تخاف من تحدي المصالح الأميركية بطرقٍ أخرى، من المتوقع أن تزيد الأوضاع خطورة في الشرق الأوسط خلال الأشهر المقبلة، حين تجد إيران أساليب جديدة لإجبار الولايات المتحدة على الاختيار بين سياسة الاسترضاء وشن حرب لا يريدها أي أميركي. لذا ستكون العودة إلى استراتيجية الاحتواء المدعومة من نظام ردع واضح وجدير بالثقة خطوة عاجلة أكثر من أي وقت مضى!


MISS 3